في مناخات العصر الوسيط الاسلامي، وخاصة في العصر العباسي الثاني، وحيث همش خلفاء بني العباس، وفقدت الخلافة قداستها القديمة، ولم يبق منها الا هواجس الحنين المؤرق للمثال المشتهى، تمت صياغة مثال السؤدد في ظل سلطة لم تعد تحتفي بوهج المثال، بل غدت تستهين بما يدور من أحاديث وأقوال في أوساط الخاصة والنخب حولها، بقدر لا مبالاتها بما كان يدور بصددها في ملكوت الخفاء، ومساحات الاستتار بين العامة والدهماء.
يقول التوحيدي في المثالب في وصف السؤدد الحق:-
«والذي أقول غير محتشم ولا مراقب: أن السؤدد لا يكون إلا باحتمال خصال من الصبر والحلم والتكرم والبذل والعطاء والتفقد، وهن أثقل مما يعانيه الزائر بأمله، والفقير برجائه، والشاعر بطمعه.. اللهم إلا أن يكون السيد يجري في هذه الأخلاق والشيم على الهوى، فيعطى من كان أخف روحا عنده وأحلى شمائل وألطف فضلا … فهذا ليس عليه من ثقل السؤدد شيء … وما هذا من السؤدد إذا كان صريحا، تاما عريقا في شيء(ص91).. قيل لعدي بن حاتم: من السيد؟ قال:- الأحمق في ماله، الذليل في عرضه، المطرح لحقده، المعنى بأمر جماعته، فليس يسود المرء إلا بعد أن يسهر من أول ليله إلى آخره فكرا في قضاء الحقوق، وكف السفاه وازدراع المحبة في القلوب، وبعث الألسنة على الشكر وفي الجملة من جهل حقك، فليس يلزمك أن تعترف له بحقه(ص92)… وأجهد أن تسل من تحت مصلى الرئيس أو مخدته… تذكرته، وأنظر فيها: فإن كان قد كتب بخطه يتفقد فلان بكذا، أو يسأل عن فلان لينظر في مصلحته … ويقلد فلان لينجبر قليلا، ويعفي عن فلان وإن كان عظيم الجرم، ويستصلح أمر فلان وإن كان قد سد طريق ذلك … فإن كانت التذكرة مشتملة على هذه وأشباهها، فاعلم أن الله قد استخلف صاحبها على عباده، وجعله منار للمحتاجين في بلاده، وإن كان على غير هذا … فلا تقدسه بثنائك، ولا تعص ربك بحسن ظنك فيه، وعده من الموتى»(مثالب الوزيرين)
وناهيك عن هذا العنف الرمزي الذي لا يكف عن تبرير ذاته وتأكيد مشروعيته داخل خطاب المثالب، والخوف المضمر، والشعور الحاد بالحصار والمراقبة، ومن ثم اتخاذ موقف دفاعى مبدئي دون مبرر واضح، فإن الحديث عن السؤدد ما بين الواقع الفعلي والردىء، والمثال المتطلع إليه، يبدو بوصفه حلما بعيد المنال، وكل النماذج الواقعية مجرد صور زائفة باطلة إذا ما قيست به، بل ليس لها أن تطمح نحوه كما ذكرنا آنفا. وبالطبع وحين يتجاوز الحديث حدود الوزيرين المشخصين ليطول جوهر السؤدد، فلابد من البداية الدفاعية التي تنبنى على إتيان الأمر مباشرة ودون مراوغة ودفعه لنهاياته الطبيعية. ولعلنا لسنا في حاجة لتكرار سمات السؤدد الحق الصريح التام العريق بقدر ما نحن في حاجة إلى لفت الانتباه إلى مسألتين هامتين أولهما : ذلك الثقل، ثقل السيادة وما ينطوى عليه من تأكيد حاد على واجبات السيد نحو من يسود عليهم، والتي قد تفوق حقوقه عليهم، ناهيك بالطبع عن حق السيادة، ذلك الحق الذي لا يطوله إلا بشق النفس، أو كما يقول الشاعر فيما يورد التوحيدي:-
« لا تحسب المجد تمر أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر»
(مثالب الوزيرين)
وهكذا فحلاوة السؤدد مغموسة في مرارة الصبر العلقم. ومن ثم، فإن مساحات البذل والعطاء والرعاية والتسامح التي يطالب بها السيد هي مساحات واسعة إلى الدرجة التي تقاربه من الإله بصورة ما!! أما المسألة الثانية اللافتة فهي:- ذلك الإقرار الواضح حاد النبرة، بأن من لم يقم بحق السيادة، لا يستحق اعتراف الآخرين بسيادته مهما كانت هويته، ومهما كانت وسائله القمعية . بل إن الأمر يصل إلى حد ممارسة العنف المضمر عليه، والذي يبدأ من عدم الاعتراف له بحقوق السيادة، أي نفيه خارج فضاء السلطة معنويا، وعلى مستوى الممارسة العملية، ممارسة الطاعة والخضوع والشكر والثناء كمرايا لتجلي السطوة ومباهجها. بل إن النص يجعل الثناء، ثناء الشاكرين من الرعية بمثابة منح للقداسة والتنزه السلطوي عن التعرض لانتهاك الهيبة والعرض على ألسنة الرعاع والدهاء، إنه سياج حماية وإعلاء للقيمة وتدعيم لأسس السيادة والهيمنة في أعماق النفوس والأرواح لا محض هيمنة القوة والقمع، أو كما يقول في الإمتاع : الملك بحق من ملك الأحرار بالمحبة». وتكتمل دائرة العنف من قبل الرعية المحبطة ضد السيد الزائف المتخفف من ثقل السؤدد، المستمتع بمباهجه الدنية لا الرفيعة، حين يتم إقصاؤه من الفضاء الديني، حيث يغدو حسن الظن به عصيانا للرب، وحين يتم نفيه خارج دائرة الوجود بما هي تكليف وتشريف وخلافة، فيعد من الموتى!! ناهيك عن الدعوة المضمرة للثورة عليه ونقض بيعته!! ويصاعد المثقف من درجة حصاره للسلطة، مبالغا في وصف علاقة الراعي بالرعية في إطار صياغة أبوية إلهية لتلك العلاقة، ولعل المثقف العقلاني لم يكن قد حسم اختياره نظريا تمامًا لحساب علمنة المؤسسة السياسية على الصعيد الواقعي. بل لعله سعى لمواجهة هذا النموذج ليس من أجل دحضه دحضًا مطلقًا، بل من أجل مطامنته أخلاقيًا ودينيًا دون إهدار الطابع النفعي الوظيفي لعلاقة الراعي بالرعية!! ويمكننا القول، بأنه سعى لتشكيل نموذج الحاكم في فضاء الإنسان الكامل معرفيًا ووجوديًا وقيميًا!! يقول التوحيدي راويا على لسان السجستاني ما يلي:
«ليس ينبغى لمن كان الله عز وجل جعله سائس الناس عامتهم وخاصته، وعالمهم وجاهلهم، وضعيفهم وقويهم، وراجحهم وشائلهم، أن يضجر مما يبلغه عنهم أو عن واحد منهم لأسباب كثيرة منها: أن عقله فوق عقولهم، وحلمه أفضل من حلومهم، وصبره أتم من صبرهم، ومنها أنهم جعلوا تحت قدرته، ونيطوا بتدبيره، واختبروا بتصريفهم على أمره ونهيه، ليقوم بحق الله تعالى منهم، ويصبر على جهل جاهلهم، ويكون عماد حاله معهما الرفق بهم، والقيام بمصالحهم … إن العلاقة التي بين السلطان، وبين الرعية قوية لأنها إلهية، وهي أوشج من الرحم التي تكون بين الوالد والولد، والملك والد كبير كما أن الولد ملك صغير، وما يجب على الوالد في سياسة ولده من الرفق به والحنو عليه، واجتلاب المنفعة إليه، أكثر مما يجب على الولد في طاعة والده، ذلك أن الولد غر، وقريب العهد بالكون، وجاهل بالحال، وعار من التجربة، كذلك الرعية الشبيهة بالولد، وكذلك الملك الشبيه بالوالد. ومما يزيد هذا المعنى كشفا، ويكسبه لطفا، أن الملك لا يكون ملكا إلا بالرعية كما أن الرعية لا تكون رعية إلا بالملك، وهذا من الأحوال المتضايفة، والأسماء المتناصفة»(الامتاع والمؤانسة)
وقبل الخوض في تحليل النص، واستنطاقه، إن جاز التعبير، فلعلنا نلاحظ ذلك الاستخدام الملتبس لألفاظ (الملك/ السلطان) ناهيك عن الطابع الثيوقراطي للمعالجة، والذي يستدعي مفهوم الخلافة!! ولعل التعارض الأكثر جذرية هو ذلك القائم بين مفهوم الخلافة الديني، من ناحية، ومفهوم كل من الملك والسلطنة (الدنيوي)، من ناحية ثانية !!
يرى الباحث عز الدين العلام في كتابه «السلطة والسياسة في الأدب السلطاني» أن الخلافة ليست في شيء من السياسة الملوكية أو السلطانية، بل هي نظرية إلهية- إنسانية تجمع بين الدنيا والآخرة، وهي كنظام سياسي، ديني عارضت أو قامت بالتعارض مع الأنظمة الملكية السابقة وناقضتها.ويستشهد العلام بالحديث الذي دار بين عمر وأحد جلسائه، إذ سأله عمر قائلًا : ملك أنا أم خليفة؟ فرد الرد قائلا : الخليفة لا يعطي إلا حقا، ولا يأخذ إلا في حق، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا، ويعطي هذا). ويقول العلام : إن عمر بن الخطاب كان يفضل لقب «أمير المؤمنين» في مناسبات عديدة، ويرفض لقب «الملك» لما يعنيه من القهر والتجبر والتكبر ومنافاة البيعة والشورى، وقد سار على دربه بقية الخلفاء حتى علي بن أبى طالب، فالكل متبرئون من الملك، منكبون عن طرقه!! وعلى الرغم من استمرار لقب الخليفة في العصرين الأموي والعباسي، فإن الأمر لم يكن غير استعمال أيديولوجي أو غطاء ديني، فالخلافة التبست بالملك، ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر ملكا بحتا. لقد كفت الخلافة كمرحلة تاريخية عن أن تكون واقعا لتتحول إلى أيديولوجية، وتصبح سيادتها عليا قد تخدم كما تواجه اعتباطية السلطات السياسية في الإسلام . وهكذا كان الحكام العرب المسلمون، وعلى الرغم من خرقهم لكل القواعد الشرعية للخلافة يتحرجون من تسميتهم ملوكا لتجنب ما يوحي بانتمائهم إلى هذا الطراز من الحكم، وكان إطلاق اسم الملك على الخليفة محظورا طوال عصور الخلافة!! ولعل اطلاق ألقاب الملك من قبل خلفاء بني العباس على أمراء البويهيين، والمغالاة فيها (كملك الملوك..إلخ)، لم تكن محض استجابة مستكينة لرغبات هؤلاء الأمراء، فحسب، بل كانت مراوغة مضمرة يمارسها خلفاء بني العباس ضد استبداد هؤلاء الأمراء بالسلطة، وإعلان مستتر عن تمايزهم الإلهي الذي ينطوي على تاريخ أسلافهم الأقوياء، وخاصة الراشدين في المخيلة الجمعية للرعية !!
