المراسل الغامض وقصص أخرى غير منشورة
لوك فريس – ترجمة: كامل عويد العامري
في عام 1978، نشرت دار غاليمار كتابًا صغيرًا بعنوان “اللامبالي” (L’Indifférent). كان فيليب كولب، محرر مراسلات بروست، قد اهتدى عبر الرسائل إلى هذه القصة في مجلة تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، كانت قد طواها النسيان، على الأقل بالنسبة للقراء. لكن الكاتب نفسه كان يتذكرها جيدًا، وذلك عندما شرع لاحقًا في تأليف جزء “حب سوان” من المجلد الأول لروايته “البحث عن الزمن المفقود”، والمعنون “جانب منزل سوان”.
لكن الحالة اليوم أكثر خصوصية، إذ يتعلق الأمر بسلسلة من القصص القصيرة كُتبت في المدة نفسها التي كُتبت فيها “اللامبالي” (L’Indifférent)، وهي فترة “المسرات والأيام” (Les Plaisirs et les Jours)، لكنها لم تُنشر قط،* فقد احتفظ بروست بمخطوطاتها، التي كانت على شكل مسودات أولية، ضمن أرشيفه الخاص من دون أن يذكرها لأحد، على الأقل وفقًا لجميع الوثائق المعروفة لنا اليوم.
إذن، ماذا تحتوي هذه القصص؟ ولماذا لم يتحدث عنها لأحد؟ ولماذا كتبها أساسًا، في هذه الظروف؟
على الرغم من أنه من المؤكد أن جميع الألغاز لا يمكن حلها على نحو كامل، إلا أنه يمكننا إحراز تقدم كبير في فهمها من خلال المواضيع التي تتناولها هذه النصوص، فجميعها تقريبًا تتناول مسألة المثلية. بعضها، شأنها شأن نصوص معروفة سابقًا، ينتقل بالمسألة التي تشغل بروست إلى المثلية النسائية. والبعض الآخر يتناولها مباشرةً. هذه القصص، التي كانت صريحة جدًا، وربما فاضحة جدًا في ذلك الوقت، اختار مؤلفها الشاب أن يبقيها سرًا. لكنه كان قد شعر بالحاجة إلى كتابتها. إنها تشكل، وكأنها “يوميات حميمة” شبه مقروءة بوضوح، لم يفصح عنها الكاتب لأي أحد.
إن ما كان يمكن أن يثير الفضيحة في عصر بروست، بالنسبة لبيئته العائلية ومجتمعه، هو مجرد وجود المثلية. فهذه القصص لا تحتوي على أي شيء بذيء أو مبتذل يثير حب التلصص. بل هي تتعمق، عبر طرق متنوعة على نحو استثنائي كما سنرى، في مشكلة المثلية النفسية والأخلاقية. تكشف هذه القصص عن نفسية متألمة أساسًا، إنها لا تقتحم خصوصية بروست؛ بل تقدم فهمًا لتجربة إنسانية.
صدرت هذه القصص من الأرشيف الذي جمعه برنار دو فالوا، الذي وافته المنية في يناير 2018. وهي تتطلب القليل من التوضيح التاريخي لتبيان سبب بقائها حبيسة الأدراج من دون نشر طوال هذا الوقت، وفي أي سياق كتبها بروست أو وضع مسوداتها، ثم أخفاها نهائيًا عن أعين الجمهور وحتى عن أقرب الناس إليه.
لقد كان هناك زمن، بات منسيًا اليوم، حيث كان يُعتقد عند إلقاء نظرة على مسيرة مارسيل بروست الأدبية، أن هذا الكاتب قد عاش حياة منقسمة إلى شطرين: شباب قضاه في الصالونات، مزهوا بأناقته، ثم سن النضج الذي كرسه للتطوير في عمل دؤوب على عمل أدبي عظيم، لم يكد يجد الوقت لرؤية اكتماله، بسبب وفاته وهو في الحادية والخمسين من عمره.
مارسيل بروست، مؤلف “البحث عن الزمن المفقود”، هذا الصرح في الأدب الفرنسي، والذي يُعد إرثًا عالميًا. أدرك المعاصرون قيمته منذ النشر المتتابع للمجلدات الأخيرة، وصولًا إلى عام 1927. لكن تقييم النطاق الكامل للرواية المتسلسلة قد أُرجئ إلى وقت لاحق، فقد كانت أوسع وأغنى من أن تُستوعب دفعة واحدة. ومع ذلك، فإن مؤلفها قد توفي وهو منكبّا على عمله، في عمر بلزاك نفسه وللأسباب نفسها تقريبًا. ألم ينتظر، من دون اكتراث تقريبًا، ومن دون أن يكتب شيئًا يذكر، مثلما فعل بطل “البحث عن الزمن المفقود” حتى الوصول إلى “الزمن المستعاد”، بداية تدهوره الجسدي ليشرع في هذا المشروع الأدبي الخارق؟
فماذا كان مارسيل بروست ليكون بدون “البحث عن الزمن المفقود”؟ إن عمله الشبابي الصغير، “المسرات والأيام”، الذي صدر في نهاية القرن الماضي، يدعو إلى طي صفحة القرن العشرين لكي تظهر فجأة العبقرية الأدبية لهذا العمل العظيم. وإن ترجماته لجون راسْكِن Ruskin. لا تخلو من صلات بالعمل الرئيس الذي سيتبعه، لأنها تركز على الكاتدرائيات والقراءة. لكن لا شيء أكثر من ذلك. فهو كتاب غير متجانس، وكاتب مترجِم.
بدأ تيار التغيير في منتصف القرن بالضبط. في عام 1949، عندما نشر أندريه موروا كتابًا بعنوان “البحث عن مارسيل بروست” (À la recherche de Marcel Proust) لدى دار هاشيت (Hachette)، والذي أتاح لنا استنشاق الأجواء التي تطور فيها الروائي حتى وصوله إلى عمله العظيم. وقد استقى موروا كاتب السيرة الذاتية من المراسلات تصريحات تشير إلى أن هذا “المُعجز” المزعوم في عالم الأدب وفي ساعاته الأخيرة، كان دائمًا وباستمرار مهتمًا بالكتابة. وقد التقى موروا بشاب حاصل على شهادة التأهيل في التعليم العالي، هو برنار دي فالوا، الذي كان يرغب في إعداد رسالة دكتوراه عن بروست، إذا وافقت جامعة باريس على ذلك. وفي إطار أبحاثه الخاصة، قدمه إلى ابنة أخت الكاتب، سوزي مانت-بروست، التي كانت مكرسة لذكرى مارسيل بروست، تمامًا مثل والدها الراحل.
حتى قبل أن يفتح أرشيف العائلة، ومن ثم التنقيب في مصادر كتالوجات المبيعات، كان برنار دي فالوا متشككًا في إمكانية -حتى لو كانت مقبولة عمومًا- تأليف عمل أدبي ضخم دفعة واحدة بعد شباب يتسم بالخمول التام. وبالفعل، وبعيدًا عن الأعمال التي سبقت “البحث عن الزمن المفقود”، عن كونها أعمالًا ثانوية، فإنها تكفي للدلالة، لمن لديه حس التوجهات الإبداعية، على تطور مستمر لدى بروست ما قبل “بروست”، مما يوحي بأن مرتاد الصالونات لم يكن يشبه شارل سوان على الإطلاق، بل كان منهمكًا في تساؤلات مكثفة حول ما يمكن أن يكتبه.
في هذا الضوء، فإن الكتابات التي سبقت “البحث عن الزمن المفقود”، بدءًا من “المسرّات والأيام” (Les Plaisirs et les Jours) عام 1896، وصولًا إلى ترجمته لـ “إنجيل أميّن” (La Bible d’Amiens) عام 1904 وترجمته لـ “سمسم والزنابق” (Sésame et les lys لجون راسكن عام 1906،(1)، لا تبدو على الإطلاق، كفتات للعمل العظيم، بل تحتوي على ثراء من التجارب الأدبية. إنها بمثابة مختبرات، فالنصوص فيها تنبض كالمادة المنصهرة. ومع ذلك، فإن تواريخها متباعدة جدًا بحيث لا يمكن تخيل أن الكاتب الناشئ يقطع أبحاثه وتساؤلاته، مؤجلًا استئنافها في كل مرة إلى عام آخر إذا سنحت الفرصة. بين هذه الإنجازات المعروفة، يوجد فراغ، فراغ يعزى بالتأكيد ليس إلى تقاعس المبدع، بل إلى جهلنا.
هنا بالضبط، ظهرت أرشيفات عائلة بروست (التي لم تُودع في المكتبة الوطنية إلا في عام 1962)، تحت أنامل هذا الباحث الذي يتمتع بأساليب ومثابرة أمين الأرشيف، وكشفت عن أوراق غير معروفة سرعان ما تزايدت. إنها رواية عظيمة في أجزاء متفرقة، ومن المفارقات أنها كُتبت بضمير الغائب على الرغم من قربها الشديد من سيرة المؤلف الذاتية، ويمكن تصنيف حزم أوراقها باتباع التسلسل الزمني لحياة الشخصية التي ستمنح العمل بأكمله عنوانه: جان سانتي (Jean Santeuil). هذه الرواية الكبرى التي أعيد تجميعها، ونُشرتها دار غاليمار عام 1952، بمقدمة كتبها أندريه موروا. وتُظهر الرسائل والأوراق المحيطة بها بأنها أُلفت أساسًا بين عامي 1895 و1899. وبعيدًا عن العودة إلى الخمول، كان بروست قد انكب على تأليف رواية عظيمة بينما لم تكن مجموعة “المسّرات والأيام” (Les Plaisirs et les Jours) قد صدرت بعد. واستمر في ذلك فورًا ومن دون كلل، لأن الرواية، بكل أوراقها المصنفة والمرتبة، ضخمة جدًا، على الرغم من أنها غير مكتملة.
إذًا، هذا هو الجسر الواصل بين “المسرّات والأيام” (Les Plaisirs et les Jours) وجون راسكن. ولكن الآن، تظهر أوراق، ودفاتر أخرى. تقع هذه الدفاتر على عتبة “البحث عن الزمن المفقود”، حوالي عام 1908، وتكشف أن هذه السلسلة الروائية وُلدت في الوقت نفسه الذي وُلد فيه مقال جدلي، ولكنه قوي الحجة فلسفيًا، كان موجها ضد منهج سانت بيف (Sainte-Beuve) البيوغرافي. كان بروست يفكر أحيانًا في فصل هذا المقال عن مسوداته ونشره على نحو منفصل. لكن حقيقة المسودات المذكورة مختلفة تمامًا: إنه مقال ورواية في آن واحد.
هذا العمل الهجين يربك التصنيفات النقدية، لكنه لا يربك على الإطلاق برنارد دو فالوا. لقد أعاد فالوا بالفعل تفسير كتاب “”المسرّات والأيام”، وهو كتاب مارسيل بروست الذي غالبًا ما يُنظر إليه على أنه مجموعة متفرقة من النصوص وليست عملًا متكاملًا، خاصة بالمقارنة مع تحفة بروست “البحث عن الزمن المفقود”، وإنه لا يملك وحدة إلا في تجليده. على عكس ذلك، اعتبره فالوا مجموعة متماسكة، غنية ومتنوعة بالتأكيد، ولكن كل شيء فيه مترابط وضروري، وكل شيء يمهد للمرحلة التالية. لذلك، فإن مكتشف كتب بروست الجديدة لم يشعر بالحرج من هذا العمل الهجين الذي هو عبارة عن محاولة في النظرية الأدبية تتحول إلى رواية، حيث يختلط دحض سانت بيف المنهجي باعتبارات حول شخصيات بلزاك في رواية “آل غيرمانت” (les Guermantes).
هذه المجموعة، التي لم يُعد ترتيبها بناءً على أحكام القراءة المسبقة، أخرجها [برنار دو فالوا] إلى النور في عام 1954، تحت عنوان “ضد سانت بيف“، وهو عنوان كان بروست قد اقترحه في وقت ما في رسائله في ذلك الوقت. من المفارقات، كما سيؤكد لاحقًا، أن الكشف عن هذا الكُتيّب الذي كتبه بروست ضد النقد البيوغرافي (السير ذاتي)، كان في وقت بدأ فيه القرن يولي اهتمامًا متجددًا ببروست من منظور السيرة الذاتية! لكنه كان توقيتًا مختارًا بعناية، لأنه خلال تلك السنوات نفسها، بدأ عصر التاريخ الأدبي، الذي كان يتناول الكُتّاب من خلال إعادة وضعهم في سياق ما يحيط بهم (قراءاتهم، وبيئاتهم، ومدارسهم الأدبية، وبالطبع جميع ظروف حياتهم)، في التراجع لصالح مدرسةٍ كانت تطالب بقراءة الأعمال بذاتها، بالنظر إلى بنيتها الداخلية. يا لها من فرصة عظيمة أن تحظى بتأييد مارسيل بروست! ومن دون أن ينضمّ إلى هذا التيار (المدرسة النقدية الجديدة)، استخلص برنار دو فالوا من مقال بروست الذي كشفه للجمهور، الدرس الرئيس، متسائلا في محاضراته السبع عن مارسيل بروست: هل حياة بروست مثيرة للاهتمام إلى هذا الحد؟ ويجيب بوضوح “بالنفي”. مؤكدا على أن الأهم هو العمل الفني بحد ذاته، وليس تفاصيل حياة المؤلف الشخصية.
لقد تابع برنار دو فالوا، الرائد في بحثه البروستي مهمته، التي كان من الممكن أن تكون أطروحته في الدكتوراه. ويمكننا أن نخمن أنه لو وافقت الجامعة على ذلك، لكان موضوع الأطروحة “التطور الإبداعي لبروست حتى البحث عن الزمن المفقود” (l’évolution créatrice de Proust jusqu’à la Recherche).. ومن هذه الأطروحة، التي لم تر النور أبدًا، والتي لم تُستكمل على الأرجح بعد الإصدارين الرئيسين لأعمال بروست اللذين فتحا عالم النشر الكبير أمام مكتشفهما، كُتب منها جزءان بالكامل، وقد قرأتهما حاشية برنار دي فالوا الفكرية. وإذا كان الجزء الأول قد فُقد على ما يبدو، فإن الجزء الثاني، الذي أصبح ويا للأسف هو الثاني، يشكل بحثا مستقلًا تمامًا، نشرته دار (Les Belles-Lettres) تحت عنوان” بروست قبل بروست (Proust Avant Proust)”. إنه بحث علمي، ولكن فيه يندرج العلم تحت قلم يقظ، كما ينبغي أن تكون الأطروحة مثالية، كما هو الحال في تلك الأطروحات التي تتحول إلى كتب خالدة. إنها دراسة لم تضعف أصالتها وحداثتها اللافتة بعد أن تُركت في سبات لجيلين قبل أن تُلفت انتباهنا إليها اليوم.
لأن المدخل إلى كتاب “المسرّات والأيام” يتغذى من هذه المحفوظات الواسعة، التي يدير مصنفها (برنار دو فالوا) تفاصيلها الدقيقة كعازف على آلة الأرغن، فهو على غرار بروست الذي ينتقد سانت بيف، و(يا للمفارقة التي لا ينبغي إغفالها هنا) فإن دو فالوا مثل سانت بيف في الواقع: يدرك أن سيرة المؤلف الذاتية لا يجب أن تكون غائبة عن قراءة أعماله، بل سيرة ذاتية داخلية، كان قد أسماها أفضل معاصري بروست بـ “السيرة النفسية، وهذه السيرة النفسية تسمح بإدراك في المجانية الظاهرة للظروف المعاشة، المنظور الثري للبُنى التي هي في طور التكوين”.
إنها النظرة البنيوية التي يطبقها برنار دي فالوا على القصاصات التي تبدو متباينة والمجمعة في كتاب “المسرّات والأيام”، ليرى فيها بحثًا أدبيًا واحدًا، ومحاولة أدبية –ما يمكن تسميته، فيما يخص كاتبًا شابًا، “البحث عن صوته “- وهو بحث صعب للغاية لدرجة أنه لابدّ من سلوك مسارات مختلفة عديدة لتحقيق التقدم نحو الهدف نفسه. فضلا عن ذلك، فإن الناقد يدفع ببصيرته إلى أقصاها لدرجة أنه لا يكتفي بتحديد ما يهيئ ولو من بعيد في الكتابات المبكرة لظهور البحث عن الزمن المفقود، بل يذهب إلى حدّ الإشارة إلى مواقف الكاتب التي لم نعد نراها مرة أخرى في أعمال بروست اللاحقة، لأن هذا “لن يحدث أبدًا مرة أخرى”، إنما حدث ذلك لـ “مرة واحدة فقط” لتكشف لنا الكثير عن الظروف التي وصل فيها بروست إلى أوج نضجه.
وبينما كان الباحث يفكر في هذه البنى على الأمد البعيد، في الوقت نفسه الذي فيه كان يجرد ويصنف المحفوظات، عثر على صفحات مخطوطة حول كتاب ”المسرّات والأيام“ لم تكن قد أدرجت في مجموعة 1896، ولم تنشر في المجلات التي كانت تصدر في ذلك الوقت، ولكن بعضها ظهر في فهارس المحتويات بخط يد المؤلف التي كانت أمامه، وأثناء التحضير لهذا الكتاب الذي أسماه بروست أولًا “قلعة ريفيون“ في إشارة إلى قصر السيدة لومير الريفي في إقليم المارن حيث ألّف العديد من هذه النصوص بالتعاون الوثيق مع رينالدو هان، وتولى نقل أو إضافة أو حذف بعض الفقرات، تمامًا كما فعل غيوم أبولينير عند تأليف مجموعته الشعرية “كحول” (Alcools) عام 1912.
هذه النصوص النثرية التي كانت على أوراق منفصلة هي قصص قصيرة، كُتبت في الوقت نفسه الذي فيه كُتبت القصص المعروفة، ولها صلات منطقية بينها. ولكن عند قراءتها منفصلة، كما تعامل معها مؤلفها في النهاية، فإنها تتحدث أيضًا بلغة خاصة، وكونها سلسلة من النصوص غير المنشورة، يعالج جزء من دراسة برنار دي فالوا هذه المسألة تحديدًا، هذا الجزء نشره جان كلود كازانوفا على نحو مسبق في العدد 163 من مجلة “كومونتيرCommentaire”، في خريف 2018، تحت عنوان “السر والاعتراف”. لأن هذه هي العقدة، ولكن أي عقدة بالضبط؟
تبين الكتابات التي تركها بروست على الهوامش أو استبعدها جانبًا، بينما كان يُعد مجموعته “المسرّات والأيام”، أن هذه المجموعة المذكورة كان يمكن أن تُشكل كتابًا أهم بكثير لو صدرت. ولكن لو كان مؤلفها الشاب قد ضم جميع النصوص التي أعيد نشرها، بصيغتها النهائية في كتاب (المراسل الغامض وقصص أخرى غير منشورة) الذي صدر عام 2019 عن دار Fallois، لكان تصوير المثلية هو الموضوع الرئيس للعمل من البداية إلى النهاية.
لم يرغب بروست القيام بذلك، لا شك بسبب ما كان سيبوح به عن نفسه (وهو بوح لم يعد خافيا بالنسبة لنا)، وربما لأن بعض هذه النصوص كان بحاجة إلى أن يكتبها لنفسه أكثر من نشرها للآخرين، وربما أيضًا لأن الكاتب كان يرغب في الحفاظ على تنوع متعمد ضمن مجموعته؛ وربما أخيرًا لأنه كان يشك في جودة ونجاح النصوص أدبيا، التي استبعدها في نهاية المطاف.
كان بروست، الشاب والكاتب اليافع، يتناول المثلية من زاوية المعاناة واللعنة. لا يمكن إلقاء اللوم بالكامل على عصره في هذا الموقف، لأن رؤيته هذه تتعارض تمامًا مع رؤية معاصره أندريه جيد، فجيد، الهادئ والأناني، لم يُحط اعترافه بالمثلية بهذه المأساوية البروستية، بل ربطها بسعادة حيوية.
وقد نتج عن هذا اختلاف آخر: فبروست كان يعيش ممزقًا بين الكتمان والاعتراف، ويضع نظامًا متنوعًا من التحويلات والتأويلات. بينما كان جيد يهدف إلى التعبير عن “الأنا” مباشرة. وقد كتب جيد في يومياته بعد زيارته لبروست عام 1921: “عندما قلت له بضع كلمات عن مذكراتي: “يمكنك أن تروي كل شيء”، صرخ قائلًا: “ولكن أبدًا بشرط ألا تقول: أنا. وهذا لا يناسبني” (يوميات، باريس، غاليمار، “مكتبة البلياد”، المجلد الأول (1887-1925)، 1996، ص 1124).
في سياق كهذا، لن يقول بروست “أنا” (je) أبدًا. لكن السرد بضمير المتكلم من قِبل القبطان هو الأقرب إلى تعبير مباشر وشخصي. إننا نرى بوضوح لم يسبق له مثيل، في هذه القصص القصيرة المستبعدة (من أعماله الرئيسة)، كيف تتطور آلية متكاملة من الإسقاطات والخطابات غير المباشرة، بدلًا من السرد المباشر بضمير الـ”أنا”، فالمأساة تدور بين امرأتين (مع انحياز السرد إلى جانب “البريئة”، لكن “المذنبة” تبقى بريئة أيضًا في قصة “المراسل الغامض”. أما المأساة الحاسمة بالنسبة للمراهقة فتنتقل إلى مرحلة “نهاية حياة” سابقة لأوانها، والتي تعد مصدرًا لـ”نهاية العالم” (apocalypse)، بالمعنيين المزدوجين: كشف عن نهاية الأزمنة بالنسبة للكائن، وفعل الكشف المتضمن في الفعل اليوناني “apocalyptic”، وتتحول معاناة الشخص المحكوم عليه بعدم الحصول على حب من يُحب إلى عالم موسيقي، كما يتضح في قصة “بعد سيمفونية بيتهوفن الثامنة”، أو تتجلى هذه المعاناة أيضًا في وضع بطلة تدرك أنها محكوم عليها بالمرض لكنها تقرر أن تعيش احتضارها بلا مبالاة، كما في قصة “بولين دي إس Pauline de S” -مما يعكس ربما مقاربة بروست نفسه للمرض-، أو تتجسد هذه المعاناة خارجيًا في هيئة قط-سنجاب يرافق المتألم، سواء في منزله أو في العالم، من دون علم الآخرين كما في قصة “وعي حبه”. وفي قصة “هبة الجنيات” Don des fees، يُوصف بأنه “مستسلم” (résigné)، مما قد يشير إلى قبول القدر أو الاستسلام لمعاناة معينة.
لكن التضمين، عندما يحمل هذا العبء الشخصي والعاطفي الثقيل، ليس سهلًا. فالراوي، الذي يفوضه بروست لسرد القصة، يربك الأمور. سنرى كيف تتداخل وتتبادل أدوار فرانسواز وكريستيان في مخطوطة “المراسل الغامض” إن قصة “هبة الجنيات”، وهي قبول المعاناة مقابل الحصول على الكثير من الصفات، تُقبل بمزيد من الاستسلام والتردد أكثر من الاقتناع، [هذه الحكاية الخيالية شبه المقلوبة تروي ما قالته الجنيات الطيبات حول مهد من كان قدره المعاناة بسبب فرط الحساسية. وهي تبدو ما يشبه الخطاب الداخلي لـ”مارسيل بروست” الشاب، شديد الحساسية الذي يستشري فيه المرض: حيث تبدي الجنية التنفيس عن ميثاقها الذي قبلته على مضض أمام مثل هذه الحياة].(2). أما الحيوان السري، الذي سيؤنس الشخص الذي يعلم أنه لن يُحبّ بالمقابل طوال حياته، فيجلب عزاءً لا يمحو الفشل، التناقض لا يحلّ.
من الملاحظ أن الأخلاق المسيحية، وتحديدًا الكاثوليكية، تُلقي بثقلها على هذه التساؤلات على نحو لم يعد يحدث بالقدر نفسه من المباشرة لاحقًا. إن ما قرأناه في مجموعة “المسرّات والأيام”، كما نُشرت، يقلل من الاهتمام الديني ليصبح مجرد لمسة سطحية من الغموض الذي تُحيطه كآبة منحلة بصبغة “نهاية قرن” لكن القصص التي استُبعدت كانت أكثر إلحاحًا. فكريستيان توشك أن تموت من الهزال بعد أن احترقت صمتًا بحبها لصديقتها فرانسواز. تسأل فرانسواز إن كان تحقيق رغبة كريستيان سينقذها. فيجيبها مرشدها الروحي بأن ذلك يعني أن المرأة المحتضرة (التي قُدمت له كشخص يحتضر) ستخسر في لحظة التضحية بحياتها كلها استجابةً لمُثُل النقاء. هنا الموقفان متناقضان جذريًا: فمن حيث القيمة المطلقة، لا يمكن إبطال أي منهما.
لم يعد الكاتب الشاب الذي كتب هذه القصص القصيرة يتطرق بهذه الحدة أبدًا، عندما أصبح روائيًا، إلى مقولة “تذكر الموت” (memento mori) التي تميز الخطاب الكلاسيكي. ولم يعد يواجه الإله الخالق على نحو مباشر، إلا من خلال استخدام صور لتحديد ماهية الإبداع الفني، ليسأله عن السبب. هنا، الذات المتألمة، والمبعدة عن عالم الحب، تصرح بمقولة شخصية للغاية: “مملكتي ليست من هذا العالم”؛ وتتساءل أين تجد هذا الوعد بالسلام على الأرض للبشر ذوي الإرادة الصالحة. إن الحوار بين الأموات في قصة “في الجحيم” يضع مسافة بينه وبين التقارب المخيف بين كل هذه الأسئلة، لكن طابع الجحيم القديم لا يمحو احتمال الجحيم والإدانة المسيحية، التي يحاول أحد أبطال القصة درءها بتسمية الشعر والشعراء، تمامًا كما حدث مع الخطيئة الأولى، “الخطيئة السعيدة” (felix culpa) مرة أخرى.
عندئذٍ، وفي هذه المرحلة المبكرة من كتابات بروست تولت شخصيات الأطباء المهمّة، والذين يقعون في منتصف المسافة بين أدريان بروست، والد الكاتب، والطبيب دو بولبون المستقبلي، الشخصية الخيالية في رواية “البحث عن الزمن المفقود”، لعل هذه الشخصيات تفتح طريقًا نحو ما سيطلق عليه برغسون، بعد وفاة بروست، بـ “مصدري المبادئ الأخلاقية والدينية”. وكان طبيب كريستيان، عندما أشار إلى أن مريضته ستموت من الهزال من دون وجود أي مرض عضوي، قد سبق فرويد بقليل في زيارته لشاركو Charcot في مستشفى سالبتريير الجامعي وتحضيره لكتاب “دراسات عن الهستيريا”. وتقدم قصة “ذكرى قبطان” حالة شخص يروي قصته من دون أن يدرك مثليته، حتى وهو يرويها، وبالتالي لا تُذكر في سرده على الإطلاق. أما قصة “بعد سيمفونية بتهوفن الثامنة” فتدعونا للتفكير في العلاقة بين تنفس مريض مصاب بالربو وبين إشغاله للمكان. وأخيرًا، تحفل هذه القصص القصيرة بالعديد من الرموز والصور ذات المعاني العميقة.
لكن السيكولوجية المثلية، أو المثلية الجنسية كما تُرى من الداخل، سواء على نحو مباشر أو من خلال تضمين المعنى، لا تشكل بأي حال من الأحوال الموضوع أو الهدف الوحيد لهذه القصص بالنسبة لنا. بل نرى فيها الكاتب وهو في بداية مشروعه الأدبي، الذي سيتشكل تدريجيًا وعلى نحو متواصل حتى الوصول إلى رواية “البحث عن الزمن المفقود”.”
إن طالب الفلسفة ليس ببعيد هنا؛ بل هو معاصر تمامًا، فالعزاء من عدم الشعور بالحب، الذي يتجلى في عالم الموسيقى (في قصة “بعد سيمفونية بيتهوفن الثامنة”، يبدو بالفعل مستمدًا من ميتافيزيقا الموسيقى لشوبنهاور، وأن القبطان، يستعيد في ذاكرته الشاقة، التمييز الفيشتي [نسبة إلى يوهان غوتليب فيشته -م) بين الأنا واللاأنا، وإن تساؤله الذي لا يزال غير ناضج عن إعادة خلق الماضي في الفكر يحمل في طياته مستقبلًا عظيمًا، تمامًا مثل البحث عن تعريف “الجوهر”. هذه الذكريات المترسخة في المعرفة الفلسفية أصبحت الآن خفية، وسيعرف راوي “البحث عن الزمن المفقود” كيف يجعلها غير قابلة للتمييز في نثره، الذي سيظل مع ذلك يتغذى عليها.
وكما هو متوقع، فإن بعض الملاحظات، حتى العابرة منها، ليست أقل من نقاط انطلاق لحلقات كاملة من رواية “البحث عن الزمن المفقود” التي ما زالت بعيدة. سنرى هنا دور الرسائل في إعادة إحياء الشخصيات، وتأثير بوتيتشيلي في فهم الحبيب، والبيتين الشعريين لفيني Vigny اللذين سيُستخدمان كعنوان فرعي لـ”سدوم وعمورة” في قصة “في الجحيم”. ربما نجد أيضًا تفسيرًا مبكرًا لتحية سان-لو Saint-Loup الفاترة في نهاية فصل دونسيير في رواية “جانب غيرمانت”، ونسخة أولية من الجدل الكبير حول المثلية الجنسية بين شارلوس وبريشو (هنا كايلوس ورينان يتحاوران في قصة “في الجحيم”) في رواية “الأسيرة”. فضلا عن ذلك، هناك ما ستجيب عنه لاحقًا مقولة الدكتور دو بولبون في “جانب غيرمانت” حول أمراض العباقرة المبدعين، ونسخة أولى من النزهة المنفردة في غابة بولوني التي ستكون خاتمة لـرواية “جانب سوان” في قصة “جاك لوفيلد”، وفصل من “الكاتب الجديد” في “جانب غيرمانت”، وأصل العبارة “أيتها الأشجار، لم يعد لديك ما تقولينه لي” في صميم رواية الزمن المستعاد.
ومع ذلك، تمر أمام عيني القارئ المختارات الأدبية من أولى قراءات بروست الكاتب المبتدئ المؤثرة بدءا من مسرحية “فيدرا” لراسين و”حزن أوليمبيو” لـفيكتور هوغو، وربما ستاندال في قصة “جاك لوفيلد”، وألكسندر دوما الأب في قصة “في الجحيم”. كما يتجلّى الكثير من عالم إدغار آلان بو في خلفية للنص، وسنلاحظ ذلك، وفي هذا الجوار تظهر أصداء ذكريات من جيرار دي نرفال، وروايات تولستوي التي سيتلاشى تأثيرها بعد روايته “جان سانتي”.
إن سيرورة هذه القصص -التي لم تكتمل- تقدم فائدة طويلة الأمد تتمثل في رؤية الكاتب الناشئ وهو يجرب أشكالًا أدبية لن تكون هي نفسها التي سيعتمدها عندما يصل إلى نضجه الفني: كالقصة التشويقية، والحكاية الخرافية، وحوار الأموات. وعلى نحو أكثر دقة، من المثير للاهتمام ملاحظة كيف أن الروائي الذي لم يتبلور بعد، ومن خلال استخدامه المفضل هنا لأشكال الأمثولة، والحكاية الرمزية، والقصة الخرافية، يستغل الفرصة ليختبر في الوقت نفسه لماذا لن يعاود استخدام هذه الأشكال، وما هي الموارد التي يمكنه الاحتفاظ بها منها.
يكمن المعنى هنا في التركيز على الرواية الاجتماعية (roman mondain)، كنوع أدبي خاص على وجه التحديد. التي لا يتكشف عمقها الخفي على نحو كافٍ في أجواء رواية البحث عن الزمن المفقود، والتي تتشكل في هذه القصص القصيرة كـ”عوالم مصغرة سريعة”. ومن أبرز أمثلتها، اللقاءات العاطفية التي تحدث في سياق الطبقات الراقية، بما تحمله هذه اللقاءات من إمكانيات، ولكن الأهم، بما تواجهه من عقبات. هذه الرواية الاجتماعية ذات الأجواء المكثفة توفر، حتى ضمن رواية طويلة، ناهيك في سياق قصة قصيرة، التحضيرات المطولة للمعدات الروائية. هذا العالم الذي يضم الزيارات الاجتماعية، وكبار الخدم، والمنتجعات، وعربات الأجرة، والذي سيؤثث عالم سوان. هذا العالم ذاته الذي سيكتشفه بروست في رواية صديقه جورج دو لوريس، جينيت شاتينيه(3) التي قرأها كمسودات بين عامي 1908 و1909 ونُشرت عام 1910. والمثير للدهشة، أن هذه الرواية تصور بطلة تقرأ كتاب “المسرّات والأيام” لبروست نفسه. وهكذا، تكتمل الدائرة ويعود التأثير إلى مصدره.