وبالطبع، يتناقض مفهوم الخلافة مع السلطة التي تعارض وحدة الخلافة السياسية الدينية لتشتت السلطات وتعددها ومحدوديتها، وطابعها العملي الحكومي !! (عز الدين العلام)
ويلفتنا العلام إلى أن الأديب السلطاني يطلق تلك الألقاب المتعارضة على من يتولى السلطة، ويدبر أمر الرعية، وقد انمحت من ذهنه هذه التعارضات، بل إنه يذيبها داخل تصوره السياسي السلطاني!! وهو الطرح الذي يميزه عن غيره من الفلاسفة والفقهاء، إذ إنه لايناقش مشكلة الخلافة المعهودة، حيث لم يعد يهمه إذا كان الأمر فعلا خلافة أو شيئا آخر، ولم يعد يؤرقه أي هاجس تشريعي – فقهي بقدر ما يهمه وجود حاكم قوي مهيمن !! أو بعبارة أخرى، ضرورة السلطان، حيث إن حضوره يعني حضور النظام والأمن لسلامة الدولة ولصالح الرعية، كما يعني غيابه، وبشكل آلي حضور الفتنة والفوضى. ومن ثم ينشغل الأديب السلطاني، بالسلطان بوصفه المحور العام الذي تدور حوله كل قضاياه، بدءًا من علاقته بالخالق، ثم وزيره وجلسائه وكتابه، والمثقفين والفقهاء والعلماء، وانتهاءً بالرعية أشرافهم وعامتهم !! ناهيك عن كافة ممارساته في أزمنة الرخاء والقحط والسلم والحرب، علاقته بأعدائه، ومواليه وجنده، مكائده وتدبيره لشؤون الدولة والمال، سلوكياته الخاصة على كل المستويات .. إلخ!! ويصوغ الأديب السلطاني هذا كله محاولا تحديد صفات خلقية وقواعد سلوكية، وسياسات عملية لا تهدف إلى تطبيق الشريعة بقدر ما تهدف إلى دوام السلطة وهيمنتها واستقرارها، وتمجيد السلطان وتأكيد ضرورته بل حتميته !!
ويلفتنا الباحث إلى كون الأديب السلطاني لا يناقش الحاكم في أحقيته بالسلطة، ولايطرح مشروعيتها، وكيف له مناقشة أمر سلطة واقعية، يكون مشاركا بشكل أو بآخر في ممارستها وكيف يضعها موضع استفهام ما دام يكتب لها، وغالبا تحت أمر سلطاني!!
ويحدونا السؤال هنا حول مدى اندراج النص موضع التحليل داخل هذه الرؤية أو درجة التباسه بها؟!
وللوهلة الأولى، يكرس النص بوضوح للحق الإلهي للحاكم، ويعزز التراتب القمعي بأشكاله المختلفة، ويدعم النظام الأبوي في أعتى صوره، وأشدها استبدادًا وهو تصور شائع لدى مثقفي هذه الفترة، ومتداول فيما بينهم، وقد ذكر مسكويه في شوامله ضرورة صيانة سيرة الملوك عن ابتذال الألسنة لهيبتهم وانتهاكهم لقداستهم، ومن المثير للانتباه في هذا الصدد أن يبحث التوحيدي في بصائره الاشتقاق والمعنى اللغوي لكلمة راع، ويبرز تراوحها بين الترويع (الإخافة وإثارة الفزع) من ناحية، والرعاية بل الخصب والنماء والزيادة في المال والزرع, الخ!! يراوغ التوحيدي عبر قناعه السجستاني ناسجا فخا ناعما وشراكا منصوبا للسلطة حين يغازلها معضدا شرعيتها ومرجعا أمر توليها الحكم للاختيار والتكليف الإلهي المنبني على مميزاتها الهائلة معرفيا وأخلاقيا ودينيا، ولعله يطامن إمكانات القمع والاستبداد مروضا إياه ومحاصرا تفجراته غير المتوقعة بمخايلات الصورة المثال ذات الشرعية الإلهية، والحق الطبيعي . فها هو صاحب الملك المتميز معرفيا وأخلاقيا، المختار شرعيا، صاحب الحنكة والخبرة والتجربة والتدبير والدراية الأكثر حلما وصبرا والأرقى عقلا وحكمة، المتبصر بمنافع الرعية العادل بينهم الرفيق بهم، إنه الأب والسائس والملك خليفة الله في الأرض وظل القداسة . وبالطبع، فإن كل هذه العلاقات فضاءات للهيمنة، والسيطرة الكاملة من قبل الأعلى على الأدنى الغر الجاهل قليل الخبرة العاري من التجربة والحلم والحكمة، وهي كلها مبررات قوية لدعم الهيمنة وتكريسها . لكنها كذلك مبررات لتخفيف حدة هذه الهيمنة، وتحجيمها وكبح جماحها والحيلولة دون بلوغها ذروة البغي والطغيان والاستبداد القمعي الذي لا يعرف إلا فلسفة القوة وسطوة العقاب والقسوة. ومن ثم سيغدو طرح التماثلات بين الملك، والألوهية والأبوة طرحا لصالح علاقات هيمنة أكثر إنسانية وتوازنا ما بين الصرامة والقوة، والرحمة والرفق واللين. بل لعلها تنحو في لحظات كثيرة لتغلب الرحمة والمحبة والتسامح إزاء الرعية الأبناء قليلي المعرفة والتجربة والنضج المحتاجين للممارسة التربوية الذكية من قبل الراعي. وإذا كانت فضاءات الهيمنة ستغدو في ظل هذه الصياغة فضاءات لمراوغة السلطة وقمعها وفضحها بل كاشفة عبر صورة المثال المستحيل تحقيقه لضعف قدراتها وطبيعتها الباغية، فإنها ستغدو كذلك فضاءات لتوريطها واستنفارها ما بين الوعد والوعيد، ذلك أنها ستضعها وجها لوجه أمام مبررات وجودها ومشروعية ممارستها السلطوية والتزاماتها تجاه رعاياها من تحقيق رفاهية العيش طيب الحياة، واستتباب الأمن، وشيوع العدل، وانتشار الخير. إلخ. (الامتاع)
إن قيام السلطة بهذا، ونجاحها في تحقيقه لا يضمن لها مشروعية وجودها السلطوي فحسب، بل استمرارية سطوتها وعدم اهتزازها لأي سبب، وحمايتها من الفتن والثورات التي تهدد أمنها واستقرارها ودعائمها، ناهيك عن القيام بحقوق الله في العباد، وضمان الرضى والرحمة الإلهية، والخلود دنيا وآخرة، إنها قواعد تأسيس الملك المتعارف عليها في كتب آداب الملوك (عمارة البلدان وحراسة الرعية وتدبير الجند والمال) . وهي القواعد التي يعيد الفقهاء صياغتها وترتيبها وفقا لأولوياتهم الشرعية، فتغدو دينا متبعا، وسلطانا قاهرا، وعدلا شاملا وأمنا عاما وخصبا دائما وأملا فسيحا».
ولعلنا نلاحظ كيف يقارب النص معالجات الأدب السلطاني في أغلب ملامحه وتفاصيله حتى يكاد يندرج داخل فضائها بصورة أو بأخرى. غير أن لائحا ما من مناقشة مشروعية السلطة يلوح عبر الصياغات المراوغة التي لعب بها السارد في حضرة السلطة القمعية !! وهذا لا ينفي أو يتعارض مع انطلاق الرؤية النصية من أولوية وضرورة وجود السلطة مجسدة في السلطان (السائس/ أو الملك/ أو الراعي) كمسلمة بديهية، أو بعبارة أخرى، ولا تطرح الرؤية أسسا اجتماعية أو اقتصادية تنبني عليها السلطة، أي لا تقدم لنا تحليلا نظريا !! إن هي إلا أخلاق الملك من حسم وحزم وصرامة ورفق وعدل ورحمة وحلم وشجاعة وكرم وجود وتيقظ ودهاء، وحسن تدبير وإدارة لشؤون المملكة على كافة المستويات… إلخ، ومقومات الملك أو أسسه الثابتة من الوزارة، عمارة البلدان، وحراسة الرعية، وتدبير الجند، وتقدير الأموال … إلخ .وكل هذا مرهون بشخص السلطان، الحاكم الفرد، الآمر الناهي، المتحكم في الحاشية السلطانية بدءًا من الوزير إلى صاحب الطعام والشراب وأدنى درجات الخدم، وفي الرعية بدءًا من أعيانها وتجارها، وانتهاءً بعامتها ورعاعها .وهو ما يعنى أن الحديث عن الملك والسلطان، في هذا السياق كسلطة سياسية لا يعني في ذهن المتحدث مؤسسة بل شخصا بعينه هو وحده الذي يجسد السلطة، وهو الملك أو السلطان، الذي يعد هو والسلطة شيئًا واحد، وجهان لعملة واحدة!!