تفصل بين الكاتب الشاب لهذه القصص القصيرة والروائي الذي كتب رواية البحث عن الزمن المفقود، مراحل عديدة من التعلم والتجارب، لدرجة أننا قد نتوقع ألا نجد شيئًا من الروائي العظيم في هذا المبتدئ. لذلك، فمن المثير للاهتمام أن نحدد بالضبط ما هو موجود بالفعل في هذه الأعمال المبكرة. على سبيل المثال، نجد فيها النسخ الأولية جدًا للفصل المستقبلي بين “الزمن المفقود” و”الزمن المستعاد”. وهنا، يُشار إلى هذا الفصل بالخفة والعمق، والتشتت والذاتية، والمظهر والواقع. سنجد في هذا الفصل صياغات معمقة قريبة جدًا من الصياغات في رواية جان سانتي، ولكن حتى في ذلك الوقت، لن يُنظر إليه على أنه فصل هيكلي وبنائي. ولهذا السبب، ستخفق هذه الرواية الكبرى التي تلت القصص القصيرة في الاستفادة من فكرة تعبر عنها بوضوح من دون التفكير في تطبيقها فعليًا (أي أن الكاتب يدرك الفكرة لكنه لا يستطيع دمجها بفعالية في بنية الرواية).
تُمهّد هذه القصص لظهور راوي رواية “البحث عن الزمن المفقود” في وظيفته التي تتجاوز الظواهر. وبتعبير (لا برويير(La Bruyère (4)، الذي يحضر بقوة في كتاب “المسرّات والأيام”، تهدف هذه الوظيفة إلى التعرف على الإنسان الخفي وراء الإنسان الظاهر. فما الذي يفسر بهجة امرأة تحتضر، أو ذبول أخرى من دون أسباب عضوية، أو الذكرى الحزينة والقلقة لقبطان، أو نزهات كاتب وحيدة ومتكررة في أوقات محددة في الغابة؟
في عالم الكاتب الذي هو في بناء وتطور مستمر فإن بعض التعبيرات أو المفاهيم الرئيسة لها تاريخها أيضا في أعماله الكبرى، فغالبًا ما تكون قد ظهرت بذورها في أعماله المبكرة أو غير المنشورة، مما يدل على تطور تدريجي في أفكاره وأسلوبه. ففي المستقبل البعيد، ستلخص عبارة “بصمة الأصالة” فقرة شهيرة من رواية الزمن المستعاد. وكان بروست، في الواقع، قد شهد ولادة هذا التعبير للمرة الأولى تحت قلمه في قصة قصيرة غير منشورة كتبها في شبابه.
أخيرا، قد نميل إلى الاعتقاد بأن بعض هذه القصص لم تكتمل لأن مؤلفها كان مترددًا، ولم يتمكن من الحسم بين عدة احتمالات. فمن جملة إلى أخرى، يتذكر القبطان بوضوح شديد، ثم لا يعود قادرًا على تذكر الرقيب الذي أثار مشاعره في يوم من الأيام. وفي مواضع أخرى، نجد الحوار المباشر والتحليل الثانوي يتنافسان على مضمون السرد، من دون أن يتمكن أي من هذين الشكلين من التغلب على الآخر.
بعبارة أخرى، إن أعمال بروست المبكرة كانت تعكس نوعًا من التردد التجريبي. فهو يجرب أساليب سردية مختلفة، مثل التباين في تذكر الشخصيات للأحداث أو التنافس بين الحوار المباشر والتحليل النفسي أو الوصفي. هذا التردد أو عدم الحسم في اختيار الأسلوب كان أحد الأسباب المحتملة لعدم اكتمال بعض هذه القصص، مما يوضح مرحلة من التطور الفني لم يصل فيها الكاتب بعد إلى أسلوبه المميز والراسخ.
كانت حالات التردد مثمرة، فالتناقضات هذه كلها مؤقتة، ونحن الذين يمكننا اليوم قراءة، ليس فقط رواية البحث عن الزمن المفقود، بل أيضًا الدفاتر التي كانت تمهد لها، ونعلم أن الروائي سيتبع هذا الأسلوب: فيجمع في الصفحة نفسها ظروفًا سرديًة ونقيضها. يفعل ذلك لأنه يريد اختبار تأثير كل منهما، وتداعياتها، والتحليل الذي يمكن أن يترتب عليها. وتُعد دفاتر رواية الهاربة (La Fugitive) ذات دلالة في هذا الصدد: فنحن نقرأ فيها أن ألبرتين قد عرفت -أو لم تعرف- الآنسة فينتوي وصديقتها؛ أقامت علاقات -أو ربما في الواقع لم تكن- مع أندريه. إن البطل لا يهتم إطلاقًا بمعرفة مع من كانت جيلبرت تتنزه في الشانزليزيه سابقا، ومع ذلك يسألها عن ذلك. يشبه الكاتب هنا “مخرجًا” أو “سيناريستًا” يزن الاحتمالات المختلفة لقصته قبل أن يستقر على الشكل النهائي، مما يشير إلى أنه حتى “الترددات” المبكرة كانت جزءًا من خطة بناء الرواية الكبرى. لقد كان يتخفى في تناقضات هذه القصص القصيرة غير المنشورة.
تتجلى هنا معضلة أخلاقية في جوٍّ قاتم. لكن ليس هذا فحسب: فهذه القصص تعبر عن الدهشة أمام الجمال، وعمق الحياة الذي يكمن في الغموض، اللغز الذي يجب حله، والثراء غير القابل للتصرف الذي يمتلكه كل فرد، وهو استكشاف عالمه الداخلي. يهيئ الفن لهذه المهمة ويرافقها ويكملها. وبهذا، يقدم بروست منذ كتاباته الأولى هذا التحول الذي قرأه ألبير كامو (كامو في كتابه الإنسان المتمرد في الزمن المستعاد) وهو بديل لليأس.
في الواقع، تتجلى هنا فكرة عميقة: حتى اللعنة والمعاناة تُظهران قدرة إبداعية. فهما اللتان تشكلان المواقف والشخصيات، وتعمقان التساؤلات، وتتطلبان تجليات أصيلة تتجدد وتتنوع باستمرار. هذا الكاتب الشاب، الذي يبوح بسره ويكتمه في آن واحد، يبدو وكأنه قد أدرك مسبقًا أن وجود شخصيات “شفافة” وواضحة تمامًا، مثل “جيلبرت” و”ألبرتين” لو كانت هاتان الشخصيتان تُبادلان الحب بصدق كامل وتكشفان عن كل شيء بلا خفايا، فإن ذلك سيدمر القوة التحليلية التي تميز راوي رواية “البحث عن الزمن المفقود”، وذلك لأنه سيكشف حينها بأن “الأفكار هي بدائل للأحزان”.
ملاحظة
نُقدم هنا بعضًا من مجموعة النصوص الأصلية التي كانت بخط يد مارسيل بروست، والتي لم تُنشر من قبل. كانت هذه النصوص موجودة ضمن أرشيفات برنار دو فالوا (الملفات 1.1 و5.1 وفقًا لترقيمها الأصلي)، وقد استخدمها فالوا في دراسته حول كتاب “المسرّات والأيام”. تعود كتابة هذه النصوص إلى المدة نفسها التي حدث فيها تجميع الكتاب (حيث كان بعضها مُدرجا في قائمة المحتويات المقترحة آنذاك).
كل نص من هذه النصوص مُقدّم بمقدمة توضح كيفية تكوينه، فضلا عن ملاحظات حول الجوانب الجديدة التي يطرحها وأهميته على المدى الطويل في أعمال بروست اللاحقة. تقدم هذه النصوص… مصحوبة بسجل شامل لجميع الفروق النصية.
1
المراسل الغامض
المقدمة:
هذه القصة الكاملة (انظر الكراسة الأيقونوغرافية، الشكل1)، التي أُدرجت لفترة ضمن مجموعة قصصية وأُهديت آنذاك إلى عازف البيانو ليون دولافوس (1874-1955)، تقترب من قصص أخرى منشورة، رغم أن بعض تفاصيلها غير مكتملة، بما تطرحه من اعتراف بما لا يمكن البوح به، مع اقتراب الموت الذي يعيد ترتيب الرهانات كافة، واحتضار يُسقط عن السر عبئه الأخلاقي.
كما يوحي العنوان، وكما يتكرر مرة واحدة في سياق الرواية، تدور القصة حول رسائل عثر عليها في ظروف غامضة في شقة البطلة فرانسواز، التي تتخيل أن الرسائل من جندي. وفي المدة نفسها تقريبًا، في صيف عام 1893، بدأ بروست مع بعض الأصدقاء في كتابة رواية رسائلية، يتقمص فيها هو دور امرأة من المجتمع المخملي تقع في حب ضابط صف ويصارح ضابطه؛ أدّى دوره دانيال هاليفي، بينما تولّى لوي دو لا سال دور الضابط؛ (المراسلات، المجلد الرابع، ص:413-421). لم تكتمل الرواية الجماعية، لكن بروست كتب بموازاتها، وربما سرًّا، هذه القصة التي لا يظهر فيها مرشد فرانسواز الروحي، الأب دو تريڤْس، إلا في الصفحات الأخيرة، فيما بقى متن القصة بعيدًا عن النمط الرسائلي.
إن الرسائل التي تظهر على نحو غامض تستحضر على نحو غير مباشر قصة إدغار بو القصيرة “الرسالة المسروقة” وهي قصة كان بروست قد أعجب بها (المراسلات، المجلد العاشر، ص292). كما يتخلل هذه القصة شيء من قصص بو القصيرة الخارقة للعادة، من خلال المرأة المحتضرة (كريستيان) التي تخبر صديقتها فرانسواز بإعيائها ذات لحظة. إن شبه العتمة نفسها في قلب القصة تحاكي المعارضة النيرفالية بين الواقع والأحلام (هناك صيغة أخرى من القصة تتحدث عن حياة ثانية).
تكشف هذه القصة المبكرة عن روائي ناشئ وهو يجرب الصيغ السردية التي نادرًا ما سيعتمدها لاحقًا. في البداية، يحاول أن ينقل سيكولوجية شخصيته بالكامل من خلال وصف يديه المعاد صياغته كثيرًا (يتبادر إلى الذهن قبعة شارل بوفاري الشهيرة). ثم يحاول، على نحو متعثر، كتابة سرد تشويقي يدور حول تلك الرسائل المجهولة التي وُجدت في غرفة طعام فرانسواز. وتُظهر الجمل المشطوبة والإضافات المتداخلة أن المؤلف يواجه بعض بعض الصعوبة في الظروف السردية الضرورية وتحديدها. وستظل هذه الصعوبة قائمة مع مؤلف “البحث عن الزمن المفقود” الذي غالبًا ما تصبح جمله مثقلة لأنه يتعين عليه أن يبرر، في موقف سردي يصعب تحديده، الفكرة التي يريد الراوي الوصول إليها.
في رواية “البحث عن الزمن المفقود”، ستظهر رسالة من مراسلة غامضة: هذه البرقية التي يتلقاها البطل في رواية “الهاربة” وهو على وشك مغادرة البندقية، موقعة باسم ألبرتين التي سبق وفارقت الحياة (المجلد الرابع، ص:220-223)، وذلك بسبب خلط حدث في الاسم مع اسم جيلبرت التي تعلن عن زواجها. يبدو أن كل عناصر القصة القصيرة القديمة قد تكثفت في هذا الظرف وحده. وفي المجلد نفسه، يظهر مرسل غامض آخر، حين يتلقى البطل رسالة بعد نشر مقاله في صحيفة لو فيغارو: “تلقيت رسالة أخرى غير تلك التي وصلتني من السيدة غوبيل، لكن الاسم، سوتون، كان غريبًا عني. كان خطها بسيطا، ولغتها ساحرة. لقد حزنت لعدم تمكني من اكتشاف من كتب إليّ”. (ص:170). من المعروف أن هذا الظرف، الذي ظلّ غير محدد في النص، مستوحى من الرسالة التي أرسلها ألفريد أغوستينيلي إلى بروست عام 1907 بعد نشر مقاله “انطباعات من رحلة بالسيارة” (المراسلات، المجلد السابع، ص:315). لكن نمط هذا الظرف الغامض أقدم بكثير، كما نرى هنا، في مخيلة بروست الروائية.
ولأن للكلمات تاريخًا في تطور الكاتب الإبداعي، فهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها بصمة الأصالة بقلم بروست، وهي البصمة التي ستظهر من جديد في الطرف الآخر من كتابات الروائي، في نهاية الزمن المستعاد، عندما يصدر راوي “العبادة الأبدية” الدوغماتي حكمه بشأن الذكريات اللاإرادية: “كان طابعها الأول أنني لم أكن حرًا في اختيارها، وأنها مُنحت لي كما هي. وشعرت أن هذه يجب أن تكون بصمة أصالتها” (المجلد الرابع، ص:457). وهذا دليل على أن التعبير لا يضيع أبدًا، بل يمكن أن يبقى حيًا مدة طويلة على نحو استثنائي، إذا ما رُسخ إلى الأبد المفهوم الذي صاغه الكاتب بصبر وعناية.
إن القصة، التي جاءت في شكل لغز أو أحجية، تتجلى في أجواء الرواية الاجتماعية لتتناول موضوعة المثلية، وهنا من خلال رمز “سدوم وعمورة” تتمحور حول قضايا مثل الحب غير المتبادل، والشعور الثقيل بالذنب، والعلاقة بين السر والاعتراف به، ووطأة الحكم الاجتماعي، والعلاقة بين الأخلاق والدين (الكاثوليكي).
كان على المراسِلة التنكر في هيئة مراسل، بينما ينقل بروست ما يعرفه عن المثلية إلى المأساة السرية لامرأة، مما ينتج التباسات معقدة. ويمكن ملاحظة الارتباك الدائم في الأسماء تحت قلم الكاتب: إذ يحدث الخلط باستمرار بين فرانسواز وكريستيان، مما يفضي إلى كثرة الشطب والنسيان أحيانًا. كما تفضي -زلة بروست القلمية- في اتفاق في اسم المفعول أو اسم المؤنث (vue) مرئية إلى كشف -دون قصد- عن اللغز في وقت مبكر. حتى إن السرّ والاعتراف يتبادلان المواقع: فمن تحمل في داخلها سرًا لا يمكن البوح به تعترف به في رسائلها، بينما المتلقية، التي لا تحمل شيئًا لتخفيه، هي من تصبح أسيرة السرّ.
تجري محاكاة ساخرة معينة بين المتحدثين والوعاظ الكلاسيكيين عبر استدعاءات التقوى الكاثوليكية. ويتدخل الكاهن، كما في رواية “علاقات خطرة”، في ذروة الدراما. ويتبخر عبير رواية التنوير تحت تأثير التشكيك المزدوج في الوصايا الأخلاقية، ليبدو في النهاية وكأنه بمعزل عن سياق الدراما، محافظا على ثقل الذنب المميت. ومع ذلك، فإن التضحية السامية التي يدعو إليها المرشد الروحي، التي أنجزتها كريستيان في الواقع، تحتفظ بعمقها الكامل.
تُستخدم هنا، وصايا الطبيب كذريعة لتجاوز وخرق السر وكشفه، وذلك في مواجهة متطلبات الإله. إن الفكرة المطروحة هي أن درجة معينة من المعاناة، مع ما يترتب عليها من عواقب، تتطلب تجاوز قواعد الأخلاق. من اللافت للنظر أن إشارة الطبيب إلى حالة الهزال التي تعاني منها كريستيان، وهي حالة لا تستند إلى أي تلف عضوي، تتوافق على نحو غريب مع “دراسات حول الهستيريا” لفرويد (1895)، التي أجراها في مستشفى سالبتريير بالتعاون مع شاركو (الذي عمل معه أدريان بروست). هذه الدراسات تشير إلى أن الجمود الذي يصيب المصابين بالهستيريا لا ينجم عن أي نقص جسدي، بل على العكس من ذلك، ينتج عن تحييد الصراع بين قوى متعارضة شديدة على نحو استثنائي. وعلى الرغم من أن بروست لم يكن على ما يبدو على علم بنظريات فرويد إلا في وقت متأخر جدًا، إلا أنه وضع نفسه على نحو بديهي في صميمها منذ كتاباته الأولى.