وبينما يمارس السارد مراوغاته إزاء السلطة ما بين الترغيب والترهيب، يركز على الارتباط الحتمي والتلازمي بين الطرفين(الراعي، الرعية) حيث لا يتحقق أي منهما بهويته إلا عبر مرآة الآخر وحضوره وممارسته دوره المنوط به اجتماعيا وسياسيا ودينيا، فلا ملك دون رعية، ولا رعية دون ملك. ورغم أن الملك، الرب / الأب هو الأصل فإن هويته لا تتحقق دون وجود الفرع. غير أننا لا ينبغي أن نغالي في توقعاتنا، فنتصور مثلا أن التوحيدي أو أستاذه السجستاني يتجاوزان السقف السياسي والديني القائم، فيشي هذا الارتباط مثلا بإمكانية الندية المطلقة بين الراعي والرعية أو جعل الملك مشروطا بوجود الرعية أكثر من جعل الرعية مشروطة بوجود الملك. ذلك أن الرعية قد تعيش دون ملك، فتفقد مباهج الرعاية والقيام بالمصالح والمنافع والحماية إلخ. ويغدو كل إنسان سيد نفسه، مسؤولًا عن حياته وبقائه وراعيًا لهما.
وبالطبع قد تسود شريعة الغاب، وتعم الفوضى، ويتفشى الصراع العنيف حين تتراخى قبضة الملك بوصفه رمزا للنظام والاستقرار والقانون أو تختفي كلية، لكن هذا لن ينفي وجود الرعية من حيث جوهرهم الإنسانى داخل العالم، وإن سحب عنهم غطاء الأمن والحماية والرعاية بكل مستوياتها. بل إن صفات الرعية، سالفة الذكر، ستبلغ ذروة تحققها الكامل، وغايتها المنشودة في ظل غياب الملك وحكمته الراعية، وتحررها الكامل من سطوته وشرائعه وقوانينه المعرفية والقيمية، ورغم خطورة هذا الموقف، فإنه ربما يكون السبيل الوحيد لتجاوز هذا الحضور السلطوي الاستبداد وممارسته القمعية وسعيه التربوى لتدجين البشر وتنميطهم بما يحقق السيطرة الفعلية والكاملة. إنه التجاوز الذي يدفع الرعية إلى مساحات الفطام من السلطة الأبوية، وبلوغ النضج المعرفي والأخلاقي، وممارسة الحضور الإنساني الراقي العاقل الفاضل، المسؤول، صاحب القدرة … وهو الأمر الذي يحقق في النهاية علاقة التوازي والتساوي الحقة، والتفاعل الندي الجدلي بين الطرفين الحاكم والمحكوم!!
أما الملك فجوهر وجوده وتحققه هو ممارسة السلطة والسطوة والتحكم في مقادير الآخرين، وصياغة مصائرهم وتدبير شؤونهم وتحقيق مصالحهم ومنافعهم وحمايتهم حتى من نفوسهم، فهم ملك اليمين, وفقا لهذه الصياغة الأبوية والإلهية . ومن ثم فلا وجود للملك كمعنى وقيمة وماهية دون رعية أو مرايا تتجلى عبرها إمكانات السيطرة، ومساحات الخضوع والطاعة . غير أنه ينبغى علينا الاحتراز إزاء هذا الطموح التأويلي حيث إننا لم نزل نسعى في إهاب القرن الرابع الهجري ونصوصه المدونة في ظل الحضارة الدينية الوسيطة التي لا أعتقد أنها تجاوزت المركزية الدينية والسياسية، مركزية البطريرك، أو بعبارة أخرى، فإن جوهر علاقة السلطان بالرعية هو في كون السلطان مالكا للرعية القائم على أمورهم، ومن ثم ترتكز هذه العلاقة التملكية على فاعلية السلطان وانفعالية الرعية التي لا تشكل في هذه التصورات غير محض موضوع سلبي في أغلب الأحيان، (عدله/ إحسانه/ رحمته/ قيامه بمصالحهم..إلخ) .
وهكذا تؤدي هذه الصياغة المركزية وتدعمها، فالملك المثالي هو عماد الوجود، وظل الله وخليفته، الحامي لشرعه والقائم بحقوقه، محقق النظام والعدل، والحفاظ على الكون والبشر من الفوضى والاضطراب والتدمير والانهيار، تدمير قصدية الحق وهدفه من الخلق وعمار الدنيا. بل إن الملك المثالي هو العقل، علة النظام والحكمة ومن ثم فمن يفارقونه من الرعية، بل من يفارقون فضاء الملك المثالي من الملوك والأمراء والحكام، يعدون جميعا حمقى ومجانين بل خارج الفضاء الإنساني الحق، فكأنهم بهائم وحشية هاملة, كما ذكرنا آنفا إن هذه الصياغة الأبوية والإلهية المثالية ذات الطابع العقلاني تجعل من الحاكم مربي الرعية، والمرتقي بهم من البهيمية للإنسانية، إنه التصور الذي يؤكد ضرورة الملك وحتميته لأنه علة النظام والانسجام، ودونه الفوضى والفتنة! ولعل بعض من المناوئة والتمرد البنوي والحماقة الطفولية الغرة من قبل الرعية، لا بأس بها، بل ربما تغدو مساحة لبلورة ذكاء الراعي وحذقه وقدراته على سياسة رعيته وتربيتهم، والارتقاء بهم كما الأب مع أبنائه والإله مع مألوهيه، بل يمكننا القول بأن هذه الصياغة ستمنح المحكومين والرعية مساحة حرية لا بأس بها تصل إلى حد العذر ونفي المسؤولية والحماية من العقاب لهؤلاء الحمقى السذج الجهال الذين لا يدركون قيمة من يسوسهم ولا عظم قدره. إنهم يشبهون العبيد الذين يتجرأون على عصيان الإله العظيم، فيمد لهم بساط التوبة ويرحمهم، أو الأبناء الذين يتطاولون على آبائهم لا يعون قدر محبتهم لهم وحرصهم عليهم، لكن الآباء يصبرون عليهم ويتسامحون مع حماقتهم!!
واستمع إلى إخوان الصفا في رسالة الحيوان الرائعة يصفون علاقة كل من الثعبان ملك الهوام واليعسوب ملك النحل برعاياها بأنها علاقة التحنن والرأفة – وشفقة الوالدة على أطفالها والأب الرحيم بأولاده والرفق بهم لضعفهم وفقرهم وقلة حيلتهم. بل إن اليعسوب ملك النحل ذهب عوضا عن رعاياه وجنده متصدّيا لبني الإنس مناظرًا لهم في حضرة ملك الجن، وحين سأله ملك الجن: كيف جئت بنفسك ولم ترسل رسولا من رعيتك وجنودك، كما أرسلت سائر طوائف الحيوانات؟ قال له : إشفاقا عليهم ورحمة لهم وتحننًا عليهم أن ينال منهم سوء أو مكروه أو أذية!!
ومن المثير للانتباه في هذا الصدد ما ذكر في أدبيات السلاطين والملوك حول كيفية معاملة الملك لابنه، يقول الجاحظ في كتاب التاج ما يلي:-
«من حق الملك أن يعامله ابنه كما يعامله عبده، وأن لا يدخل مداخله إلا عن إذنه، وأن يكون الحجاب عليه أغلظ منه على من هو دونه من بطانة الملك وخدمه، لئلا تحمله الدالة على غير ميزان الحق… ويُروى أن يزيد بن معاوية كان بينه وبين أبيه باب، فكان إذا أراد الدخول، قال: يا جارية انظري، هل تحرك أمير المؤمنين؟ فجاءت الجارية (مرة) حتى فتحت الباب، فإذا معاوية قاعد، وفي حجره مصحف، وبين يديه جارية تصفح عليه، فأخبرت يزيد بذلك، فجاء يزيد، فدخل على معاوية. فقال له : أي بني ! إنى إنما جعلت بيني وبينك بابا، كما بيني وبين العامة. فهل ترى أحدا يدخل من الباب إلا بإذن؟ قال : لا . قال : فكذلك فليكن بابك، فإذا قُرع عليك فهو إذْنُك.
وهكذا ذكر لنا أن موسى الهادي دخل على أمير المؤمنين المهدي، فزبره (انتهره) وقال : إياك أن تعود إلى مثلها إلا أن يفتح بابك وذكر لنا أن المأمون لما استعربه الوجع سأل بعض بنيه الحاجب أن يدخله عليه ليراه، فقال : لا والله، ما إلى ذلك سبيل، ولكن إن شئت أن تراه حيث لا يراك، فأطلع عليه وتأمله ثم انصرف… وليس لابن الملك من الملك إلا ما لعبده من الاستكانة والخضوع والخشوع، ولا له أن يظهر دالة الأبوة وموضع الوراثة… ومن العدل والحق عليه أن يوالي من والى الملك، ويعادي من عاداه، ولا ينظر في هذا إلى حظ نفسه وإرادة طبعه، حتى يبلغ من حق الملك ما إن وجد إلى غيلته سبيلا أن يقتله، وعلى هذا ينبغي أن يكون نظام العامة لملكها !! (رسائل اخوان الصفا)
وبالطبع، لسنا في حاجة إلى الحديث عن مساحات الحذر وسوء الظن والتوجس والحيطة الكامنة في علاقة الملوك بأبنائهم، والمتوارية وراء الهواجس التربوية المزعومة في هذا النص، وفي نصوص أخرى كثيرة صيغت في هذا الصدد، وحوادث التاريخ العباسي خاصة خير شاهد على ذلك(*)!! غير أن ما يعنينا هنا على وجه الخصوص تلك الموازاة اللافتة بين أبناء الملوك، والعامة من الرعية إلى درجة أن يصبح خدم الملك وبطانته أو حاشيته، بل جواريه أكثر قربا وجرأة على مجلسه الخاص من أولاده، بل إنهم وسطاء بينه وبينهم، كما رأينا في حادثتي معاوية والمأمون !! ومن المثير للانتباه في هذا الصدد، أن الحاشية بتنوع مراتبها تمثل في هذا التراتب السياسي دور الوسيط بين السلطان أو صاحب الملك من ناحية، وبين الرعية، من ناحية ثانية، أي أن الذات السلطوية لا تمارس سطوتها على رعاياها إلا عبر هذا الوسيط (الحاشية السلطانية) بوصفها أداة لتحقيق الفعل السياسي، ومن ثم ترى الحاشية السلطانية في الرعية موضوعا لذاتها، وترى في ذاتها موضوعا لذات السلطان !! غير أن هذا لا يعني حضورا سلبيا لهذه الحاشية في ظل استبداد السلطان بالسلطة المطلقة، بل لعله الحضور الأكثر خطورة وتهديدا وسطوة من السلطان ذاته !! إنه الهامش التنفيذي الذي يؤدي فعليا لاستيلاء هذه الحاشية على السلطة السياسية، بل لتهديد المتن أو الانقلاب عليه إذا اقتضى الأمر!! ولعل في حادثة ابن المأمون ما يجلي لنا مدى خطورة هؤلاء الذين يملكون إمكانية أن يروا صاحب الملك في أكثر مساحاته خصوصية (غرفة نومه أو فراشه)، ولا يراهم !! ناهيك عن ذلك الإلحاح المتواتر في أغلب كتب الآداب السلطانية حول الشروط الضرورية والصادمة معرفيا وأخلاقيا فيمن يختارهم صاحب الملك ليحيطوا به ويقوموا على خدمته ومؤانسته وامتاعه، ويساعدونه في إدارة شؤون المملكة، صغيرها وكبيرها، من حجاب وكتبة ووزراء وسفراء وخدم وجلساء وجواري…إلخ، وهي الشروط التي تشي بأهمية وخطورة دور هؤلاء في الحياة السياسة السلطانية، متنها وحواشيها !!
يقول الجاحظ في كتابه التاج:
«من أخلاق الملك السعيد أن يحرص على إحياء بطانته، حرصه على إحياء نفسه، إذ كان بهم نظامه».
ولعل هذه الملحوظة الاستطرادية حول علاقة الملوك بأبنائهم تجعلنا حذرين في تعاملنا مع إعادة إنتاج هذه العلاقة على صعيد علاقة الملوك برعاياهم!! ذلك أن الحديث عن البعد التربوي ما بين الملك وأبنائه، والذي يمكن أن نجد مزيدا من التفاصيل عنه في نصوص أخرى، سيركز على الشدة والصرامة والحسم الذي قد يصل إلى حد الغلظة والخشونة بل القسوة الموجعة الرادعة في معاملة هؤلاء الأبناء، أكثر من الرحمة واللين والرفق والمحبة، يقول الكاتب ابن يوسف في العهود اليونانية :
«انظر إلى ولدك، الذين هم معاقل اسمك وحفظة ذكرك، فأحسن تقويمهم، وخف عليهم من إشفاقك أكثر من خوفك عليهم من غلظتك، ولا تؤنسهم بإظهار البشر وفرط الشغف، واكتمهم أكثر ما تجده لهم، واحرص على أن يسبق خوفهم منك، تأميلهم لك» .
إنها وطأة الهيبة والرهبة الأكثر جدوى ونفعا وتأثيرا في هذا السياق من فاعلية الحب والرحمة والرفق، وهي سمة أبوية ذكورية بجدارة، ومما يثير الانتباه في هذا الصدد، يقول كاتب العهود اليونانية :-
ليس بين أن يملك الملك رعيته أو تملكه إلا حزم أو توان… اعلم أن الهيبة بهجة المملكة… هيبتك في النفوس أمضى من سلاحك في المهج» واستمع إلى الجاحظ، إذ يقول في التاج :-
«وليس الذنب بحضرة الملك، كالذنب بحضرة السوقة… والجاهل، لأن الملك هو بين الله وبين عباده، فإذا وجب بحضرته الذنب، فمن حقه العقوبة عليه ليزدجر الرعايا عن العياثة والتتابع في الفساد»!!
ومن ثم، ليس إلا الاستكانة والخضوع والخشوع والتزام جادة الطريق، أي الطاعة المطلقة لأوامر الراعي ونواهيه، ناهيك عن الولاء المطلق له، لأن هذا هو الحق والعدل وأساس النظام ومعيار استحقاق الرعية للراعي !!
ونود لفت الانتباه إلى أمر هام هو أن الحديث عن كون أبناء الملوك، معاقل أسمائهم وحفظة ذكراهم، قد ينطوي على شيء من طبيعة علاقة الملوك برعاياهم الذين هم مرايا عاكسة لعظمتهم وبهائهم وهيبتهم وعدلهم ورحمتهم … إلخ، أو كما يُقال دوما «الناس على دين ملوكهم»!! ولعل هذا الطرح الذي لا يخلو من أخلاقية نفعية واضحة، يسمح الأبناء / والعامة أو الرعية بمساحة ما للتأثير أو الفاعلية ولو بصورة هامشية ومستترة!!
ولعلنا نلاحظ هنا ذلك الخلط المعتاد داخل هذا النوع من النصوص حول آداب الملوك والسلاطين بين سياسة الرعية، وسياسة المنزل (الأبناء والزوجة)!! بل يمكننا القول بأنه إذا كانت هذه الصياغة الأبوية الإلهية لعلاقة الراعي بالرعية لاتفتح أي مساحة ممكنة للتفاعل الندي الجدلي المتبادل بين طرفيها أو لإمكانات التشارك والمساواة بل إنها تدعم الهيمنة وتكرسها، فإنها قد تفتح مساحات أخرى مراوغة للتفاعل، بل لإمكانات قلب التراتب أحيانا بين الأعلى والأدنى، أو إعادة إنتاج القمع بصورة مضمرة حينًا، وسافرة حينًا من قبل الرعية إزاء الراعي. ذلك أن ممارسة الراعي لدوره التربوي إزاء الرعية تؤسس لمفهوم القدوة والمثال الأخلاقي والديني والمعرفي، وهو مفهوم قمعي يحاصر الراعي، ويشكل هاجسًا من هواجسه المؤرقة، وينقلب عبره التراتب بصورة ما. ورغم لا مبالاة السلطة وقلة اكتراثها، فإنها تسعى سعيا محموما حثيثا لا لتمثل الصورة، لكن لشيوعها عنها ولو كذبا، وسيستغل المثقفون هذه المفارقة السلطوية إزاء أحاديث العامة بين اللامبالاة وقلة الإكتراث من ناحية، والاهتمام المؤرق بصياغة الصورة المثال، من ناحية أخرى لخلق مزيد من القيود وإحكام الحصار معرفيا وقيميًا من خلال هذه الصورة حول السلطة الحاكمة، وها هو التوحيدي يتساءل بوضوح في الهوامل قائلا:-
«لم إذا عرفت العامة حال الملك في إيثار اللذة، وإنهماكه في الشهوة، واسترساله في هوى النفس، استهانت به، وإن كان سفاكا للدماء، قتالا للنفوس، ظلوما للناس، مزيلا للنعم؟ وإذا عرفت منه العقل والفضل والجد، هابته، وجمعت أطرافها منه؟»
وهكذا يأتي السؤال مباغتا في مباشرته، لا يراوغ أو يخايل لكنه يضع صاحب الملك على حافة الخطر ويهدده صراحة. ذلك أنه يؤكد مشددا أن القمع مهما كانت حدته وعنفه لن يستطيع أن يحمي صاحب الملك من ألسنة العامة أو استهانتهم به والسخرية منه والتندر عليه بل عدم الاعتداد بسطوته وسلطانه، ومن ثم عدم الخوف منه ولو كان سفاكا للدماء، إذا لم يكن عاقلا فاضلا جادًا, أي إذا لم يلتزم واقعيا بسمات الملك الحقة. وبالطبع، تضمر هذه الأفكار تلويحا ما إلى إمكانية تنامي هذه الاستهانة إلى درجة اشتعال الفتن والاضطربات التي تهدد أمن السلطة واستقرارها وليس هذا التلويح ببعيد عن أحداث الفتنة التي حدثت في بغداد، سنة 370 هجريا.
يقول الكاتب في العهود اليونانية ما يلى :-
« إن سوء الطاعة يظهر أولًا في الأعين ثم في الألسنة، ثم يحرك الأيدي بالمجاهرة… إن الرعية إذا قدرت على أن تقول، قدرت أن تفعل… … … وأعلم أن الألسنة محبوسة عن ذكر معايبك ما كانت في ظل نهيك وأمرك، فإذا زالا، رجع كل حين إلى حقيقته، واجتنب الركون إلى تزييف ما قبح منك واستدرك في حين سلطانك ما ينكر عليك، فإن الراجع إلى الحق أحد المصيبين»
ولعل التوحيدي بسؤاله سالف الذكر لمسكويه سعى إلى تقويض دعائم السطوة والهيمنة القائمة على القوة والإرهاب والعنف مدعما كافة التصورات السابقة التي تلح على الكمال المعرفي والأخلاقى والديني لصاحب الملك،، وهي أسس الهيمنة الحقة!! أو ما يمكن أن نطلق عليه ولاء القلوب والأرواح والعقول، ولاء الحب والاحترام أو الإذعان عن طواعية، وليس عبودية الأجساد المرتعدة من العقاب والتصفية بكافة مستوياتها وأشكالها!! ويرد مسكويه مكرسا لهذا التصور العقلاني الأخلاقي لصورة الحاكم المثالي، مؤكدًا أن الملك هو صناعة مقومة للمدنية، وممارسة تربوية تتأرجح ما بين الصرامة واللين وتعتمد الإيثار لا الأثرة، كما ذكرنا آنفًا. وبالطبع لا تتحقق هذه الصورة باكتمالها إلا إذا كان صاحب الملك مقتنيا للفضائل كلها في نفسه، لأن من هذب نفسه، وقومها، أمكنه أن يهذب غيره ويقومه، أي كانت لديه القدرة والمصداقية. ومن المثير للانتباه، أن تنحصر هذه الفضائل لدى مسكويه في العفة، والكرامة والشرف وهو ما يعنى تهذيب النفسين الشهوية والغضبية، فإذا تم كبح جماحهما، واعتدلا، حدثت العدالة ثمرة للفضائل، وقويت النفس الناطقة واكتملت الذات الإنسانية بالحكمة العقلية والقدرة التدبيرية، فصح لها سياسة غيرها!!