القصة:
“عزيزتي، إنني أمنعك من العودة مشيًا على الأقدام، سأجهز العربة، فالجو بارد جدًا، وقد تصابين بأذى”. قالت فرانسواز دي لوسك(1) كان هذا الكلام قبل قليل وهي تقودها عائدة إلى صديقتها كريستيان(2)، والآن وقد غادرت شعرت بالندم على هذه العبارة الخرقاء التي قد تكون غير ذات أهمية لو قيلت لشخص آخر(3) لكنها كانت كفيلة بأن تثير قلق المريضة بشأن حالتها. وبعد أن جلست قرب المدفأة حيث كانت تدفئ قدميها ويديها بالتناوب(4)، ظلت(5) تسأل نفسها السؤال الذي كان يؤرقها: هل يمكن أن تشفى كريستيان(6) من هذا الهزال(7). لم تكن المصابيح قد أحضرت بعد. كانت الغرفة تغرق في العتمة. ولكن الآن، وبينما كانت تدفئ يديها من جديد، كان وهج النار ينير ما فيهما من رشاقة وروح(8) منفيتين في جمالهما الذاوي من الأحزان(9) في هذا العالم المبتذل، وكان بوسع المرء قراءة المشاعر بوضوح كما تُقرأ في نظرة معبرة. وكالعادة كانت يداها تبدوان مشتتتين، تمتدان بخفة وهدوء. لكن في هذا المساء، وخشية أن يلتوي الجذع الدقيق(10) الذي كان يحملهما بكل ذلك النبل، كانتا تتفتحان على نحو مؤلم(11) كزهرتين معذبتين(12). وسرعان(13)، ما كانت الدموع(14) تتساقط من عينيها في الظلام دمعة تلو أخرى(15) في اللحظة التي فيها كانت تلامس الأيدي الممدودة نحو اللهب المغمورتين بالضوء. دخل خادم، وكان ساعي البريد، يحمل رسالة واحدة بخط معقد لم تكن فرانسواز(16) تعرفه(17) على الرغم من أن زوجها كان يحب كريستيان بقدر حبها لها، وكان يُواسي فرانسواز بحنان حين يلحظ ألمها إلا أنها كانت تفضّل ألا تحزنه بلا طائل بمنظر دموعها لو عاد فجأة(18)، وكانت تريد أن يكون لديها متسع من الوقت لتمسح عينيها في(19) الظلمة، لذا، طلبت إحضار المصابيح بعد خمس دقائق فقط، وقرّبت الرسالة من النار لتستخدم ضوءها في القراءة. كانت النار تُطلق لهبًا كافيًا، بحيث عندما انحنت لتستنير به، استطاعت فرانسواز(20)، تمييز الحروف، وهذا ما قرأته:
سيدتي، لقد أحببتك منذ زمن طويل، لكنني لا أستطيع أن أبوح لكِ بذلك ولا أن أخفيه(21). سامحيني. كل ما قيل لي عن حياتك الفكرية، وعن فرادة تميز روحك كان غامضا، أقنعني(22) بأنني فيكِ وحدك سأجد العذوبة بعد حياة مريرة(23)، والسكينة بعد حياة مغامرة، والطريق نحو النور بعد حياة من الشك والظلام. وكنتِ رفيقتي الروحية من دون أن تعلمي(24) لكن هذا لم يعد يكفيني. إنه جسدكِ، هو ما أريده، ولعجزي عن امتلاكه، وفي يأسي وهيجاني، أكتب لأهدئ نفسي بهذه الرسالة، كمنْ يجعّد ورقة عند الانتظار، وكمنْ يكتب اسما على لحاء شجرة(25)، وكمن يصرخ باسم في مهب الريح أو على البحر(26). ومن أجل أن أرفع بفمي(27) زاوية شفتيكِ، سأضحي بحياتي(28). إن فكرة أن ذلك قد يكون ممكنًا(29) وأنه مستحيل تحرقني على حد سواء. حين تصلكِ رسائل مني، ستعلمين أنني في لحظة يكون فيها هذا التوق قد أفقدني صوابي(30) أنتِ لطيفة جدًا، ارحميني، أنا أموت من عدم امتلاكك”.
كانت فرانسواز(31) قد انتهت للتو من قراءة هذه الرسالة حين دخل الخادم وهو يحمل المصابيح، مما أضفى بذلك -إن جاز التعبير- قرارًا واقعيًا للرسالة التي كانت قد قرأتها كما لو كانت في حلم، على ضوء اللهب المتقلب والمربك. أما الآن، فإن ضوء المصابيح الهادئ، لكنه آمن وصريح،(32) قد أخرج(33) من ذلك الغبش الذي يقع بين حقائق(34) هذا العالم وأحلام العالم الآخر، عالمنا الداخلي، مانحا إياه وكأنها بصمة الأصالة مادة وحياة(35). أرادت فرانسواز(36) في البدء أن تُري هذه الرسالة لزوجها(37). لكنها فكّرت أنه كان يتمتع بأكثر صفات النبل والسخاء(38) ومن الأجدر أن تُجنّبه هذا القلق، وأنها كانت مدينة على الأقل لذلك المجهول الذي لم تكن تستطيع أن تمنحه شيئًا آخر غير الصمت، بانتظار النسيان(39) لكن في صباح اليوم التالي، تلقت رسالة(40) بالخط المعقد نفسه تحمل هذه الكلمات: “هذا المساء في الساعة التاسعة سأكون عندك(41). أريد على الأقل أن أراك”. حينها، شعرت فرانسواز(42) بالخوف. كان على كريستيان(43) أن تغادر في اليوم التالي لتقضي خمسة عشر يومًا في ريف كان فيه الهواء النقي يمكن أن يجعلها تشعر بتحسن. فكتبت إلى كريستيان(44) راجيةً منها أن تأتي لتناول العشاء معها، بما أن زوجها سيخرج تلك الليلة. وأوصت الخدم بعدم السماح بدخول أي شخص آخر، وأمرت أن تغلق جميع النوافذ بإحكام(45). لم تروِ شيئًا لكريستيان(46)، ولكن عند الساعة التاسعة أخبرتها بأنها تعاني من الشقيقة(47) وطلبت منها أن تذهب إلى الصالون، عند الباب الذي كان يؤدي إلى غرفة نومها، وألا تسمح لأحد بالدخول. ثم ركعت في غرفتها وبدأت تصلي. وعند الساعة التاسعة والربع، وقد شعرت بالوهن، ذهبت إلى غرفة الطعام لتبحث عن القليل من شراب الروم. كان هناك على الطاولة ورقة كبيرة بيضاء مكتوب عليها بأحرف مطبوعة(48) هذه الكلمات: “لماذا لا تريدين رؤيتي؟ كنت سأحبك كثيرًا. ستندمين يومًا على الساعات التي كنت سأمنحك إياها. أرجوكِ(49)، دعيني أراك، ولكن(50) إن طلبتِ مني المغادرة، سأغادر على الفور(51)” [شعرت] فرانسواز بالفزع. فكّرت في أن تطلب من الخدم أن يحضروا مسلحين. لكنها شعرت بالخجل من هذه الفكرة، وإذ أيقنت أن لا سلطة تفوق سلطتها هي في السيطرة على هذا المجهول، كتبت في أسفل(52) الورقة: “غادر فورًا، أنا آمرك”. ثم هرعت(53) إلى غرفتها، وألقت بنفسها على مركع الصلاة، وهي لم تفكر في شيء آخر سوى أن تصلي للعذراء مريم(54) بحرارة. بعد(55) نصف ساعة، ذهبت لتلتحق بكريستيان(56) التي كانت تقرأ في الصالون بناءً على طلبها. كانت تريد أن تشرب قليلًا، فطلبت منها أن ترافقها إلى غرفة الطعام. دخلت وهي ترتعش، تسندها كريستيان، [و] كادت أن تنهار وهي تفتح الباب، ثم تقدمت بخطوات بطيئة، وكأنها تحتضر. في كل خطوة، بدا وكأنها لن تقوى على أن تخطو خطوة أخرى، وأنها ستسقط(57) هناك. فجأة، اضطرت إلى كتم صرخة. كانت هناك على الطاولة، ورقة جديدة وفيها قرأت: “لقد أطعت. لن أعود ثانية. ولن تريني أبدًا(58)”. ولحسن الحظ، كانت كريستيان(59). منشغلة كليًا بتوعك(60) صديقتها، فلم تستطع رؤية الورقة، فوجدت فرانسواز(61) ما يكفي من الوقت لتلتقطها بسرعة، ولكن بمظهر ينمّ عن لا مبالاة، ووضعتها في جيبها(62). وما لبثت أن قالت لـكريستيان(63): “عليكِ أن تعودي مبكرًا إلى المنزل، لأنك ستغادرين غدًا صباحًا\(64)”. “وداعًا يا حبيبتي. ربما لن أستطيع رؤيتك(65) صباح الغد(66)، وإذا لم تريني فذلك لأني سأكون قد نمت متأخرًة لأشفى من صداعي”. (كان الطبيب قد منع الوداع لتجنب إثارة مشاعر قوية لدى كريستيان(67). لكن كريستيان(68) الواعية بحالتها(69)، كانت تفهم جيدًا(70) لماذا لم تكن فرانسواز لتجرؤ على المجيء(71) [ولماذا] مُنعت من حالات التوديع هذه، وكانت تبكي وهي تودع فرانسواز التي تماسكت حتى النهاية وبقيت هادئة كي تطمئن كريستيان(72). لم تنم فرانسواز(73)، فالمجهول في قراره الأخير، كانت كلمات: “لن تريني ثانية أبدًا” تقلقها أكثر من أي شيء آخر. وبما أنه قال: “تريني ثانية”، فهذا يعني أنه رآها(74) [هكذا وردت في النص الأصلي]. تفحصت النوافذ: لم يتحرك أي مصراع(75). من غير الممكن قد دخل من هناك. إذًا، فقد رشىا البواب(76). أرادت طرده، ثم ترددت وانتظرت(77).
في اليوم التالي، جاء طبيب كريستيان لزيارة فرانسواز(78)، التي كانت قد طلبت منه فور مغادرة كريستيان أن يوافيها بأخبارها. لم يخفِ الطبيب عنها أن حالة صديقتها، وإن لم تكن ميؤوسًا منها على نحو لا رجعة فيه، يمكن أن تتدهور فجأة لتصبح مستعصية، وأنه لا يرى علاجًا محددًا يمكن أن تتبعه. “آه، إنه لشقاء كبير، إنها لم تكن متزوجة، قال الطبيب(79). فهذه الحياة الجديدة وحدها يمكن أن يكون لها تأثير شافٍ(80) على حالة هزالها. وحدها المتع الجديدة بهذه القدرة يمكن أن تغير حالة بهذه العمق. -”تتزوج،” صرخت فرانسواز(81)، “ولكن من سيتزوجها الآن وهي بهذه الحالة من المرض؟”-، لتتخذ عشيقا، قال الطبيب: “فإن شفاها، تزوّجته. لا تقل فظائع كهذه يا دكتور!” صرخت فرانسواز(82): “أنا لا أقول أشياء شنيعة”، أجاب الطبيب بحزن: “عندما تكون امرأة في مثل هذه الحالة وتكون عذراء، فإن حياة مغايرة تمامًا(83) هي وحدها من تستطيع إنقاذها. لا أعتقد أنه يجب في(84) هذه اللحظات الحاسمة، أن نقلق بشأن الأعراف ونتردد، لكنني سأعود لزيارتك غدًا، فأنا مشغول جدًا اليوم، وسنتحدث في هذا الأمر مجددًا”(85).
بمجرد أن بقيت فرانسواز وحيدة، أخذت تتأمل كلمات الطبيب للحظات، لكن سرعان ما عادت رغمًا عنها لتفكر في المراسل الغامض الذي كان جريئًا ببراعة، وشجاعًا(86) عندما كان الأمر يتعلق بلقائها، وعندما كان عليه أن يطيعها بكل تواضع متخليًا عن رغبته، بكل هدوء. إن فكرة القرار الاستثنائي الذي كان عليه أن يتخذه ليقدم على هذه المحاولة بدافع حبه لها، كانت تذهلها. وكانت قد تساءلت بالفعل عدة مرات(87)، من يمكن أن يكون هذا الشخص، والآن تتخيل أنه كان عسكريًا، وأنها(88) لطالما أحبتهم، وكان في داخلها -منذ زمن- جمرٌ خامد، وشهوات كانت ترفضها عفتها، لكنها كانت تُلهب أحلامها أحيانًا وتمنح عينيها العفيفتين بريقًا غريبًا. في الماضي، لطالما تمنت أن تحظى بحب أحد أولئك الجنود الذين يصعب فك حزامهم الطويل، والفرسان(89) على ناصية الطريق الذين يتركون سيوفهم(90) تتدلى خلفهم وهم يشيحون برؤوسهم، والذين إذا ما اقتربت منهم كثيرا لتضايقهم على الأريكة، يخاطرون بوخز ساقيك بمهاميزهم الكبيرة، والذين جميعًا يخفون قلبًا خاليًا من الهم والمغامرة وديعا تحت قماش خشن جدًا بحيث لا تشعر بنبضه بسهولة.
ولكن سرعان(91) ما هبّت ريحٌ مشبعة بالمطر تُسقط، وتُفكك، وتُبعثر، وتُعفن أزكى الأزهار، فأغرق حزن الشعور بفقدان صديقتها كل تلك الأفكار الشهوانية(92) في طوفان من الدموع. إن وجوه أرواحنا تتغير بقدر ما يتغيّر وجه السماء. وحيواتنا البائسة(93) تتقاذفها(94) التيارات(95) بلا حول ولا قوة بين تيارات اللذة، حيث لا تجرؤ على المكوث، وبين مرفأ الفضيلة الذي لا تملك القوة لبلوغه.
وصلت برقية، كانت كريستيان في حال أسوأ. غادرت فرانسواز، ووصلت في اليوم التالي(96) إلى مدينة كان. في الفيلا التي استأجرتها كريستيان، لم يسمح الطبيب لفرانسواز برؤيتها. كانت حالتها شديدة الضعف في تلك اللحظة.
“سيدتي”، قال الطبيب أخيرًا، “لا أود أن أكشف لكِ(97) شيئًا عن حياة صديقتكِ، والتي أجهلها تمامًا بالمناسبة، لكنني أعتقد أن من واجبي أن أروي لكِ حقيقة قد تمكنكِ، أنتِ التي تعرفينها أفضل مني، من تخمين السر المؤلم الذي يبدو وكأنه يثقل ساعاتها الأخيرة، وبالتالي قد تجلبين لها السكينة(98)، من يعرف ربما كانت علاجًا(99). إنها تطلب باستمرار علبة صغيرة، وتطلب من الجميع المغادرة، وتقضي معها أوقاتا طويلة من العزلة، والتي تنتهي دائمًا بنوع من الانهيار العصبي. العلبة موجودة هنا، لم أجرؤ على فتحها. ولكن بالنظر إلى حالة الضعف الشديد التي تعاني منها المريضة، والتي قد تصبح خطيرة جدًا ووشيكة في أي لحظة، أعتقد أنه قد يكون من واجبكِ أن تري ما بداخلها. هكذا يمكننا معرفة ما إذا كانت تحتوي على المورفين. لا توجد آثار حقن على الجسد، لكنها قد تكون تبتلعه. لا يمكننا أن نرفض إعطاءها هذه العلبة، فمشاعرها حين نمنعها منها تصبح شديدة لدرجة أنها قد تُشكل خطرًا بسرعة وربما قاتلة. لكن سيكون من مصلحتنا الكبرى أن نعرف ما الذي يُقدّم لها هكذا في كل لحظة”.
تأملت فرانسواز(100) لبضع لحظات. لم تُفضِ لها كريستيان بأي سر يخص قلبها، ولعلها كانت لتفعل لو كان لديها ما تُفشيه. لا شك أن ما بداخل العلبة كان مورفينا أو سمًا مشابهًا، وكان من مصلحة الطبيب الملحّة جدًا أن يعرف(101)، وعلى الفور، وبشيء من الانفعال الطفيف فتحتها(102)، لم تر شيئًا في البداية، ثم أزالت ورقة، وبقيت للحظة مذهولة، ثم أطلقت صرخة وسقطت. هرع الطبيب إليها، كانت فقط قد أغمي عليها. كانت العلبة التي أفلتت من يديها ملقاة بالقرب منها، وبجانبها الورقة التي كانت قد سقطت منها. قرأ الطبيب عليها: “اذهبوا، أنا آمركم بذلك”. بعد أن عادت فرانسواز إلى وعيها بسرعة، شعرت فجأة بتقلص مؤلم وعنيف، ثم عندما(103) استعادت هدوءها قالت للطبيب: “تصور، لقد ظننت أنني رأيت صبغة الأفيون، من شدة انفعالي. أنا مجنونة(104). هل تعتقد أنه يمكن إنقاذ كريستيان؟ نعم ولا،” أجاب الطبيب: لو كنا نستطيع إيقاف حالة الهزال هذه، فبما أنها لا تعاني من إصابة في أي عضو، يمكنها أن تتعافى تمامًا، لكن لا يمكننا التنبؤ أن شيئًا سيوقفه. من المؤسف أننا لا نستطيع معرفة الحزن، الذي هو على الأرجح حزن حب منْ(105) تعاني منه. لو كان هناك شخصٌ ما، ما يزال حيًا، يمكنه أن يواسيها ويشفيها، فأعتقد [أنه] سينجز(106) هذا الواجب الذي هو محض إحسان.