صورة الملك بين الأخلاق والسياسة والميتافيزيقا، ومفهوم العدالة التناسبي النسبي:
ترتبط هذه التصورات جدليا بنظرية النفس الإنسانية كما صاغها الفلاسفة المسلمون، غير أن ما يعنينا منها هنا على وجه الخصوص هو ذلك التماثل بين نظام العلاقات التراتبي للنفوس الثلاثة في الكيان الإنساني، من جانب، وبين التراتب الهيراركى الاجتماعى والسياسي داخل المدينة الوسيطة، من جانب آخر.
يعتبر الفلاسفة المسلمون، خاصة ذوي النزعة الأفلاطونية/الأفلوطينية ولا يفارقهم التوحيدي في هذا، ان النفس الناطقة جوهر إلهي روحي، ليست من الجسد في شيء، وإن كانت تدبره وتسوسه وتصرف شؤونه، وبها يتميز الإنسان عن بقية الكائنات، وهي موطن التكليف الشرعي، والمنوطة بتحقيق الكمال الإنساني المعرفي والقيمي والوجودي!! وبالطبع فإن صاحب السيادة والحاكم المعرفي والقيمي رفيع المقام، والمقدم على كافة القوي لقدرته على التجريد المطلق، والتمييز بين الأشياء والحكم عليها، ومعرفة صحيحها من سقيمها، وحقها من باطلها، هو العقل معيار الإنسانية الحقة الفاضلة!!
أما النفسان الغضبية والشهوية، فوظيفتهما الأساسية هي الحفاظ على الكيان الجسدي الإنساني، والحيلولة دون هدمه أو القضاء عليه. ومن ثم فهما مرتبطتان بالاحتياجات المادية الحياتية، وتعتمدان على الحواس والمخيلة والوهم كوسائط أساسية في أداء وظائفهما المنوطة بهما. إذ تختص النفس الغضبية بمشاعر الأنفة من العار، والإباء من الضيم، وطلب الاقتصاص من الظلم، والانتقام عند الغضب، وكذلك العدوان والتطلع إلى التسلط والقوة والقهر. أي مرتبطة بالجانب الصراعي في الإنسان بكل أشكاله السلبية والإيجابية. أما النفس الشهوية فتختص بحب المطاعم والمشارب واللذات الحسية، وهو ما يعني ارتباطها بالرغبات الإنسانية التي تحقق اللذة والمتعة وتجلب للإنسان السعادة في هذه الدنيا بالمعنى الحسي المادي. وبالطبع، فإن كل نفس من هذه النفوس تسعى نحو بقائها، واكتمالها بغاياتها وفضائلها القصوى لأن هذا يعني ترقيها إلى أفضل حالاتها، وأشرف نهاياتها، ومن ثم فشهوات وميول كل نفس من هذه النفوس هي حتمية لأنها طبيعتها الأساسية وأصل اكتمالها الوظيفي بغايتها التي خلقت من أجلها، أو كما يقال، كل خلق لما هو ميسر له. بل إن إخوان الصفا في رسائلهم يقيمون حكرًا معرفيا حول النفوس الثلاثة، إذ لا يليق بأي نفس أن تتعدى حدودها نحو مساحات النفس الأخرى، يقولون:
« واعلم يا أخى إن محبوبات النفس ومعشوقاتها … بحسب مراتبها في العلوم، ودرجاتها في المعارف، وذلك أن النفس الشهوانية لا يليق بها محبة الرياسة والقهر والغلبة، ولا النفس الحيوانية يليق بها محبة العلوم والمعارف، واكتساب الفضائل، ولا النفس الملكية يليق بها محبة الأجساد والكون مع الأجسام اللحمية والدموية، بل الذي يليق بها محبة فراق الأجساد، والارتقاء إلى ملكوت السماء … إن الصورة من الأشكال والمحاسن والزينة الموجودة في الأجساد اللحمية من الحيوان والناس هي المشتهاة المعشوقة عند أكثر الناس من البالغين العقلاء، فإذا ارتاضت نفوسهم في العلوم الإلهية والمعارف الربانية ارتفعت عن هذه الصور إلى ما هي أشرف منها وأفضل … في عالم الأرواح… وصارت النفوس الناطقة تلتذ بالعلوم والمعارف… وهذه الأحوال لا تليق بالنفس الشهوانية، ولا بالنفس الغضبية … أعلم أن النفوس الناقصة تكون قصيرة الهمم لا تحب إلا زينة الدنيا، ولا تتمنى إلا الخلود فيها لأنها لا تعرف غيرها، ولا تتصور سواها، أما النفس الشريفة المرتاضة فهي تأنف من الرغبة في الدنيا، بل تزهد فيها، وتريد الآخرة وترغب فيها وتتمنى اللحوق بأبناء جنسها وأشكالها من الملائكة».(رسائل اخوان الصفا)
ولعلنا نلاحظ الطبيعة الحتمية الحاكمة على هذه النفوس، وهي حتمية إلهية بالمقام الأول حيث يحقق سعى كل نفس من هذه النفوس نحو اكتمالها بغاياتها المقصد الإلهي في قوله تعالى «ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه»، وكذا قوله « إنا كل شيء خلقناه بقدر». أي أن هذا السعي يبرز ويجلي أثر العلة الإلهية في المعلومات الكونية بوصفها أصلا للوجود ما بين تمامه واكتماله معرفيا وقيميا وماديا .ومن ثم فلا سبيل لتغيير طبائع هذه النفوس، بل إن تحققها باكتمالها المنوط بها وظيفيا يلعب في هذا السياق دورا هاما في تأسيس حضورها الفعال والحيوي داخل الإنسان مما يساعده في تحقيق اكتماله المنشود. وبينما يلتبس المادي بالمعنوي في النفسين الشهوانية والغضبية بحكم فطرتهما، فإن النفس الناطقة يرتبط كمالها الوظيفي بميلها المطلق للمجرد والمتعالي، أي أن ترقيها عبر الارتياض ينبع بالمقام الأول من قابليتها الجوهرية لهذا بحكم طبيعتها الأصلية!!
وإذا كان معيار الاكتمال الوظيفي معيارا أساسيًا في تراتب القوي النفسية الإنسانية، فإن معيار القيمة هو المعيار المسيطر على هذا الطرح معرفيا وأخلاقيا، بما يؤدي إلى احتقار كل معارف الجسد ومتعه وملذاته، والإعلاء من شان الروحي العقلي على الجسدي. إنه احتفاء بمعارف الروح والعقل ومتعهما المجردة مرتبط بتصور مثالي متعال لطبيعة الاكتمال الإنساني، وكون هذه المعارف والمتع هي وحدها الجديرة به، والقرينة له!!
وفي ظل هذا التصور العقلاني ذي الطابع الصوفي والذي يجعل النفس الناطقة هي الأرقى مكانة في هيراركية الكيان الإنساني بحكم انتمائها للجوهر الإلهي الخالد، فإنه يعطيها بالضرورة حق السيطرة المطلقة على النفسين الشهوانية والغضبية، وإلا اختل التوازن، وفقد المرء طبيعته الإنسانية ما بين تمامها الوجودي واكتمالها المعرفي والأخلاقي.
وحين يشبه الكيان الإنسانى بالمدينة المكونة من حاكم وجند ورعية، تتوازى النفس الناطقة مع الحاكم، والنفس الغضبية مع الجند، والنفس الشهوية مع الرعية الغوغاء !! وينبني صلاح هذه المدينة على مدى صلاح هذا الحاكم، وتميزه بالفضائل الأخلاقية والدينية، وهي الوجهة العملية للفضائل النظرية، ورأسها الحكمة بالمعنى الفلسفي الشائع حينذاك!! هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية على مدى سيطرة الحاكم على جنده ورعاياه بالعدل وحسن السياسة والحسم والقوة والصرامة والهيبة في غير غلظة ولا قسوة ولا فظاظة، بل بالرأفة واللين والهوادة، أو هذا هو المثال المشتهي!! وذلك في ظل إحكام القبضة، وضمان الخضوع التام والطاعة الكاملة، أما إذا خيف نزقهما أو شرودهما، فلا سبيل حينئذ إلا القمع العنيف حتى لا يشتطان أو يجمحان فيقودان الحاكم والمدينة إلى الهلاك المحقق
يقول التوحيدي في اشاراته :
« يجب أن تكون هاتان النفسان (الشهوانية/ الرعية/ الغضبية/ الجند) تحت طاعة النفس الناطقة، وسلطانها لتجريها مجرى المركوب الذي يركب عند الحاجة بسرج يذللـه، وشكيمة تحنكه، وعنان يثنيه، وسوط يخيفه، فإذا نزل عنه راكبه ألزمه الرباط والشكال، لئلا يجد على حال من الأحوال سبيلا إلى أن يشرد فيهلك نفسه، ويجني على غيره»
وتخضع النفسان الغضبية والشهوية للنفس الناطقة خضوعًا تراتبيًا، إذ تستخدم النفس الناطقة النفس الغضبية لقمع الشهوية، كما يستخدم الحاكم جنوده لقمع رعيته المتمردين وتقويمهم وتأديبهم، وضمان طاعتهم وانقيادهم. ويستلزم هذا الخضوع التراتبي توافر صفات معينة في كل من القوتين تتناسب مع دور كل منهما المنوط بها مثاليا، والمحدد لها سلفا في التراتب الصارم المفروض من أعلى!! وعلى ذلك، فإن أفضل أحوال الجند (الغضبية) هي أن تكون عزيزة الجانب في نفسها، سليمة الانقياد والطاعة لحاكمها المستخدم لها(الاشارات)بينما الرعية (الشهوية)، فيجب أن تكون عريكتهم لينة مواتية لحاكمهم وراعيهم، ورهبتهم منه ومن جنده تامة مستحكمة!!
ويطرح إخوان الصفا هذه العلاقة بين الجند والرعية تحت سيطرة الحاكم الفاضل العادل في إطار حدوث خلل في ممارسات القوى الجسدية في الكيان الإنساني. فإذا هجنت وتعادت، أدخلن السقم والمرض على الجسد، وهي حينئذ تشبه أفعال العيارين وأصحاب العصبية والغوغاء إذا هاجوا وأثاروا الفتن وتقاتلوا وأحرقوا الأسواق، وخربوا المنازل، ونهبوا الأموال وأفسدوا في المدينة. وعندما يحدث هذا، فإن ورود الدواء والأشربة المعالجة للجسد وإعادة النظام له، يشبه أفعال السلطان والجند إذا قاتلوا العيارين وسكنوا الفتنة، وأخذوا المتمردين وقطعوا أيديهم، وأخرجوهم من المدينة.
ويقر الفلاسفة بحقيقة هامة في هذا السياق لصياغة علاقة النفس الناطقة (الحاكم) بالغضبية والشهوية (أو الجند والرعية)، هي أن ممارسة الحاكم سطوته على جنده ورعاياه لاتهدف إلى حصرهما إطلاقا، أو تدميرهما لأن وجودهما ضروري لاكتمال بناء المدينة (الكيان الإنسانى)، وبقائها والدفاع عن نظامها ووجودها ضد كل أشكال الاحتلال والعدوان الخارجي والداخلي. وهو ما يحقق المقصد الإلهي من الخلق بتعمير الكون والخلافة وعبادة الله وإقامة شعائره … إلخ. إنه الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال وصول الذات الإنسانية وقواها المتعددة إلى درجة عالية من التوازن والاعتدال السلوكي والأخلاقي أو ما يمكن أن نسميه الوصول إلى تجسيد سلوكي للوسط الأخلاقى الأرسطي المعتدل، حيث لا إفراط ولا تفريط، أي أن تتحلى النفس الناطقة بالحكمة والاتزان والتروي دون البله والسفه أو الذكاء المختال والمغرور المدمر، والنفس الغضبية بالشجاعة دون الجبن أو التهور، والشهوية بالعفة دون الخمود أو الشره.
يقول كاتب العهود اليونانية :-
«اعلم أنك أن استعرضت السرف في الشيء، لم تجده مستوليا على جميعه، ووجدت نقصانه في تفصيله، وإن استعرضت العدل رأيته مشتملا على جملته وشائعا في صغائره، فتلقي الأمور به يحسن انقيادها لك وانصرافها إليك، وأعلم أن بقاء ذكر الملوك بحسب … ما أحيوه من سنن الدين، وبسطوه من العدل… واعلم أن أفضل الملوك من بذل الإنصاف وهو يطيق السطوة، وأن العبيد تختار لأفة الموالي على يسارها، والأحرار أصعب على خيم الملوك منها، وأعلم أن العدل عند الرعية أن يسوى بينها وبين أهل المنزلة العلية في الحال، والعدل عند أهل المنزلة العلية سياقة العامة بالصَّغار (الإذلال) إلى موافقة الرؤساء، وكلتا الطريقيْن جائرتان. فليكن وكدك فيهما مجاهدة الاعتقادات الرديئة منهما حتى يرجعا إلى الحق. اعلم أن كرامة الجور دائرة، وكرامة العدل باقية… اعلم ان الطاعة تنقاد للقسر، والمحبة لا تنقاد إلا للعدل، فغلب العدل على رعيتك تظفر منهم بالمحبة الباقية بعدك، وتجنب ظهور رذيلة في مملكتك، وإطلاق حمياتها لأحد من حامتك، فإن الملك لا يوصف بشيء من أفعاله الخاصة به، وإنما يوصف بما يظهر في رعيته… فإذا كان خيرا، كانوا خيارا، وإن كان شرا كانوا أشرارا… تنكب أن ترفع ذا نقيضة فتبعث به لسان الذم عليك… ولا تطلق منهم على خاصتك وعامتك إلا من اكتنفه العدل وشايعه الفضل… واعلم ان كل فضيلة هي بين رذيلتيْن: احداهما تتجاوزها، والأخرى تقصر عنها، فسدد سعيك فيما آثرت العمل به من الفضائل، تأمن الوقوع في الرذائل… اعلم أن أعظم الأعمال حوبا عصيان العقل في الأمور التي يأمرك بها، واستخدامك إياه فيما نهاك عنه،… العقل رأس التدبير، وهو صلاح النفس، ومرآة العيوب، وبه تذل المكروهات وتعز المحبوبات، وهو رأس الممدوحات، وأصل المفاخر».
ولعلنا نلاحظ تلك المفارقة اللافتة بين شمولية العدل وما يحققه من اكتمال وتناغم وانسجام كلى، بل سيادة الإرادة الحرة والسيطرة العاقلة على الذات، من ناحية، وبين مخايلة السرف والإفراط التي قد توهم بالاكتمال والسيطرة، وإن هو إلا امتلاء التخمة، وفقدان السيطرة الفعلية، والسقوط في وضعية الاستيلاء أو الاستلاب والعبودية لممارسات السرف، مما يورثنا شعورًا دائمًا بالنقص والفاقلة!! وتتبلور هذه المفارقة في الطبيعة الزائلة لكرامة الجور سيئة السمعة والدافعة للمتصف بها إلى فضاءات المحو والنسيان في مقابل الطبيعة الخالدة، خلود الذكرى الطيبة لكرامة العدل!! وتجلي صفة العدل في نصوص أخرى عبر مرايا الألوهية بوصفها صفة كريمة من صفات الباري جل اسمه وتعالى ذكره. . وبما أن الملك هو من استرعاه الله أمر عباده، وقلده أمورهم وتدبيرهم وأطلق يده على أبشارهم وأموالهم ودمائهم وجميع أحوالهم كالإله، فهو متشبه بالإله. وكذلك يجب أن يتشبه به في جميع أحواله كلها، والله حكيم رحيم، وأسماؤه وصفاته جل جلاله أكثر من أن تحصى، ومن ثم فهو تشبه على قدر الطاقة الإنسانية !! والعدل صورة العقل الذي وصفه الله عز وجل في أحب خلقه إليه، فهو مطابق للحكمة حكمة التوازن والانسجام والاعتدال والنظام، والإتقان، وبه قامت السموات والأرض، وعمر الكون، وقامت الممالك، وانطاع العباد، وسلمت النفوس والملوك من الفساد !! ولعلنا نلاحظ مدى وعورة تحقيق العدل أو طلبه والاتصاف به لأنه سعى في مسار الأخلاق الإلهية التي لا يحصلها إلا الحكماء والفلاسفة الإلهيون!! وكأنه طرح يتحدى صاحب الملك، ويغيبه لحساب الناصح الحكيم المتأله، ويبلغ التعدي ذوروته، ولعله الاستنفار حين يقول: «سلطان عدل خير من وطن وإبل… والملك والعدل لا غنى بأحدهما عن الآخر».
وهكذا تتراوح الذات السلطوية متوترة متأرجحة ما بين إمكان قيام السلطان العادل، وضرورته لبقاء الملك واستقراره، وما بين عسر تحقيقه والذي قد يغدو مستحيلا في بعض الأحيان !! ولا يلفتنا في هذا السياق ارتباط العدل بالأخلاق والسياسة، وشيوع الفضائل، وانتقاء الرذائل عبر السعي الدؤوب في العمل الفاضل واتقانه وتدعيم قواعده، وإشاعته من خلال حاشية الملك وعماله ومن يستعين بهم لإدارة شؤون المملكة وفقا لقراراته، ولكون هذه التصورات ترى أن استقامة الرعية في استقامة الراعي، وسلوك الملوك قدوة للناس الذين يحاولون التشبه بحكامهم بصورة مثالية ساذجة، وميكانيكية إلى حد ما!! ولا يثير انتباهنا تلك النغمة الخفيضة، نغمة الرأفة والرفق والمحبة، والعفو عند المقدرة واكتمال السطوة، والتي تخترق مساحات القمع السلطوي وهواجس الطاعة القسرية، ناهيك عن نغمة التحذير المضمرة داخل اختيار العبيد (أدنى أنواع الرعية وأكثرهم بهيمية ومادية) لرأفة مواليهم دون يسارهم، وعدم بل عسر استكانة الأحرار لظلم الملوك !! ولا يعنينا كذلك التخفيف من حدة الطابع البرجماتي النفعي للفضائل والأخلاق السياسية الذي يهدف بالمقام الأول لحماية سمعة السلطة، وعدم تعرضها للنقد أو الذم بسبب رذيلة تشاع عنها أو تمارسها هي أو عمالها، وذلك من خلال الإلحاح على العلاقة الوثيقة بين عدل السلطان، ومحبة الرعية !! إن أكثر ما يسترعي انتباهنا هنا، هو ذلك الطابع النسبي للعدل، والاعتقادات الرديئة الجائرة حوله، والشائعة في فضاءات الرعية من عامة وخاصة !! فمن ناحية، ترى العامة من الرعية أن العدل السلطوي يعنى المساواة الكاملة بينهم، وبين الخاصة (أهل المنزلة العلية، ومن ناحية ثانية، يرى الخاصة أن العدل السلطوي هو سياقة العامة بالقهر والإذلال كى ما يخضعوا خضوعا كاملا لأولى الأمر!! إنه العدل الجائر من منظور كل طبقة على حدة موظفا لخدمة مصالحها واحتياجاتها، وهو منظور ضيق لا يرى الصورة كاملة، ولا يضع في حسبانه السلام الاجتماعي ككل !! ومن ثم ينبغى على السلطة أن تصوغ منظورا للعدل أكثر إحاطة وشمولية، وتستطيع من خلاله التقاط النغمات المتمايزة لكل طائفة أو طبقة اجتماعية، بما يحقق الانسجام الاجتماعي ويقضي على أي أمكانية للفوضى أو الاضطراب الناتج عن شعور أي طبقة بالظلم والبغي على حقوقها ومصالحها !! يفرق المفهوم السلطوي للعدل بين العدل مع الخاصة، فلا يساويهم بالعامة ويرفق بهم ويتحبب إليهم ويرفع من منزلتهم، ويكافئهم على أعمالهم ويتريث في عقابهم حتى يتيقن من ارتكابهم الجرم.. إلخ، من ناحية، ومن ناحية ثانية، بين العدل في العامة الذين جُبلوا على الفساد واتباع الأهواء، وقلة السداد والحمق والرعونة.. إلخ، وهنا يتسم عدل السلطان بالصرامة والحسم والشدة لتقويم هؤلاء وكبح جماحهم، وترويض شراستهم وهمجيتهم!! ورغم الحديث الدائم عن امتزاج هذه الممارسات بالرفق واللين والرحمة، فإن العنصر المهيمن إذا صح التعبير هو القمع وفرض الهيمنة بالقوة دون إذلال، ويا لها من مفارقة !! إنه العدل السياسي البرجماتي المتواري وراء توازيات الألوهية والمألوهين، الأبوة والنبوة، الراعي والرعية، والنفس الناطقة، والنفسين الغضبية والشهوية، وكلها صياغات أخلاقية معرفية راقية وبراقة !!