أرسلت فرانسواز برقية على الفور تطلب فيها حضور مشرفها الروحي بالقطار التالي. قضت كريستيان اليوم والليلة في حالة شبه غيبوبة(107)، وقد أُخفي عنها وصول فرانسواز. في صباح اليوم التالي، شعرت كريستيان بتوعك شديد وكانت مضطربة للغاية، فسمح لها الطبيب، بعد أن هيأها(108)، بدخول فرانسواز. اقتربت فرانسواز منها، وسألتها(109) عن حالها كي لا تُخيفها، جلست بجانب سريرها وهي تواسيها بلطف بكلمات ذكية وحنونة: “أنا ضعيفة جدًا،” قالت كريستيان: “قرّبي جبهتك، أريد أن أقبلكِ”. انسحبت فرانسواز غريزيًا، ولحسن الحظ لم ترها كريستيان، وسرعان ما تمالكت نفسها، وقبّلتها على نحو حنون ولمدة طويلة(110) على خديها. بدت كريستيان في حال أفضل، وأكثر حيوية، وأرادت أن تأكل، لكن أحدهم جاء وهمس(111) في أذن فرانسواز. لقد وصل مشرفها الروحي، الأب دو تريف(112). ذهبت فرانسواز للتحدث معه في غرفة مجاورة، بلباقة، من دون أن تدعه يستشف شيئًا. قالت له فرانسواز بعد قليل: “أيها الأب، إذا كان هناك رجل يحتضر حبًا بامرأة تنتمي لآخر [هكذا وردت في النص الأصلي]، وكان قد تحلى بفضيلة عدم محاولة إغوائها، وإذا كان حب هذه المرأة وحدها يمكن أن ينقذه من موت وشيك ومؤكد، أكانت تُعذر لو أنها قدّمت له ذلك الحب؟” كيف لم تجيبي أنتِ على سؤالك بنفسك(113)؟ قال(114) الأب: سيكون ذلك، استغلالًا لضعف مريض، وتدنيسًا، وتخريبًا، وإبطالًا وإفناء للتضحية بحياته التي قدمها عن طيبة إرادة قلبه ونقاء تلك التي كان يحبها. إنها لميتة جميلة، والتصرف كما تقولين سيكون إغلاقًا لملكوت الله في وجه من استحقها بانتصاره النبيل على شغفه. والأهم من ذلك(115)، بالنسبة للصديقة التي تستوجب العطف والرحمة، سيكون هذا بمثابة سقوط يحرمها ذات يوم من أن تلتحق بمن لولاها كان ليصون شرفه أبعد من الموت، وأبعد من الحب”.
جاء من ينادي فرانسواز والأب، كانت كريستيان تحتضر، وتطلب الاعتراف والمغفرة. في اليوم التالي، كانت كريستيان قد فارقت الحياة. وبعدها لم تتلق فرانسواز أي رسائل من المجهول.
[إن اللحظة التي تحلم فيها فرانسواز بأن يكون المراسل الغامض جنديًا، تعد بمثابة نواة لقصة أخرى تمامًا، تمتد على أربع صفحات مخطوطة نعيد إنتاجها هنا. تصبح البطلة مجهولة الهوية، وعلى عكس بطلة القصة القصيرة، نجدها أرملة تحترق بشهوانية مكبوتة. ولوصف هذه الشهوانية، تتطور استعارة مطولة ذات طابع عسكري، قبل مدة طويلة من الحرب العظمى التي ستلهم مؤلف “البحث عن الزمن المفقود” الرمز الكبير للاستراتيجية العسكرية. إن دور الثقافة الفنية، وخاصة بوتيتشيلي، يرسم هنا ملامح جو “حب سوان”؛ وبالفعل، فإن التناغم (الفاغنري؟) بين الفنون يحافظ على توازن بين الرسم والموسيقى والأدب (سيكون يومًا ما إلستير، وفنتي، وبيرغوت). إن البطلة تتلاشى بعد ذلك أمام الصورة المهذبة لجندي وسيم، والذي يبدو أنها كانت ترغب لاحقًا في الفوز به، لتصبح في موقع فيدرا جديدة أمام هيبوليت جديد “رأته، فأحبته”. إن تقديم هذا الحب المحتمل بين شابة وضابط يستدعي إلى الذهن موضوع رواية “آنا كارنينا”، ومن المعروف أن المدة الأولى من إبداع بروست، بما في ذلك رواية “جان سانتي”، تتوافق مع الرواية الروسية. وبالمناسبة، سنرى أنه في هذه الثمرة القصة الجديدة التي تبتعد عن مسار القصة الأولى، هناك حرب مع الإيرياتيين، الذين يمثلون شعبًا في منطقة ميلانو، حول مدينة إيريا في ليغوريا، في مكان لا يمكن تحديد موقعه بدقة بين العصور القديمة ودوقية العصور الوسطى. وفي مواجهة مثل هذا الغموض، قد يفكر القارئ المعاصر في قصص جوليان غراك]
صحيحٌ أنه قبل أن تقرر أن تلتزم بالفضيلة(116)، وفي سنّ الشكوك، كانت لديها ميولٌ قوية للعسكر. كانت تحبّ رجال المدفعية، أولئك الذين يستغرق الأمر وقتًا طويلًا -آه، طويلًا جدًا- لفكّ حزامهم. والفرسان الذين في الشارع في المساء(117) يتركون سيوفهم تتدلى خلفهم، وهم يشيحون برؤوسهم بعيدًا، والذين إذا ما اقتربت منهم كثيرًا لتضايقهم على الأريكة يخاطرون بوخز ساقيك بمهاميزهم الكبيرة، وأخيرا كل هؤلاء: الحرّاس، ورجال الدروع، والصيّادون، الذين كانوا جميعًا، يخفون قلبًا طائشًا، مغامرًا، ونقيًا ورقيقًا تحت قماش سميك جدًا بحيث لا يمكن الإحساس بخفقانه(118) بسهولة، ثم(119) خوفها من أن ييأس والداها عند علمهما بذلك، ورغبتها في الاحتفاظ بمكانتها الطيّبة التي كانت تحتلّها في المجتمع(120)، وفوق كل ذلك، نبل شخصيتها المترددة(121) التي كانت ستمنعها من التخلي(122) عن مغامرة فرضتها المصادفة أو المغامرة لمجرد(123) أنها عُرضت عليها، كل ذلك حافظ على عفتها سليمة. فقد كانت متزوجة ثم أصبحت أرملة بعد عامين. والآن، حانت لحظة انتقام الحواس(124)، ليس على نحو مباشر(125)، بل بخبث، عبر إضعاف فكرها، وإفساد خيالها(126). وهي تضفي على أفكارها الأكثر تجردًا نعومة جذابة ومخادعة، وتعطر أشد الأشياء صرامة برائحة الحب، وتشعل فيها ما يكفي من النيران لتجعل سراب الرغبة يلوح في صحراء قلبها(127) وعبر(128) هذا التدهور البطيء في إرادتها (129). كانت الحواس تُكبّد أخلاقها خسائر أشد تكلفة مما(130) لو كانت قد ألحقت بها هزيمة تبدو أكثر خطورة، في ساحة معركة السلوك. إن ثقافتها الفنية والأدبية والموسيقية العميقة، التي صقلت بها(131) حتى أشد أنواع اللذة إيلامًا، وميزت روحها بطابعٍ(132) فريد، خلال أوقات فراغها الطويلة التي أتاحها ترملها العفيف، قد جمعت ونسّقت وعززت جميع ميولها. كانت تلك هي كل قواها، وكل طاقاتها، وكل قيمتها. وببطء، كان كل ذلك ينتقل إلى العدو. لقد حدث حينها، في أعقاب الحرب القصيرة التي خضناها مع الإيرياتيين، أن برز شابٌّ برتبة كابتن(133) في الثالثة والعشرين من عمره، يُدعى أونوريه(134)، فأصبح خلال ثلاث سنوات قائدًا، ثم كولونيلًا، ثم قائدًا عامًا(135). لم يوافق أبدًا على التقاط صورة له(136)، لكن المجلات وبعض لوحات أساتذة(137) الرسم جعلت من جماله الغامض أمرًا شائعًا من دون أن تجعله مبتذلا! كان في ابتسامته المتراخية، على شفتيه الحمراوين(138) اللتين كانتا تتعاضّان بلا مبالاة كمن يمضغ زهرة، الكمال المطلق الذي يضفي على ملامحه(139)، وفي نظرته التي تميل إلى الاخضرار(140) الحزن، والأضواء والظلال، والسلطة الناعمة. وكان شعره القصير من الجانبين، لكنه كثيف ولامع وخفيف تحت القبعة العسكرية كشعر طفل، وفي رشاقة خصره ذي الوركين البارزين، الرقة(141) التي لا تُضاهى، المجردة والدالة كتلك الموجودة في لوحات بوتيتشيلي كـ[نقص]،(142) أنيقة كأناقة برومِل*، فاتنة مثيرة للإحساس كغانية. هذا كله كان يمتزج(143) فيه ليمنحه كمالًا جسديًا شهوانيًا، وقوة آسرة لدرجة كانا يبدوان أمامه كخصمين. وعادةً ما تحيط الصورة الذهنية بالعينين على نحو جذّاب، وتحفر أعماقا في النظرة، تجعل البشرة تذوي، والقامة تنحني. غير أن الجنرال دو نوتلين كان قد نجا من هذه القوانين(144)، وقبل أن تراه، كانت ترغب في أن تبادله الحب. رأته، فأحبّته. ولكثرة ما فكّرت فيه، وهبته مخيلتها، ومن دون أن تحدّدها كثيرًا حتى لا تبدّد غموضه الآسر، منحته […] مثالية [فراغ في النص الأصلي، يشير إلى انقطاع].
*برومل Brummel: شخصية مهمة في إنجلترا خلال فترة الوصاية الملكية، وكان يُعد رمزًا للأناقة في عصره.
[تحرير النص]
ملاحظة: (م) تعني مسودة أو مخطوطة، تحرير النص:
1. المخطوطة الأصلية: “كريستيان تافنس”؛ أما “فلورانس دو لوك” فقد شُطبت.
2. “bien… autre”: إضافة بين السطور.
3. “tour à tour”: إضافة بين السطور.
4.م: كانت تتساءل إن كان يمكن شفاء ذلك الهزال عند فرانسواز، كانت تشعر…
5. م: فرانسواز.
6. م: هزال وعلى حسب ما كانت [تقول] لنفسها وتجيب بنعم أو لا، كانت تشعر بكل غضبها الفكري والأخلاقي الأكثر قدسية وعنفوانًا، وكذلك بلحظاتها الأكثر رقة وتواضعًا. يديها التي كانت [تُرى]…”.
7. ……
8. سلسلة من المسودّات حول الروح: “كانت اليدان ناعمتين رقيقتين تبدوان كأنهما محمولتان على [هكذا وردت في النص الأصلي] ، جميلتان كالأزهار، محمولتان بنبل على ساق المعصم، كانتا تندفعان منه في خطٍ شامخ قبل أن تتفتحا، كانتا تندفعان منه نحيلتين كالساق نفسها قبل أن تتفتحا. هاتان اليدان اللتان كانتا على ما فيهما من سحر كثير كانتا [هكذا وردت في النص الأصلي] أشد تعبيرًا كوجه ونظرة وأشد إيلامًا كروح، معبرتين كابتسامة أو نظرة. كانتا مستقرتين في العادة، كمخلوقتين جميلتين تعانيان كمنفيين، وكانتا في العادة ممدودتين بشرود، لكنها في هذا المساء كانتا تهتزان على نحو مؤلم. لقد كانتا تعانيان في رشاقتهما.
9. بدل جمال صرف (pure beauté)..
10. خ: المعصم.
11. خ: على نحوٍ غريب (bizarrement).
12. بدلا من: أزهار اليأس (fleurs de désespoir)؛ المسودّة: وكانت تحزن في لغتها
13. م: سريعًا، في ذلك الصغير، كان يمكن رؤية كيف استقرّ….
14. م: ظهرت دموع على…
15. واحدة تلو الأخرى (une à une): إضافة بين السطور.
16. م: كريستيان.
17. المسودّات قرأت، قلبت، انتظرت إحضار [الضوء]، ذهبت نحو الرسالة وأغلقت [الباب] لتقرأ، وقالت أن تنتظر خمس دقائق أخرى لإحضار المصابيح.
18. لو كان يعود فجأة (s’il rentrait brusquement): إضافة بين السطور.
19. م: البقاء في الظلام.
20. م: كريستيان.
21. بدلا من: ولا أن أستغني عن القيام بذلك لفترة أطول.
22. م: جعلني أتخيل أنكِ المختارة التي…
23. بدلا من: مرّ (âpre).
24. من دون أن تدري (sans le savoir): إضافة بين السطور.
25. بدلا من: على الأشجار.
26. م: البحر. أنتِ…
27. بدلا من: لساني (ma langue).
28. بدلا من: حياتي كلها (toute ma vie).
29. بدلا من: قد يكون ذلك ممكنًا (ce serait possible).
30. بدلا من: أن هذه الفكرة تثير فيّ الهلع، ويجب أن أهدأ (que cette idée m’affole et qu’il faut me calmer).
31. م: كريستيان.
32. مسودات: “صريحة تمنح الكمال المطلق، كأنها تضع بصمة [الواقع] الحياة”.
33. بدلا من: كانت تعمل على إخراج ذلك.
34. بدلا من: الوقائع المادية (les faits matériels).
35. ووفق الحياة (et selon la vie): إضافة بين السطور.
36. م كريستيان.
37. م: الزوج. لم يكن بعد…
38. بدلا من: كريمٌ تجاه [زوجها] – نحوها.
39. بدلا من: وقريبًا، إذا أمكن، النسيان.
40. م: رسالة كان يُقال فيها…
41. م: أنت. أحبك كما…
42. بدلا من: كريستيان.
43. م: فرانسواز.
44. بدلا من: فرانسواز.
45. شيء آخر… المصاريع (volets): إضافة بين السطور.
46. مخطوطة: فرانسواز.
47. “لها… صداع”: إضافة بين السطور. توجد عدة إضافات غير متوافقة فيما بينها؛ يمكن تمييز هذه: “أرادت أن ترتاح قليلًا في غرفتها لأنها كانت تعاني من صداع”.
48. بدلا من: “بخط متعرّج”.
49. أنا… أرجوك”: إضافة بين السطور.
50. لكن”: إضافة بين السطور.
51. بدلا من: “سأرحل”. عندها شعرت كريستيان بالخوف.
52. بدلا من: “بالعرض”.
53. م: “اندفعت وأغلقت الأبواب خلفها”.
54. بدلا من: “صلّت لربنا يسوع المسيح”.
55. بدلا من: “ثم بعد قليل”.
56. م: فرانسواز.
57. بدلا من: “أن تتوقف”.
58. “أنا لا… أبدًا”: إضافة بين السطور.
59. بدلا من: فرانسواز.
60. بدلا من: “الاضطراب”.
61. بدلا من: كريستيان.
62. م: “الجيب. ثم قالت لفرانسواز [كذا]: لقد دعوتك إلى هنا لكي آكل قليلًا على أمل أن يخفّ الصداع، لكنه خفّ الآن، لم يعد هناك داعٍ. لنعد. على أي حال…”.
63. “قالت بعد قليل لكريستيان”: إضافة بين السطور.
64. م: “الصباح، لقضاء هذه الأيام القليلة”.
65. بدلا من: “لن أذهب لـ…”.
66. م: “الصباح …الوقت مبكرًا جدًا بالنسبة لي”.
67. بدلا من: فرانسواز.
68. بدلا من: فرانسواز.
69. “مدركةً لحالتها”: إضافة بين السطور.
70. م: “السبب الحقيقي”.
71. فرانسواز… تأتي: إضافة بين السطور.
72. بدلا من: فرانسواز.
73. بدلا من: كريستيان.
74. م: “المشهد. في صباح اليوم التالي…”.
75. بدلا من: “النوافذ التي أُغلقت مصاريعها”.
76. بدلا من: “اشترى”.
77. م: “طردته في اليوم التالي رغم…”.
78. تردد في الأسماء: “كريستيان” مكتوبة فوق “فرانسواز”، و”فرانسواز” فوق “كريستيان”.
79. بدلا من: “قال: أو أنها لم تتخذ عشيقاً، أو إنه قد فات الأوان، ألّا تتخذ عشيقًا.”
80. م: “منقذ. إنّ فقدان العذرية هو…”.
81. م: فرانسواز.
82. م: فرانسواز.
83. بدلا من: “حياة ثانية؛ حياة جديدة”.
84. بدلا من: “في”.
85. م: “سنتحدث في الأمر. لكن في الوقت الراهن… بسرعة”.
86. بدلا من: “التي واجهت الكثير من المخاطر”.
87. بدلا من: “غالبًا”.
88. انظر87.. النص، تطورًا بدأ هنا ويشكّل سردًا منفصلًا عن القصة الحالية.
89. بدلا من: المدفعيون، الصيّاد.
90. خلفهم”: إضافة بين السطور.
91. بدلا من: “لكن سرعان ما…”.
92. بدلا من: “السيئة”.
93. م: “الحيوات هي في آنٍ واحد شهوة…”.
94. م: “تتأرجح من الشهوة إلى الفضيلة”.
95. بدلا من: “القصص الساحرة”.
96. بدلا من: “المساء”.
97. بدلا من: “من دون أن تفضح شيئًا”.
98. بدلا من: “الارتياح”.
99. م: “ربما. إنها نوع من الرسالة التي تطلبها باستمرار، أمامها، تطرد الجميع، وتبقى مع…”.
100. م: “كريس”.
101. “لكي… تعرف”: إضافة بين السطور.