إن الوصول إلى هذا المقام هو ما يحفظ للذات الإنسانية تميزها عن بقية الكائنات بالعقل والنطق والتكليف، ويعطيها أحقيتها في خلافة الله في الأرض. ويوازي الاعتدال في الكيان الإنساني، العدالة في المدينة من حيث نسبتها للحاكم، وقدرته على إحداث التناغم والتوافق بين طبقات المجتمع وفئاته، أي حسن السياسة والتدبير والإنصاف.
وبعد أن ألقينا نظرة عامة على هذه العلاقة التمثيلية ما بين الكيان الإنساني، والمدينة أو لنقل مساحة الالتباس الأخلاقية المعرفية السياسية، يمكننا أن ندون بعض الملاحظات، وربما نثير بعض التساؤلات.
أولًا:
تبرير النظام السياسي والاجتماعي القائم وتكريسه عبر تأسيسه وربطه بالحتمية الطبيعية، ثم بالحتمية والتدبير الإلهي، ناهيك عن تبريره بالنظام الأبوي. إنه الأمر الذي يدعم فكرة السيطرة الضرورية من قبل الأعلى في التراتب على الأدنى، ويؤكد ضرورة استبعاد المحكومين من المشاركة السياسية لكونهم غير مؤهلين لها. إن تأكيد الطابع البهيمي والحسي للنفسين الغضبية والشهوية (الجند والرعية) في مقابل الطابع العقلي الروحي المتعالي للنفس الناطقة (الحاكم) يدعم الطابع القمعي التسلطي والرقابي لعلاقة الثانية بالأوليْن .ناهيك عن تشبيهات أخرى عديدة، مثل تشبيه الحاكم بالرأس / والرعية بالجسد، حيث تعتبر الرأس مستقر الدماغ والعقل، والأشرف مكانة من بقية أعضاء الجسد والمتحكمة فيه. ومن اللافت حقا أن يعتبر بعض الكتاب في هذه المرحلة أن الجيوش هي أعضاء الجسد، بينما يرى آخرون أنها جميع معاوني الملك سواء كانوا عسكريين أم مدنيين. وفي الحالتين، فإن هذا يعني أن الشعب لا يعدو أن يكون مجرد مادة عاجزة يصوغها المعاونون ويشكلونها بحسب مرامى الأمير . إنهم قطيع البهائم الذي ينبغي أن يُقاد تحت إمرة رجل واحد يحوز السلطة فعليا ويجب على الجميع أن يخضعوا له!!
يقول الماوردي في الأحكام السلطانية :
«إذا كان البشر مسخرين لهم (الحكام)، وممتهنين لخدمتهم، ومتصرفين في أمرهم ونهيهم …… ومن جلالة شأن الملوك وفضائلهم على الرعايا وطبقات الناس أن كل من تحت يدى الملك من رعاياه، وإن كانوا معاونيه في الصورة ومشابهيه في الخلقة، ولم يتكلف هو اقتناؤهم ولا شراؤهم، فإن محلهم منه في كثير من الجهات محل المملوكين»(174).
واستمعوا إلى الجاحظ في مقدمة كتابه التاج إذ يقول :
«إن الله عز وجل لما خص الملوك بكرامته، وأكرمهم بسلطانه ومكن لهم في البلاد، وخولهم أمر العباد، أوجب على علمائهم تعظيمهم وتوقيرهم وتعزيزهم وتقريظهم، كما أوجب عليهم طاعتهم والخضوع لهم، والخشوع لهم، فقال في محكم كتابه «وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات» وقال عز وجل «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»… إن أكثر العامة، وبعض الخاصة تجهل الأقسام التي تجب لملوكها عليها، وان كانت متمسكة بجملة الطاعة، حصرنا أدابها في كتابنا هذا لنجعلها قدوة لها، وإماما لتأدبها. ولنا في ذلك أجرْين، أما أحدهما، فلما نبهنا عليه العامة من معرفة حق ملوكها، وأما الآخر فلما يجب من حق الملوك علينا من تقويم كل مائل عنها ورد كل نافر إليها. أن سعادة العامة في تبجيل الملوك وطاعتها، كما قال بن بابك : «سعادة الرعية في طاعة الملوك، وسعادة الملوك في طاعة المالك» أن الملوك هم الأس، والرعية هم البناء، ومالا أس له مهدوم» وناهيك عن المرواغات النصية التي تجعل الصدارة لأهل العلم والمعرفة بوصفهم أول من توجه إليه الخطاب، والذين يمنحون الملوك هيبتهم وعزتهم ومجدهم العتيد الخالد عبر التعظيم والتوقير والتعزيز والتقريظ، إضافة إلى الطاعة والخضوع والخشوع، وكأن مصداقية السلطة تتبلور وتنجلى عبر مرايا هؤلاء بالمقام الأول !! بل إنهم من يبصرون الخاصة والعامة بما ينبغي عليهم من واجبات الطاعة والتبجيل لملوكهم، وهم كذلك من يقوم أهل الميل والعصيان ويرد النافرين والمتمردين على الملوك إلى حظيرة الطاعة الملكية!! ومما يثير الانتباه في هذا الصدد هو تلك المفارقة بين سعادة الرعية التي تكمن في طاعة ملوكها، وسعادة الملوك التي تكمن في طاعة الله، وقد تم إسقاط حضور الرعية تماما!! بل إن هذا الطرح يجعل أهل العلم والثقافة هم الحضور الذي لا غنى عنه لأنهم معبر الملوك لطاعة الخالق عبر النصح والإرشاد والتوجيه اللين الرفيق، فيما يوصي الجاحظ !! غير أن ما يعنينا إبرازه في هذا الصدد هو إلحاح الجاحظ عبر الاستشهادات القرآنية على التفضيل الإلهي للملوك، والذي يتجلى واضحا في أن الله حينما ذكر الأمم السالفة والقرون الخالية، لم يقصد في ذكرها إلى وضيع ولا خامل، بل قصد إلى السادة والعظماء والملوك، ومن ذلك قوله تعالي . «ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا» وقال تبارك اسمه «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله»
وقال جل وعلا، «وإذا قال موسى لقومه يا قوم أذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين»
وقال تقدست أسماؤه «إن الملوك إذا دخلت قرية، أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة.»
«قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير، انك على كل شيء قدير.» لقد تعمدت إيراد كافة الاستشهادات القرآنية التي استشهد بها الجاحظ، لا لتدعيم رؤية قداسة الملوك وعظمتهم، بل لنقضها من جذورها!! لقد استشهد الجاحظ بنصوص قرآنية تجلي لنا طغيان الملوك وتطاولهم واجتراءهم على السلطة الإلهية، ناهيك عن إضلالهم العباد، وظلمهم إياهم وإذلالهم لأعزتهم، ورفضهم الأنبياء!! وهو استشهاد لا يخلو من مراوغة مدهشة، بل إنه يختتم استشهاداته بتأكيد أن الملك والعزة والسطوة بيد مالك الملك وحده فهو من يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، جلت عظمته وتقدست أسماؤه، وجل وعلا، وفي طاعته المطلقة سعادة الملوك !! إنه الطرح الذي ما زال يؤكد رغم كل المراوغات ثنائية العلاقة (الملك / الله)، حتى الطغيان أحد تجليات هذه الثنائية الحادة، وما الرعية في هذا السياق إلا العبيد المملوكين !!
وفي رسائل إخوان الصفا، ينصون على أن الرعية والجنود يمثلون أعضاء البدن من الرأس الحاكم، وهو ما يخالف وجهتي النظر سالفتي الذكر، لكنها مخالفة شكلية، لأن النتيجة التي يصلون إليها لا تختلف كثيرا، حيث يعد الرعية عبيد الملك سبيلهم السمع والطاعة والولاء التام!! وهكذا، فإن الكل أدوات مسخرة في يد الملك لتحقيق النموذج السياسي والاجتماعي المثالي معرفيا وأخلاقيًا!!
ثانيًا:
تبرير النظام السياسي والاجتماعى القائم معرفيا وأخلاقيًا. أما من الناحية المعرفية، فإن الشعب أو الرعية والجند، ذلك الحشد المجرد من العقل والإنسانية، الخاضع للأهواء والنزوات وللعنف، وللهمجية الأخلاقية، يقف بإزاء الأمير مثلما تقف الطبيعة بإزاء الثقافة والحضارة(183). ويكتسب الحاكم (النفس الناطقة) سطوته على الجند والرعية (النفسين الغضبية والشهوانية) من خلال اكتمالها المعرفي. بل إن إخوان الصفا يقولون النفس الناطقة الإنسانية الكلية التي هي خليفة الله في أرضه، هي التي قرنت بجسد آدم لما خلق من التراب، فسجدت له الملائكة أجمعين، وصارت بمثابة النفوس الحيوانية المنقادة لطاعة النفس الناطقة الباقية إلى يومنا هذا في ذرية آدم . أما إبليس الذي أبى السجود لآدم فهو ممثل القوة الغضبية والشهوانية والنفس الأمارة بالسوء. إلا أن جموح إبليس (مجسد الشهوة والغضب) لن يتم السيطرة عليه إلا بسطوة الأخلاق المتممة للرقى المعرفي!!