102. م: “فتحت، نظرت”.
103. “كما”: إضافة بين السطور.
104. م: “مجنونة – لم يكن هناك سوى هذه الورقة، قال الطبيب.
105. بدلا من: “ما الذي…”.
106. م: “لم تستطع”.
107. بدلا من: “كانت كريستيان هادئة إلى حد ما”.
108. “بعد أن تمّ إعدادها”: إضافة بين السطور.
109. بدلا من: “سألها بمرح”.
110. وطويلًا”: إضافة بين السطور.
111. بدلا من: “جاء وتحدث”.
112. القسّ من تريفز: إضافة بين السطور؛ هناك قراءة بديلة ممكنة: “تريست”.
113. بدلا من: “كيف يمكنك التردد؟”.
114. بدلا من: “أجاب”.
115. م: “خصوصًا لمن كان سيحرم الله من فرحة كهذه”.
116. بدلا من: “قبل أن يقرر الميل إلى النزاهة”.
117. “في المساء”: إضافة بين السطور.
118. لكي… يخفق: إضافة بين السطور.
119. م: “ثم الخوف من…”.
120. بدلا من: “الدور الذي كان ينبغي أن تقوم به هناك”.
121. بدلا من: “نبل الشخصية”.
122. بدلا من: “الخروج من…”.
123. فقط”: إضافة بين السطور.
124. م: “انتقام من عقلها”.
125. بدلا من: “لا على ساحة معركة السلوك”.
126. بين السطور: “بإضعاف فكرها”.
127. م: “وبتخديرها”.
128. بدلا من: “في”.
129. بدلا من: “من خيالها”.
130. م: “أنها لو كانت انتقمت…”.
131. م: “تُصقل حتى بلوغ اللذائذ”.
132. طبيعية”: إضافة بين السطور.
133. بدلا من: “ملازم”.
134. إلى جانب اسم “أونوريه” بين السطور، يُقرأ اسم “نولاين”؛ انظر لاحقًا: “الجنرال دو نوتلاين”.
135. مسودّات: “قائد عام. كانت تُعتبر عبقريته… كان يُعتبر نابليون عصر الانحطاط، بذكاء رقيق مثل القادة الكبار، وكان سابقًا ذا بأس. الصورة…”.
136. م: “كان قد…”.
137. بين السطور: “جميع المراسم العامة والعسكرية”.
138. حمراء”: إضافة بين السطور.
139. بدلا من: “الصفاء”.
140. م: “أخضر باهت، شعره الطفولي اللامع”.
141. بين السطور: “الأناقة”.
142. بدلا من: “بارعة أيضًا”.
143. بدلا من: “أعطته [كذا]”.
144. م: “القوانين البشرية. كانت…”.
2
ذكرى قبطان
المقدمة:
على عكس القصص الأخرى، هذه القصة ليست غير منشورة سابقًا. فقد قدم برنارد دو فالوا نسخة طبق الأصل منها في صحيفة “لو فيغارو” (Le Figaro) بتاريخ 22 نوفمبر 1952 (ص:7). وأعاد فيليب كولب نشرها، من دون أن يتمكن من الاطلاع على المخطوطة، ضمن “نصوص مارسيل بروست المستعادة” (Textes retrouvés de Marcel Proust) (أوربانا، مطبعة جامعة إلينوي، 1968، ص:84-86؛ أعيد طبعها في باريس، غاليمار، “دفاتر مارسيل بروست”، سلسلة جديدة، رقم3، 1971، ص: 253-255). وبما أن النص يحوي في بعض أجزائه تشطيبًا وإعادة كتابة مكثفة، فقد لوحظت تعديلات طفيفة مقارنة بتلك النسخة السابقة، والتي يوضحها هوامش المتغيرات. (أي الملاحظات التي توضح التغييرات بين المسودات المختلفة).
في هذه الذكرى (انظر الكتيب المصور، الشكل 2)، يلمّح إلى التقارب بين الرجلين من دون تسميته صراحة. ربما بسبب قربه الشديد من تجربة بروست الشخصية، وربما لارتباطه بخدمته العسكرية في أورليانز من 15 نوفمبر 1889 إلى 14 نوفمبر 1890، وقد استبعدت هذه القصة. إن اللقاء الصامت بين القبطان والرقيب يُشكِّل الجزء الأكثر اكتمالًا من القصة، على عكس المقدمة الطويلة التي تتكون من إضافات غير مترابطة يصعب أن تشكل كلًا متماسكًا.
وكما لاحظ برنار دي فالوا، فإن الإشارة إلى قصيدة “حزن أوليمبيو” La tristesse d’Olympio لڤيكتور هوغو، وتحديدًا عبارة “أراد أن يرى كل شيء مرة أخرى” (il voulut tout revoir) ستتطور لاحقًا بشكل بارز على لسان البارون دي شارلوس في رواية “سدوم وعمورة” ضمن “البحث عن الزمن المفقود” يقول شارلوس: “كم هو جميلٌ ذلك المشهد حين يسأل شارلوس هيريرا عن اسم القلعة التي تمر بها عربته: إنه راستينياك، منزل الشاب الذي أحبه ذات يوم. ثم يغرق الكاهن في غمرة من التفكير أطلق عليها سوان، بذكائه المعتاد، “حزن أولمبيو” للمثلية “البحث عن الزمن المفقود”، المجلد الثالث، ص:437”. وردت هذه العبارة في المفكرة الأولى لعام 1908 (المذكرات، ص:32)، لكننا نرى هنا أن الفكرة وإن لم تكن بالصيغة نفسها، تعود إلى وقت أبكر بكثير في هذا النص. يدرس القبطان سلوكياته أمام الرقيب تماما كما يفعل البارون دي شارلوس وهو يراقب البطل في بالبيك (البحث، المجلد الثاني، ص:110-112)، وينبهر بهذا العسكري الشاب مثلما ينبهر شارلوس نفسه عندما يلمح عازف الكمان موريل بالزي العسكري في محطة دونسيير (المجلد الثالث، ص:225). إن الوداع الأخير الذي يوجهه القبطان وهو على ظهر حصانه للرقيب يمهد، بطريقة معاكسة، للتحية الغريبة اللامبالية التي يوجهها سان-لو للبطل من عربته “تيلبري” في رواية “جانب آل غيرمانت” (Le Côté de Guermantes)، وذلك بعد إقامة دافئة في دونسيير: “وبينما كان يبتعد بسرعة قصوى، من دون ابتسامة، ومن دون أن تتحرك عضلة واحدة في وجهه، اكتفى برفع يده لمدة دقيقتين على حافة قبعته العسكرية، وكأنه يرد على جندي لم يكن يعرفه” (البحث، المجلد الثاني، ص: 436).
لكن أصالة القصة تكمن في تقديم شخصية تتحدث بضمير المتكلم، تعاني من عاطفة مثلية من دون أن تُحددها، على الأقل بوعي، كما يتضح من تساؤل “لماذا؟” الذي يبرز في سرده للأحداث، وكذلك القلق الذي يتبع ذلك. لاحقًا، سيوضح مخطط لسدوم وعمورة العلاقة بين هذا الظهور اللاواعي للمثلية الجنسية في الفرد وما أصبح عليه الرهان العام لـ”البحث” (قصة دعوة): “عندما تكون شابًا، لا تعرف أنك مثلي جنسيًا أكثر مما تعرف أنك شاعر” (المجلد الثالث، ص954).
وعلى العموم تستحق تأملات القبطان العامة، حتى وإن كانت صياغتها أقل اكتمالًا من سرده، اهتمامنا لأنها تكشف عن تأمل في الذاكرة وإعادة خلق الواقع من خلال الفكر الذي يسعى إلى التشكل بإلحاح. وينتج عن ذلك رؤى مثيرة للاهتمام حول “الزمن المفقود” المستقبلي، من خلال “ما تفقده بسبب الكسل وما يشبه موهبة صغيرة من اللاوعي واللاتفكير”. ويقع التفكير الفلسفي المستوحى من دراسات بروست في صميم هذه التطورات التي تقابل، كما هو الحال عند فيخته، بين “في داخلي” و”خارج عني”. (“خارج عنّا؟ فينا بالأحرى”، سيكتب راوي “البحث” طواعية – المجلد الثاني، ص:4)، مع ما يترتب على ذلك هنا بالفعل من عواقب على إعداد السرد، الذي يجرب تجريبيًا بدوره الخيارين السرديين المتعارضين، لمقارنة الجانب التأملي الذي يمكن استخلاصه: بناءً على الشطب، يؤكد القبطان تارة أنه “يرى بوضوح شديد” وتارة “لم يعد يرى بوضوح” وجه الرقيب. إن مستقبل رواية بروست التأملية بأكمله يكمن في هذه الترددات الثمينة.
القصة:
كنت قد عدت ذات يوم لأقضي بعض الوقت في هذه البلدة الصغيرة L التي سبق وكنت فيها ملازمًا مدة عام، حيث تملّكني شغف شديد لأرى كل شيء من جديد، الأماكن التي جعلني الحب(1)عاجزًا عن تذكرها من دون أن أشعر بقشعريرة حزن بالغة، والأماكن(2) -على تواضعها- كجدران الثكنة وحديقتنا التي لا تزينها سوى النعم المتنوعة التي يأتي بها الضوء معه وفقًا للوقت، وحالة الطقس والموسم. تلك الأماكن(3) ستبقى إلى الأبد في عالم تخيلاتي الصغير(4) مكسوة برقة وجمال عظيمين. حتى لو لم أفكر فيها لشهور، فإنني ألمحها فجأةً كما يلمح المرء عند منعطف طريق مرتفع قرية، أو كنيسة، أو غابة صغيرة(5)، في ضوء المساء البهيج. فناء الثكنة، والحديقة الصغيرة حيث كنّا أنا وأصدقائي(6) نتناول فيها العشاء في الصيف(7)، لا شك أن الذكرى تصطبغ بتلك النضارة الرقيقة، كما يفعل ضوء الصباح أو المساء الساحر. كانت كل التفاصيل الصغيرة هناك مضاءة تماما وتبدو لي جميلة. أراكم كما لو كنت من تلة. أنتم عالم صغير مكتفٍ بذاته، موجود خارج نطاقي، يتمتع بجماله العذب، في نوره المدهش. وقلبي، قلبي المبتهج آنذاك، الحزين بالنسبة لي الآن ومع ذلك يشعر بالبهجة، لأنه(8) يخطف الآخر بالسحر، العليل، العقيم اليوم(9)، قلبي المبتهج آنئذ، في تلك الحديقة المغمورة بنور الشمس(10)، في فناء الثكنة(11) البعيدة، ولكنها(12) قريبة جدًا، قريبة جدا مني على نحو غريب، ومع ذلك سواء في داخلي أو خارجي، يستحيل أن أصل إليه أبدًا. إنه هناك في البلدة الصغيرة ذات النور الساخر وأنا أسمع(13) صوت أجراس واضح يملأ الشوارع المغمورة بضوء الشمس.
إذن، عدت(14) لأقضي يومًا في تلك المدينة الصغيرة L… وشعرت بحزن أقل مما كنت أخشى عندما وجدتها أقل(15) مما كنت أجدها أحيانًا في قلبي، حيث كنت فيما سبق أجدها في كل مكان أقل مما يجب، وهو ما كان محزنًا حقًا، وفي بعض الدقائق، كان يبعث على اليأس… لدينا الكثير من الفرص المثمرة للشعور باليأس، ولكن الكسل وما يشبه العبقرية الصغيرة من اللاوعي و”اللاتفكير” يجعلنا نفقدها. لذلك، وجدت، أحزانًا عميقة بين الرجال وفي الأشياء في ذلك المكان. ووجدت وأيضًا مباهج غامرة(16) بالكاد كنت أستطيع شرحها ولا يمكن أن أشاركها سوى مع اثنين أو ثلاثة أصدقاء الذين عاشوا حياتي على نحو كامل في ذلك الوقت. “ولكن إليكم ما أود أن أرويه، قبل أن أذهب لتناول العشاء، لألحق بالقطار فورًا بعد ذلك، وكنت قد(17) أمرت مساعدي القديم [هكذا وردت في النص الأصلي] بإرسال بعض الكتب التي نسيتها والذي تغيرت وحدته(18)، وانتقل إلى فوج آخر في المدينة، تتمركز ثكنته في الطرف الآخر من المدينة، التقيته في الشارع في تلك الساعة التي كان فيها شبه مهجور(19) -من الناس(20)-، أمام البوابة الصغيرة لثكنة فوجه الجديد، فتحدثنا لعشر دقائق هناك في الشارع، المضاء بضوء المساء تماما،(21) وكان الشاهد الوحيد رقيبَ الحراسة الذي كان يقرأ جريدة، جالسًا على دكة حجرية، قرب(22) البوابة الصغيرة. لم أعد أتخيل وجهه (23) بوضوح(24) تماما، ولكنه كان طويلًا جدًا، نحيفًا قليلًا مع شيء من الرقة واللطف الرائع في عينيه وفمه. لقد أثر فيّ بسحر غامض تمامًا(25)، فبدأت أنتبه لكلماتي وإيماءاتي، محاولًا أن أرضيه وأن أقول أشياء فيها شيء من الإعجاب، سواء بالمعنى الرقيق، أو بالكثير من اللطف أو الكبرياء. لقد نسيت أن أذكر أنني لم أكن أرتدي زيًا عسكريا(26)، وكنت في عربة مكشوفة(27) كنت قد أوقفتها لأتحدث مع مساعدي. لكن الرقيب الذي كان في الحراسة لم يكن ليخطئ في التعرف على عربة الكونت (س) المكشوفة، أحد رفاقي القدامى الذين ترقوا(28) إلى رتبة ملازم، كان قد وضعها تحت تصرفي لذلك اليوم. فضلا عن ذلك(29) وبينما كان مساعدي السابق(30) وهو ينهي كل إجابة بـ: سيدي النقيب، كان الرقيب يعرف تمامًا(31) رتبتي(32). ولكن العرف لا يقضي (33) بأن يؤدي الجندي التحية للضباط وهم بالزي المدني، ما لم يكونوا منتمين(34) إلى فوجه.
شعرت أن الرقيب كان يصغي إليّ، وكان يرفع نحونا عينيه الهادئتين الرائعتين(35)، ثم يخفضهما نحو جريدته عندما كنت أنظر إليه. ولما كنت حريصًا بشغف (لماذا؟) في أنه كان ينظر إليّ، ارتديت نظارتي الأحادية وتظاهرت بالنظر في كل مكان، متجنبًا النظر في اتجاهه. كان الوقت يمضي، وكان عليّ أن أغادر. لم يكن لي أن أستطيع إطالة الحديث مع مساعدي. فودعته(36) بابتسامة ودّية ممزوجة ببعض الفخر بسبب وجود الرقيب، وأنا أنظر لثانية إلى الرقيب الذي كان جالسًا على دكة حجرية وكانت عيناه الهادئتان الرائعتان تتطلعان إلينا، فحييته بقبعتي ورأسي(37)، وأنا أبتسم له قليلًا. فنهض الرقيب ووقف منتصبًا وثبت يده اليمنى مفتوحة عند حافة قبعته(38)، من دون أن يتركها تسقط كما يفعل العسكري بعد ثانية من أداء التحية العسكرية، وهو يحدق بي بثبات، كما يقتضي النظام، ولكن بارتباك غير معتاد. عندئذٍ، وبينما كنت أطلق العنان لحصان [عربتي] للتحرك، حييته تمامًا، وكأنني كنت أقول له، كصديق قديم بالفعل، في نظراتي وابتسامتي أشياء حميمية لا نهاية لها. وكنت وأنا أتناسى الواقع، بفعل هذا السحر الغامض في النظرات التي تشبه الأرواح التي تنقلنا إلى مملكتها الغامضة حيث تُلغى كل المستحيلات، بقيت حاسر الرأس وقد حملني(39) الحصان(40) بعيدا بما يكفي، ورأسي ما زال ملتفتا نحوه حتى لم أعد أراه على الإطلاق. وكان هو ما زال يؤدي التحية، وقد تلاقت حقًا نظرتان وديتان، وكأنهما خارج الزمان والمكان، نظرتان وديتان واثقتان ومطمئنتان بالفعل.
كنت أتناول العشاء حزينًا، وظللت يومين وأنا في غاية الأسى والحزن، وكانت صورة ذلك الشخص تظهر لي فجأة في أحلامي، وتهزني بالقشعريرة. وبطبيعة الحال، لم أره قط ولن أراه أبدًا. ولكنك ترى الآن أنني لا أتذكر ذلك من ملامحه جيدًا، ولا يبدو لي في ذلك المكان الدافئ الأشقر في ضوء المساء إلا جميلًا جدًا، حزينًا بعض الشيء، على الرغم من غموضه وعدم اكتماله.
[تحرير النص]
1. م: جعلني الحب فيها لا يُنسى.
2. بدلا من: الأماكن الأخرى.
3. بدلا من: تلك الأماكن إلى الأبد.