إنها تلك الفكرة الأخلاقية المسيطرة في العصر الوسيط حول الطبيعة البشرية السيئة، أي أن الإنسان يميل بطبعه إلى الشر، وقد أكد القرآن ذلك في قوله تعالى: (ان النفس لأمارة بالسوء) . وهكذا ينبغى أن يكون الأمير أو الحاكم هو الراعي المهذب لجنده ورعيته بوصفه خليفة الله في الأرض، ظله وصورته الحاملة لصفاته والمجسدة لها، يقول إخوان الصفا :
« وكل ملوك بني آدم خلفاء الله في أرضه، ملكهم بلاده، وولاهم عباده ليسوسوهم، ويدبروا أمورهم، ويحفظوا نظامهم، ويتفقدوا أحوالهم، ويقمعوا الظلم، وينصروا المظلوم، ويقضوا بالحق، وبه يعدلون ويأمرون بأوامره، وينهون عن نواهيه، ويتشبهون به في تدبيرهم وسياستهم، إذا كان الله تعالى هو سائس الكل ومدبر الخلائق».
وبالطبع، فلن تكون مهمة الحاكم يسيرة في تهذيب الجند والرعية كما أن مهمة النفس الناطقة ليست سهلة إزاء جموح النفسين الغضبية والشهوية. لذا لابد من القمع والقهر والإكراه، وكسر أي مقاومة أو مناوأة يبديها الأدنى في التراتب!!
ومن المثير للانتباه في هذا السياق عدة أمور :
أولا : أن الحاكم (المثالي) يغدو في هذا التصور مفارقا تماما من حيث الجوهر لرعاياه بكافة مستوياتهم، كما أن النفس الناطقة تفارق جوهريا النفسين الغضبية والشهوية، وإن اجتمعوا في كيان مادي واحد!!
إن انتفاء المجانسة الجوهرية رغم تشابه الصورة البشرية مسألة ساهمت في تأسيس قداسة الملوك، وعزلهم عن بقية الرعية. بل إن إخوان الصفا يقرون على لسان حكيم الجن في رسالة الحيوان، بأن اسم الملوك مشتق من الملك، والملك من أسماء الملائكة، وقد وكل الله لكل جنس ملائكة تربيه وتحفظه وتراعيه في جميع تصرفاته، وهي رحيمة به رؤوفة بحاله. ورحمتها تلك صورة من رحمة الله تعالى بعباده ورعاياه . وهكذا تتأرجح طبيعة الملك المثالي ما بين الصورة الإلهية، والطبيعة الملكية بالقياس إلى رعيته من الخاصة والعامة على حد سواء. بل إن الأمر يصل في بعض الأحيان، إلى درجة وسم الوزراء والفقهاء والقضاة وغيرهم من النخب المحيطة بالملك بالفساد والانحطاط المعرفي والأخلاقي، فيما يبدو الملك منتزع خارج السياق، مفارقا لكل هذا ومتعاليا عليه. وبالطبع، فإن هذه المعالجات تكشف عن الحيرة والارتباك إزاء الوضع السياسي المعقد في تلك الآونة ما بين الحضور الرمزي للخليفة العباسي المهمش من ناحية، والحضور السلطوي حائز القوة والنفوذ والمهيمن للأمير البويهي.
ومما يلفتنا في هذا السياق، حديث الكثير من المفكرين عن تدبير الملك لملكه عبر تداول الرأي والمشورة مع اهل البصيرة بالأمور، والذين أختلف حول تحديدهم من هم. فهناك من يعتبر رجال الدين الراسخين في العلم الشرعي والفقهاء الأمناء هم الأحق، وهناك من يرى رجال المعرفة والحكماء والفلاسفة هم الأجدر، بينما يميل آخرون إلى الأتقياء ورجال الله!!) ولا يعني هذا نقض الطابع الاستبدادي للسلطة، بل مطامنته، حيث لا يملك هؤلاء سوى إسداء النصيحة، ولا يحق لهم المشاركة الفعلية في إدارة الحكم.
ثانيًا : الإلحاح النظري المعرفي على الوحدة الأصولية للنفس الإنسانية. ويمكننا تفسير هذه المسألة بالرجوع إلى القرآن وما ورد فيه حول النفس الإنسانية في قوله تعالى» ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها»، أو بالرجوع للميل الفلسفي الباحث عن وحدة الأصل (القانون أو العلة الأولى والنظام المطلق) فيما وراء التنوع والكثرة، والفوضى والتشظي .ناهيك عن النزعة الدينية التوحيدية. وكل هذه تفسيرات ممكنة ومشروعة، لكن ما يعنينا إبرازه هنا هو أن الإقرار بهذه الوحدة الأصولية الأولى هو الذي سيعطي للصراع الداخلي لقوي النفس الثلاث مشروعيته المعرفية والقيمية، إذ يغدو الانقسام الناتج عن معانقة النفس الناطقة (الجوهر الروحي البسيط) للجسد (المادة المظلمة) كسرًا أو هدما للوحدة الأولى، وخروجا عليها، وتشويها طارئًا لها، ونقصا يفت عضد اكتمالها وانسجامها الأزلي الجميل. ومن ثم يغدو الصراع بين النفوس الثلاثة، ومحاولة النفس الناطقة الهيمنة على النفسين الغضبية والشهوية محاولة حتمية من أجل استرداد ذلك الأصل الفردوسي القديم، النافي للصراع والتناقض الإنساني بكافة مستوياته المعرفية والقيمية والوجودية. ولعلنا نلاحظ مدى جدلية العلاقة بين هذه الرؤية المعرفية ذات الطابع المثالي الميتافزيقي، وبين الواقع الحضاري بكافة مستوياته في تلك اللحظة التاريخية شديدة التعقيد. ولعل هذا الهوس الفلسفي بالوحدة الأصولية للنفس الإنسانية، وطابعها المثالي الفردوسي، يعبر عن حلم أثير وهاجس مؤرق بالعودة إلى عصر الازدهار، وهيمنة خلافة مركزية قوية يغدو فيها الحاكم حافظ الناموس، القابض وحده على السلطة بقبضة قوية. بل إنه الحاكم القادر على استعادة التوازن والتناغم والوحدة، وإنقاذ المجتمع العربي الإسلامي من التفكك والانحلال والصراعات السياسية والعقائدية والعرقية.. إلخ!! ولعلها محاولة إعادة بناء المركزية السياسية على أساس الحقيقة الفلسفية العقلية، وحدة المعرفة والقيم، لا على أساس الدين، خاصة لدى الفلاسفة ذوي النزعة الأرسطية، وحيث يستبدل الفقيه ناصح السلطان بالفيلسوف معلم السلطان!!
ويميل التوحيدي شأنه شأن أستاذه السجستاني إلى تأكيد الطابع الروحي الديني لهذه الوحدة الأصلية بما يطامن من حدة النزعة العقلية لدى الفلاسفة الأرسطيين.
«الدين والملك أخوان، فالدين أس، والملك حارس، فما لا أس له فهو مهدوم، ومالا حارس له فهو ضائع … إن الناظر في أحوال الناس ينبغى أن يكون قائمًا بأحكام الشريعة، حاملا للصغير والكبير … لأن الشريعة سياسة الله في الخلق، والملك سياسة الناس للناس، على أن الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة، والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة، والملك مبعوث كما أن صاحب الدين مبعوث، إلا أن أحد البعثين أخفي من الآخر والثاني أشهر من الأول».
وبالطبع تنطوى هذه الرؤية على ذاكرة الأنبياء الملوك كداود وسليمان، بل إن التوحيدي يستدعي نموذج طالوت في قوله تعالى: «إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا».
ولا يعنى هذا الإقرار بالعلاقة الوثيقة بين النبوة والملك التوحيد بينهما في تجسيد حي واحد قائم بالفعل، بل على العكس ظل هناك إصرار على الفصل بين خصال النبوة، وخصال الملك، حيث تغدو النفس النبوية القدسية أعلى مقاما من النفس الملكية الحكمية. فالنبي مشرع صاحب وحي ورسالة تشريعية، أما الملك فهو صاحب البيعة ويأخذها على الأتباع المستجيبين لهذه الشريعة، والساعي لإقامة سنة هذه الشريعة طوعًا أو كرهًا، دعوة أو غزوا!!
إن نمط الوحدة القائم هنا نمط يفترض التنوع وحيوية الصراع الخلاق، لتعدد الديانات والشرائع، وكثرة السياسات الدنيوية، وليس نمطا عقليا يقينيا مطلقًا متفقًا عليه من الكافة!! ولعله ينطوي على ظلال ذات طابع فقهي بصورة أو بأخرى !! ومن المثير للانتباه في هذا الصدد أن تعتبر النفس الناطقة (الملك) من العقل كالقمر من الشمس، ترى هل ينطوي هذا الطرح على محاولة مراوغة لقلب التراتب ما بين الحاكم، والمفكر أو الحكيم الفيلسوف صاحب المعرفة العقلية الراقية!! وفي سياق آخر، الحكيم الصوفي صاحب العقل الكشفي والحدس القلبى!!
على أية حال، فإن ارتباط الطرح المعرفي والأخلاقي لنظرية النفس الإنسانية بالواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع العربي الإسلامي الوسيط يُعد ارتباطًا شديد التعقيد والالتباس متأرجحًا ما بين التكريس والكشف والنقد والإدانة!!
إن صياغة الصورة المثالية للحاكم، وعلاقاته النموذجية بالجند والرعية تومىء من طرف خفي إلى نقيضها الواقعي والقائم فعليا، ومن ثم، فإذا كان الملك مناقضا لهذه الصورة المثالية، فهذا يعني فقد الملك ذاته لشروطه ودعائمه وحينئذ ينبغي أن يساس ويدبر بغيره، بمن يقومه ويعدله!! وهكذا يُدعم الدور المحوري المنوط بالمثقف العقلاني في تشكيل الصورة المثالية للملك، بل اعتلاؤه قمة التراتب لامتيازه العقلي، بينما يتكشف مدى سوء وانهيار النقيض السياسي الواقعي القائم فعليا، وافتقاره الشديد لدعم الحكماء وأهل العلم والعقل والتدبير!!
يقول الماوردي في رسالته» نصيحة الملوك:
«اتخذ من علمائك ونصحائك مرآة لطباعك وفعالك، كما تتخذ لصورة وجهك الحديد المجلو.»
هالة أحمد فؤاد
باحثة وأكاديمية من مصر