4. بدلا من: تخيلاتي اليومية.
5. بدلا من: حقل.
6. بدلا من: زملائي (كلمة غير مكتملة).
7. م: نتناول العشاء، ساحة الثكنة.
8. م: يُقنع للحظة.
9. م: اليوم في مرحه.
10. بدلا من: مُضاء.
11.فناء الثكنة”: إضافة بين السطور.
12. و”لكنها”: إضافة بين السطور.
13. بديل: ولهذا السبب أسمع.
14. بدلا من: عدت.
15. م: على الأقل في حد ذاتها، مما.
16. بدلا من: أيضًا بعض المرح الصغير.
17. م: ذهبت لأقول.
18. م: من الفوج إلى الثكنة.
19. م: خالية؛ كان قد خرج للتو.
20. فاصلة منقوطة في المخطوط؛ كان يجب وضع فاصلة عادية.
21. م: لا غير الجالس على حجر في الخدمة.
22. بدلا من: أمام.
23. م: الوجه الذي أتذكره جيدًا.
24. بدلا من: جيدًا.
25. م: جاذبية لا يمكن تفسيرها.
26. بدلا من: أنني لم أكن مرتديًا زيّي العسكري.
27. م: وأنني كنت أستقل عربة مكشوفة.
المنقح استخدم هنا phaéton dans بدلا من en phaéton] ملاحظة المترجم
28. بدلا من: علاوة على ذلك.
29. بدلا من: أحد أصدقائي.
30. م: فضلا وهو يجيبني [على نحو متكرر جدًا] بعد كل.
31. بدلا من: لا يمكنه أن يجهل؛ م: يعرف جيدًا أنني كنت.
32. بدلا من: يعرف جيدًا من أكون؛ رتبتي.
33. م: لا يُطلب أداء.
34. م: ينتمون لنفس.
35. رائع”: إضافة بين السطور.
36. م: ببعض التعالي.
37. م: خلعت قبعتي بالكامل.
38. بدلا من: ملتصقة بحافة الكبّة.
39. بدلا من: خاصتي [المقصود ضمير التملك م.].
40. ما بين قد ……الحصان: إضافة بين الأسطر.
3
جاك لوفيلد
(الغريب)
المقدمة:
[قصة جديدة غامضة، لن يُكشف لغزها بسبب غياب خاتمتها. لماذا يعود جاك لوفيلد كل يوم إلى المكان نفسه؟ ولماذا تتحول كآبته في أحد الأيام إلى فرح؟ المخطوطة تتوقف قبل أن أن تقدم الإجابة.
يبدو أن هذه التأملات في غابة بولوني حول البحيرة تُنبئ بالجزء الأخير من رواية “جانب سوان” كما سنقرأ هنا: “في أواخر أغسطس/ آب الماضي، بينما كنت أعبر غابة بولوني. لكن التجربة الروسيانية [أتباع جان جاك روسو.م] في قاع القارب لن تفصح عن سرها. لقد اختير اسم الكاتب جاك لوفيلد لأنه لا يوجد كاتب حقيقي مدرج بهذا الاسم.
تستحضر نزهات الكاتب الشاب جاك لوفيلد الغامضة في الغابة مشاهد مماثلة وصفها أصدقاء بروست، لا سيما رينالدو هان الذي روى توقفه الطويل وحيدًا أمام شجيرة ورد البنغال (“نزهة”، في تكريم مارسيل بروست، الطبعة الجديدة الفرنسية، العدد 112، الأول من يناير/كانون الثاني 1923، ص:39-40).
يذكر هذا العاشق الذي لا يجد سلواه، والذي يُرى دائمًا في الزاوية نفسها من الحديقة، على نحو أدق قصة ستاندال في الفصل التاسع والعشرين من كتاب “عن الحب”. حيث تُظهر هذه القصة الكونت ديلفانت الذي يبدو أنه نسخة موازية لستاندال نفسه، ويُذكر على النحو التالي (في لومبارديا): “في بستان من أشجار الغار بحديقة زامبيري التي تطل على الطريق الذي كنت أسلكه ويؤدي إلى شلال رينو في كازا-ليتشيو، رأيت الكونت ديلفانت؛ كان غارقًا في التأمل، وعلى الرغم من أننا قضينا السهرة معًا حتى الثانية بعد منتصف الليل، إلا أنه بالكاد رد على تحيتي. ذهبت إلى الشلال، وعبرت نهر رينو؛ وأخيرًا، بعد ثلاث ساعات على الأقل، عندما مررت مرة أخرى تحت بستان حديقة زامبيري، رأيته مرة أخرى؛ كان بالضبط في الوضع نفسه، مستندًا إلى شجرة صنوبر كبيرة ترتفع تعلو بستان الغار (من كتاب “عن الحب”، نص تحقيق وتقديم هنري مارتينو، باريس، أرمان كولان، 1959، ص:111-112). كان دلفانت في تلك اللحظة غارقًا في التفكير بأن حبه لم يكن سوى من طرف واحد. وهذا ما اسماه بروست، في رسالة إلى دانيال هاليفي عام 1907، بـ”تلك القصص القصيرة التوضيحية التي يدرجها ستندال في كتاب “عن الحب” (المراسلات، المجلد 21، ص:619).
سيظهر جاك لوفيلد مرة أخرى مجهول الهوية في “البحث عن الزمن المفقود” سيكون ذلك في كومبراي، في نزهة جانب غيرمانت، على ضفاف نهر فيفون: “كم من مرة رأيت، وتمنيت أن أقلّد عندما أصبح حرًا لأعيش كما أشاء، مُجدِّفًا كان قد ترك المجداف، واستلقى على ظهره، ورأسه للأسفل، في قاع قاربه، تاركًا إياه يطفو مع التيار، لا يرى سوى السماء التي كانت تمر ببطء فوقه، وقد ارتسمت على وجهه ملامح السعادة والسلام” (البحث، ط 1، ص:168). ط، ص:168].
القصة:
لم أعد ألتقي(1) بجاك لوفيلد مرة أخرى منذ أن غادرت جسر الفنون متوجهًا إلى باسي، حيث لا يزال يعيش(2) [هكذا وردت في النص] في أواخر شهر أغسطس/ آب(3) الماضي بينما كنت أعبر غابة بولوني(4) عائدًا إلى منزلي حوالي الساعة التاسعة مساءً، لمحت جاك لوفيلد الذي كان5 متجهًا نحو البحيرة الكبرى. لمحني، وعلى الفور أدار رأسه وحث الخطى. ما لبثت أن أدركته. أنتم الذين قرأتم “مقالاته”(6) تعلمون(7) عمق فكر جاك لوفيلد، وتفرّد خياله(8). ولكن إن كنتم لا تعرفون رقة شخصيته الودودة فلن تفهموا كيف أنني كنت أستبعد على الفور أي فكرة بأنه قد يكون غاضبًا مني، وكنت أفترض فقط أنه كان ذاهبا إلى موعد ما. كانت الأيام التالية جميلة، وكنت أواصل العودة إلى منزلي سيرًا على الأقدام.. وفي كل يوم كنت ألتقي جاك لوفيلد، وكل يوم كان يتجنبني.. كنت أراه مرة أخرى عند منعطف زقاق الملكة مارغريت، يمشي ذهابًا وإيابًا، وكأنه ينتظر شخصًا ما. كان ينظر في كل اتجاه، وأحيانًا كان يرفع رأسه نحو السماء كعاشق. في اليوم الرابع كنت أتناول الغداء في فوايا(9) مع صديق لجاك، روى لي أنه منذ انفصاله عن الراقصة الصغيرة گيجي، وهو الانفصال الذي حاول خلاله الانتحار، تخلى جاك عن النساء إلى الأبد. يمكنكم أن تفهموا لماذا أبتسم. في الأيام التي تلت، لم أعد ألتقيه. وفي صباح أحد الأيام التالية، قرأت في صحيفة لو غولوا الخبر التالي: كاتبنا الشاب والشهير السيد(10) جاك لوفيلد يغادر غدًا إلى منطقة بريتاني حيث سيمكث عدة أشهر(11)”. في ذلك اليوم، صادفته بالقرب من محطة سان لازار. لم يكن من المفترض أن أراه مرة أخرى قبل أكتوبر/ تِشْرين الأوّل، على الأرجح، فأوقفته. قال لي: “أستميحك عذرًا، لكنني سأغادر هذا المساء في الساعة التاسعة، وأريد أن أذهب إلى غابة بولوني قبل أن أعود لتناول العشاء، وسأسرع لأركب قطار الدائرة…” لم أكن متفاجئًا، لكنني قلت له: “ستصل أسرع بسيارة أجرة”، قال لي: يا للأسف، لم يعد معي(12) سوى عشرين سنتيمًا. لم أكن أريد أن أكون فضوليًا، لكنني قلت له: “كان بوسعي أن أوصلك وسأنزلك حيثما تشاء، حسنًا، موافق، قال وهو يبدو سعيدًا ومحرجًا في آن واحد. ولكن ألن تتركني عند مدخل البحيرة، لأنني أشعر بالحاجة إلى أن أكون وحدي؟ عند مدخل البحيرة ترجل وابتعدتُ أنا بالسيارة؛ ولكني لم أستطع أن أقاوم رغبتي في أن أرى من الطريق الموازي تلك التي جاء صديقي ليودعها. كان الوقت يمرّ ولم أكن أراها قادمة؛ كان جاك يتمشى بمحاذاة الماء مطأطئ الرأس نحو الماء وتارة يرفعه نحو الأشجار العالية ثم يعود به إلى الماء. وكان تارة يمشي بسرعة، وتارة يتمهل في خطواته، وبعد نصف ساعة رأيته عائدًا، ولكنه لم يكن محبطًا كعاشق انتظر عبثًا(13)، بل كان رأسه مرفوعًا ويمشي بخطى سريعة وهيئة ظافرة. لم أكن أفهم شيئًا، كنت أفكر في الأمر ثم لم أعد أبالي به. في العام الماضي جاء صديقي (L) الذي كان قد عين وزيرًا [تخمينيًا] في XXX ليقضي شهرا في باريس في الفندق الذي يقع على ناصية حدائق لوكسمبورج، وكنت أذهب لزيارته كل يوم، وفي عصر أحد الأيام وبينما أنا أغادره صادفت جاك لوفيلد الذي لم أكن قد رأيته منذ ذلك الحين والذي كان يبدو مستاءً من لقائي به. تركني بسرعة. وعدت أنا إلى المنزل مستاءً.
وفي اليوم التالي وفي الساعة نفسها التقيت به مرة أخرى. حاول أن يتجنبني، لكنني أوقفته. بدأت الأمطار، التي كان تنذر منذ وقت بغزارتها، فدخلنا متحف لوكسمبورج لنحتمي به(14) قلت له [كذا]: لم أرك منذ اليوم الذي سرني فيه الذهاب معك إلى الغابة، هل لي أن أسألك، من دون تطفّل، عمّا كنت تذهب لتفعله هناك؟ كان جاك خجولًا جدًا(15) فاحمر وجهه إلى حد ما. وقال وهو يبتسم بلطف: “قد أبدو غبيًا، ولكنني سأخبرك أنني حيثما كنت أتناول العشاء في شاليه الجزيرة للمرة الثانية، وحيث كنت حزينًا جدًا، بدت لي بحيرة الغابة التي لم تكن تلفت انتباهي من قبل، جميلة جدًا لدرجة أنني لم أستطع مقاومة الرغبة في العودة لرؤيتها في اليوم التالي. لقد كنت مغرمًا بها حقًا طوال خمسة عشر يومًا. لم أكن أعرف أي طريق أسلك لأتجنب مقابلة أشخاص أعرفهم، لأنني عندما لم أكن معها بمفردي لم تكن لتخبرني بشيء. وكان اليوم الذي أوصلتني فيه هو يوم مغادرتي. لم أكن أريد أن أغادر من دون أن أراها مرة أخرى. ومن ثم(16) كنت أريد قبل أن أغادر باريس أن أستخلص خاتمة السنة المنصرمة(17) ولأمنح نفسي القدرة على استيعابها، وفهمها، والحكم عليها، لا شيء يمكن أن يضاهي النشوة الكئيبة التي كنت أتذوقها على شاطئ تلك المياه الجميلة التي كنت مفتونًا بها، وحيث كانت السماء في ذلك المساء تستريح حزينة للغاية بين طيور البجع(18) والقوارب التي كانت تمر(19) تمامًا مثل روحي المنفصلة عن الأرض، بين المروج(20) والزهور على الشاطئ، والتي كانت في تلك اللحظة التي تلي غروب الشمس أكثر كثافة، وأكثر واقعية على نحو عنيف(21). مثل الشاب المجدّف (22) الذي كان مستلقيًا في القاع، تاركًا الآخر يجدّف، كانت روحي تتذوق في آنٍ معًا(23) متعة السرعة والسكينة، وكانت تنساب بخفة فوق أسطح ناعمة ومجيدة مثل تلك المياه الساحرة، التي سبق وقد بدأت تنتعش ببرودة الليل(24)، وما زالت تتلألأ بضوء(25) النهار كان الهواء الذي يكتنف المياه نقيًا للغاية. أليست الروح مثل الهواء إلى حدٍ ما؟ فأيُّ فضاء شاسع(26) تفتحهُ لها، فإنها تملأه. والروح التي تعاني من كونها مضغوطة بسبب محاور، أو اهتمام، أو جدار قريب جدًا، تمتدّ بفرح، بطريقة ملكية، وحرية، في آفاق(27) لا متناهية، وتعلو ثانية من دون عناء بسرعة مثيرة وكئيبة، مجرى المياه والسنين”.
“هل يمكنني أن أصطحبك مرة أخرى؟” قلت له، وأنا… [قُطع].
[تحرير النص]
1. بدلا من الفعل: voyais كان يرى.
2. بدلا من جملة: منذ سكنتُ في باسي، منذ أن لم أعد أسكن في حي جسر الفنون، قبل ثلاث سنوات، في إحدى الأمسيات، وأنا في طريقي إلى المنزل…
3. بدلا من: يوليو/ تموز.
4. م: بولوني في وقت متأخر من بعد الظهر.
5. م: الذي كان يمشي بسرعة.
6. بدلا من: “مقالاته” العميقة والغريبة.
7. م: كما تعلم، يا له من فكر نادر.
8. بدلا من: الخيال الغريب.
9. تخميني؛ إضافة بين السطور.
10. م: إضافة بين السطور.
11. بدلا من: حيث إلخ.
12. جملة في منتصف السطر: لا يوجد قطار قبل نصف ساعة.
13. دائمًا وحيدًا: إضافة بين السطور.
14. م: إيواء. قلت له يا صديقي لم أرك منذ اليوم الذي أوصلتني فيه بلطف إلى الغابة، أنا ممتن جدًا لك، أنت مدين لي [افتراضي] بمتعة كبيرة. هل ما زلت تذهب.
15. جاك… خجول: إضافة بين السطور.
16. م: ثم كان اليوم الأخير من.
17. م: انتهت. أين يمكنني على نحو أفضل أفضل.
18. م: والضباب النائم.
19. بدلا من: كان ينزلق.
20. بدلا من: الخضرة.
21. بدلا من: على نحو غريب.
22. بدلا من: البحّار.
23. في الوقت نفسه: إضافة بين السطور.
24. بدلا من: بالمساء.
25. مسودات: ضوء، بجعلي أصل في الوقت المناسب في عربتك، تسببت لي في ذلك بكبيرة جدًا. عقلك لديه مثل. عقلك يشبه الـ.
26. بدلا من: كبير.
27. م: الفضاءات.
4
بعد سيمفونية بيتهوفن الثامنة
المقدمة:
[يعتمد هذا النص المكتوب على صفحتين على لعبة الألغاز: نظن أننا نقرأ مونولوجًا غراميًا، حتى تُعيد الكلمات الأخيرة تمامًا ترتيب معنى النص بأكمله. يبدو أن بروست كان قد اطّلع بالفعل على نظرية شوبنهاور، التي ستغذّي لاحقًا بكفاءة عالية أوصافه الموسيقية لأعمال فانتي Vinteuil فوفقًا لهذه النظرية، فإن المستمع لقطعة موسيقية، الذي يتاح له بشكل استثنائي عبر الموسيقى سماع صوت الإرادة، يُطبق على هذا الصوت التمثّلات التي توفّرها له مخيلته، ويربط بذلك غريزيًا بين اللحن والصور، من دون أن يكون هناك ما يبرّر هذا الربط. يتجلى في هذه السطور ثمّة أساس فلسفي خفي للغاية: الجوهر العصي على الإمساك به في تجلياته، والشكل الذي لا يخضع لمادته (أرسطو)، واللانهائي المختزل في المتناهي (شيلنغ). لكن الإشارة إلى الكلمة المسيحية: “مملكتي ليست من هذا العالم”، تُضفي على هذه التأملات هالةً صوفية من فترة نهاية القرن، التي نجدها أيضًا في الاقتباسات الافتتاحية في جميع أنحاء مجموعة “المسرات والأيام”.
على مقربة من الفعل (يكبح/يقمع refouler)، يفسر علم النفس التحليلي في علاقته بالربو الذي يعاني منه بروست، صور الهواء الذي نستنشقه، وهو يملأ الفضاء أو يواجه حدودًا وجدرانًا، في سياق الرغبة التي تُتبادل أو تبقى غير متواصلة. وهناك تلميح إنجيلي آخر، إلى الوعد الذي قطعه الملاك لرجال من ذوي الإرادة الصالحة، سيظهر من جديد في رواية الهاربة (La Fugitive)* في اللحظة التي يصل فيها بطل “البحث عن الزمن المفقود” إلى البندقية ويرى “ملاك برج الجرس في ساحة القديس مرقس” (Ange du Campanile)، ويتأمل بحزن في هذا الوعد الذي لم يتحقق له بعد (البحث، المجلد الرابع، ص:202). في غضون ذلك، سيُجسّد لحن سوناتا فانتي الدوّار أمام سوان هذا الجوهر المستعصي على الفهم للحب، وما وراء الحياة نفسها. وفي مواجهة هذا الجمال العابر، يتأمل المستمع الشاب اليوم في ظاهرة الجاذبية، ولاحقًا، يود البارون دي شارلوس في إعادة تسمية عازف الكمان موريل إلى شارميل. إن الخيال، الذي يعيد هنا بناء مملكة الموسيقى، هو السلف البعيد لعصر المعتقدات الذي سيكون يومًا ما الخطوة الأولى في تطور بطل “البحث عن الزمن المفقود“].
القصة:
نسمع أحيانًا عن جمال امرأة(1)، أو عن لُطْف رجلٍ أو فرادته(2)، أو عن سخاء موقفٍ ما(3)، تعدُنا(4) بالنعم. لكن سرعان ما يشعر عقلنا أن هذه الوعود الممتعة، وأن الكائن الذي أطلقها لم يكن أبدًا في وضع يمكنه من الوفاء بها، فيناضل العقل بنفاد صبر ضد الجدار الذي يصده، مثل(5) الهواء الذي، كالعقل، يطمح دائمًا لملء فضاءات (6) أوسع، فيندفع بمجرد أن يُفتح له مجال أرحب، ثم يُضغط من جديد. ذات مساء مخدوعا بعينيك ومشيك وصوتك(7)، لكنني أعرف الآن بالضبط إلى أي مدى يصل الأمر، وكيف أن الحد قريب، واللحظة التي لم تعد أن تقول فيها شيئًا بعد، تاركًا عينيك تتلألآن أكثر في الفراغ للحظة كضوء لا يمكن الحفاظ(8) عليه طويلًا بهذا القدر من اللمعان. وأعلم أيضا، أيها الشاعر العزيز، إلى أي مدى يمتد لطفك تجاهي ومن أين يأتي، وكذلك قانون أصالتك الذي بمجرد اكتشافه(9) يسمح بالتنبؤ بمفاجآته المنتظمة واستنفاد ما يبدو أنه لا نهاية له. كل النعمة التي يمكنك أن تهبني إياها موجودة هناك، عاجزة عن التنامي مع رغبتي، والتنوّع بحسب(10) هواي، وعن الاتحاد مع كينونتي، وعن إطاعة(11) قلبي وعن توجيه عقلي. يمكنني أن ألمسها ولا يمكنني تحريكها. إنها الحد الفاصل. بالكاد بلغته وقد تجاوزته بالفعل. ومع ذلك، هناك مملكة(12) في هذا العالم، أراد الله أن تكون فيها مشيئته قادرةً على الوفاء بالوعود التي كانت توعدنا، وأن تنزل لتعزف مع أحلامنا، وترفعها لتوجهها، مستعيرةً منها شكلها، ومانحةً إيّاها بهجتها، متغيّرةً وليست عصية على الإمساك بها، بل بالأحرى متنامية ومتنوعة بفعل التملك نفسه. مملكة حيث نظرة من رغبتنا تمنحنا في الحال ابتسامة من جمال(13)، تتحوّل(14) في قلوبنا إلى حنان، وتجعلنا نشعر في اللامتناهي؛ حيث يتذوق المرء بلا حراك دُوار السرعة، وبلا تعب(15)، وإرهاق الصراع، وبلا خطر نشوة الانزلاق(16)، والقفز، والطيران، حيث تتناسب القوة في كل دقيقة مع الإرادة، واللذة مع الرغبة، وحيث تتسارع كل الأشياء في كل لحظة لخدمة خيالنا وملئه من دون أن تُتعبه، وحيث ما إن نستشعر بجاذبية [ما]، حتى تتحد بها آلاف المفاتن، المتنوّعة، ولكنها متآمرة متآلفة، تستولي على روحنا [كذا]، في شبكة تزداد ضيقًا واتساعًا ونعومة في كل دقيقة: تلك هي مملكة الموسيقى.
[صفحتان مخطوطتان منفصلتان قد تكونان متصلتين بهذه القصة. إن مذهب شوبنهاور في الموسيقى ينحرف هنا للتعويض عن عدم التواصل بين الأرواح].
أحيانًا، تترك لنا امرأة أو رجل، كنافذة معتمة تضيء بصورة خافتة، الرشاقة، والشجاعة، والتفاني، والأمل، والحزن. لكن الحياة البشرية معقدة، وجادة للغاية، وممتلئة بذاتها على نحو مفرط، وكأنها مثقلة(17) تماما؛ فالجسد البشري بتعبيراته المتعددة والتاريخ العالمي الذي يرتديه مكتوبًا عليه، يجعلنا نفكر في أمور كثيرة جدًا لدرجة ألا تكون امرأة أبدًا بالنسبة لنا هي: النعمة بلا إضافات، والشجاعة بلا قيود، والتفاني بلا تحفظات، والأمل بلا حدود، والحزن بلا شوائب(18). ولكي نتذوق(19) تأمل هذه الحقائق الخفية التي هي حلم حياتنا، ولكي لا ينتابنا فقط، أمام النساء والرجال، رعشة إحساسنا المسبق بها، فإننا نحتاج(20) إلى أرواح نقية، أرواح غير مرئية، وعباقرة يملكون سرعة الطيران من دون مادية الأجنحة، يمنحوننا مشهد تنهداتهم، واندفاعهم، ورشاقة حركاتهم، من دون تجسيدها في(21) أي جسد(22). لأنه لو كانت أجسادنا تستطيع أن تستمتع بذلك أيضًا، لكان لا بد أن تتجسد(23) حركة أرواحها، ولكن في جسد خفيّ، بلا حجم ولا لون، بعيد وقريب جدًا منا في آن، يمنحنا(24) في أعمق أعماق ذواتنا(25) إحساسًا بنضارته من دون أن تكون له درجة حرارة، وبلونه من دون أن يكون مرئيًا، وبحضوره من دون أن يشغل حيزًا. كذلك، يجب أن يكون -متحررًا من كل شروط الحياة- سريعًا كالثانية ودقيقًا مثلها، فلا شيء يؤخر اندفاعه، ولا شيء يعوق روعته، ولا شيء يثقل تنهيدته، ولا شيء يخنق شكواه. نحن ندرك في هذا الجسد الدقيق، اللذيذ والخفي، تفاعل هذه الجواهر النقية. إنها الروح المكسوّة بالصوت، أو بالأحرى هجرة الروح عبر الأصوات، إنها الموسيقى.
هامش المترجم
*شغف الراوي بألبيرتين، كما تصوّره “السجينة”، لا ينطفئ باختفاء الفتاة التي تركته قبل أن توافيّها المنية بأشهر. “الهاربة” تحكي لنا كيف يخبو عذاب الغيرة ليُفسح المجال أولًا لرحلة طويلة من الحزن والندم، ولكن الأهم، لتجربة النسيان واستيقاظ الدعوة الفنية التي تُشكّل مفتاح الوصول إلى واقع أعلى. “هذا أقوى ما كتبت”، قال بروست عن “الهاربة”. فالتعبير عن معاناة الحب وتحولات الزمن في الكائنات يبلغ هنا كمالًا لا يُضاهى. وعلى حد قول بول فليري: لم يُمسك الحياة بالفعل ذاته، بل لاحقها -وكأنه يحاكيها- عبر فيض الترابطات التي كانت أدنى صورة لها تجدها بسهولة في جوهر الكاتب نفسه. لقد منح جذورًا لا نهائية لكل بذور التحليل التي زرعتها ظروف حياته في مدّته الزمنية”.
[تحرير النص]
1. بدايات متعددة (م): تُظهر كيف كان بروست يجرب صيغًا مختلفة قبل أن يستقر على الشكل النهائي. “أحيانًا في وهج جمال امرأة، في الآفاق التي يفتحها لنا لطف رجل أو…” وأحيانًا وسط الأضواء التي تشع من امرأة جميلة، في المستقبل. نسمع أحيانًا، بصوت خافت، من أحدنا، نسمع صوتًا مبهمًا وحاضرًا، كاذبًا لدرجة أننا كثيرًا ما نشك بعد ذلك إن كنا لم نسمعه في حلم. وأحيانًا، جمال امرأة، لطف أو تفرد رجل، سحر ظرف ما [يهمسون] يقولون لنا بصوت خافت، كـ كلمات أُسيء فهمها يُعتقد…
2. أو فرادته”: إضافة بين الأسطر.
3. مخطوطة: “ظروف تهمس لنا، بصوت مبهم [مشطوب]”.
4. بدلا من: “نحن نهمس بالوعود”.
5. بدلا من: “مثل هذا”.
6. مخطوطة: “مساحات، إذا بعد أن…” م أخرى: “إذا اتسعت مساحة تحتوي على هواء، يندفع الهواء ويحتلها بالكامل”.
7. مخطوطة: “صوت. لقد…”.
8. بدلا من: “يسمح”.
9. بدلا من: “معروفة”.
10. بدلا من: “مع”؛ “حسب رغبتي”.
11. بدلا من: “يأمر”.
12. بدلا من: “عالم”.
13. بدلا من: “نظرة نُبادلها بابتسامة وتُعاد إلينا”.
14. مخطوطة: “جمال، ثم إيماءة”.
15. بدلا من: “خطر”.
16. مخطوطة: “الانزلاق، السباحة”.
17. أكثر جدية… مثقلة”: إضافة بين الأسطر.
18. م: “مزيج. لكيلا يكون لدينا أكثر من رعشة شعورنا المسبق، يجب أن يكون لدينا (انظر لاحقًا)”.
19. بدلا من: “امتلاك”.
20. م: “يجب أن يكون لدينا”.
21. بدلا من: “خاصتهم”.
22. مسودات: “جسد. لكن لكي يستطيع جسدنا أيضًا أن يستمتع بهذا الاحتفال، لأن الاحتفال سيكون أكثر إثارة”.
23. بين الأسطر: “الاحتفال سيكون أجمل”.
24. نحن: إضافة بين الأسطر.
25. نفسه: إضافة بين الأسطر.
المصادر والمراجع
– مراسلات مارسيل بروست (Correspondance de Marcel Proust)، إعداد وتحرير وتقديم فيليب كولب، باريس، بلون، 21 مجلدًا، 1970-1993.
– المسرّات والأيام (Les Plaisirs et les Jours)، ورواية جان سانتي (Jean Santeuil)، نشرهما بيير كلارك وإيف ساندرا، باريس، غاليمار، ضمن سلسلة “مكتبة البلياد”، 1971.
– النسخة الأصلية من كتاب “ضد سانت-بيف متبوعًا بمختارات جديدة” (بترتيب مختلف)، بمقدمة بقلم برنار دو فالوا، باريس، غاليمار، 1954.
– الدفاتر، نشرها كل من فلورانس كالو وأنطوان كومبانيون، باريس، غاليمار، 2002.”
– ضد سانت-بيف (Contre Sainte-Beuve)، محاكاة ساخرة ومختارات (Pastiches et Mélanges)، ودراسات ومقالات (Essais et articles)، نشرهما بيير كلارك وإيف ساندرا، باريس، غاليمار، ضمن سلسلة “مكتبة لا بلياد”، 1971.
[الطبعة الأصلية لكتاب ضد سانت-بيف متبوعًا بـ مختارات جديدة (Nouveaux Mélanges)، بترتيب مختلف، مقدمة بقلم برنار دو فالوا، باريس، غاليمار، 1954.]
دفاتر (Carnets)، نشرتها فلورانس كالو وأنطوان كومبانيون، باريس، غاليمار، 2002.
هوامش المترجم
1.إنجيل أميّن La Bible d’Amiens هو عمل كتبه الناقد الفني وعالم الاجتماع الإنجليزي (جون راسكين Ruskin Ruskin)
(8 فبراير 1819 – 20 يناير 1900). نُشر الكتاب عام 1884 باللغة الإنجليزية ثم تُرجم إلى الفرنسية على يد مارسيل بروست الذي كتب مقدمةً طويلةً لترجمته، مصحوبةً بالعديد من الحواشي. يعتبر الكتاب تحليلًا نقديًا لكاتدرائية أميّن، مستكشفًا العلاقة بين الفن والمجتمع. يركز راسكين على قيمة العمل اليدوي والفني، ويدرس تاريخ الكاتدرائية وجمالياتها. كتب بروست مقدمةً طويلةً لترجمته، مصحوبةً بالعديد من الحواشي. وصدر (سمسم والزنابق) عام 1865 الإنجليزية، وترجمه إلى الفرنسية مارسيل بروست أيضا عام 1906. يعتبر هذا الكتاب من الأعمال الهامة في مجال النقد الفني والأدب.
2. اقتباس المترجم، من مقدمة الكاتب لقصة ( هبة الجنيات) لتوضيح المعنى.
3. هذه الرواية (جينيت شاتينيه) لم تلق عند نشرها عام 1910، أي صدى يُذكر: فقط مراجعة واحدة في “لو فيغارو” ولا شيء غير ذلك في الصحافة. الكتاب لم يُنس فحسب منذ ذلك الحين، بل أصبح من المستحيل العثور عليه. ومع ذلك، فهذا هو الكتاب الذي قرأ بروست مخطوطته، والذي قدّم بشأنه سلسلة من النصائح لمؤلفه، مصحوبة بمديح شديد. ومن خلال مواجهة نص هذه الرواية المهملة نقديًا بسبب عدم إتاحتها، مع ملاحظات بروست التي يجب قراءتها في ضوء “البحث عن الزمن المفقود”، سيبرز من هذا التباين فهمٌ أفضل للتوجهات -الغامضة على الأقل- التي اتخذها الكاتب في مجال الأدب المعاصر.
4. جان دو لا برويير (Jean de La Bruyère) آب: 16 أُغُسْطُس 1645- 11 أيّار: مايُو 1696، اشتهر لا برويير بعمل واحد، هو “الشخصيات أو أخلاقيات القرن السابع عشر” (1688). ويُعد هذا العمل، الذي يتألف من مجموعة من النصوص الأدبية القصيرة، سجلًا أساسيًا لروح القرن السابع عشر. كان لا برويير من أوائل الكُتّاب الذين ركّزوا على الأسلوب الأدبي، مُطوّرًا صياغة إيقاعية تُغلب فيها آثار القطيعة. يُشجع هذا الأسلوب على القراءة بصوت عالٍ، مما يُضفي على هذا النشاط صفة الحكم الأخلاقي بفضل التأثير البلاغي الذي تُحققه القراءة الشفهية على المستمع. يُخصص لا برويير قسمًا كاملًا من “الشخصيات” لآثار البلاغة السلبية. لقد سار العديد من الكتاب على النهج الأسلوبي الذي اتبعه لابرويير: من ماريفو إلى بروست وأندريه جيد، مرورًا ببلزاك.
*تضمن الكتاب تسع قصص، وفصلا عن مصادر “البحث عن الزمن المفقود” وكالآتي:
– بولين دو س. (Pauline de S.)
– المراسل الغامض (Le mystérieux correspondant)
– ذكرى قبطان (Souvenir d’un capitaine)
– جاك لوفيلد (الغريب) (Jacques Lefelde (L’Étranger))
– إلى الجحيم (Aux Enfers)
– بعد سيمفونية بيتهوفن الثامنة (Après la 8e symphonie de Beethoven)
– وعي حبه (La conscience de l’aimer)
– هبة الجنيات (Le don des fées)
– هكذا أحبّ..” (« C’est ainsi qu’il avait aimé… »)
– من مصادر “البحث عن الزمن المفقود”، بقلم لوك فرايس (Aux sources de la Recherche du temps perdu, par Luc Fraisse)
– دفتر الرسوم التوضيحية (Cahier d’illustrations)
اخترنا منها أربعا:
– المراسل الغامض (Le mystérieux correspondant)
– ذكرى قبطان (Souvenir d’un capitaine)
– جاك لوفيلد (الغريب) (Jacques Lefelde (L’Étranger))
– بعد سيمفونية بيتهوفن الثامنة (Après la 8e symphonie de Beethoven