يقترن المشروع التنويري العربي، في حالته الحاضرة بنزعة نقدية بانية للفكر كما للواقع ، يقودها ويرسي أسسها مفكرون عرب يأخذون دورهم في الحياة الاجتماعية والفكرية على نحو واضح .. وهم ، في عملهم هذا، يجدون طريق الحرية مفتوحا أمامهم ، طالما هم يخوضون معترك الحياة من أجل التقدم والنهضة ، مكتشفين في كل من " التراث " و " ألتجديد" سلاحا لدفاع مشروع عن حقهم في التغيير الذي يعمل مفكرونا اليوم على أن يجعلوا له مداه الواقعي..
في سياق مثل هذه النظرة يأتي فكر الدكتور محمد عابد الجابري..
وفي سياق الموقف الذي تمليه هذه النظرة ينتظم ، فكرا وتفكيرا في مسار من العمل الدائب .والمستمر منذ ما يقرب من ربع قرن .. متخذا من الفكر العربي، بكل ما لنا منه من معطيات الماضي التراثي، أرضا يحرك عليها قضايا الحاضر ومشكلاته .
وإذا كان " التراث " في فكر " الجابري" وتفكيره يمثل الأرضية .المنطلق بكل تأسيس فكري جديد.. فإن الديمقراطية والحرية هما. في نظره ، عماد كل بناء يمكن أن ينهض على هذا التأسيس . ومن هنا فهو يمارس دوره النقدي لكل من "التراثي" و"المعاصر" بهدف بناء عقلانية عربية معاصرة .
وفي هذا الحوار معه بحث في هذه القضايا /المشكلات وما يتصل بها، أو ينبثق عنها..
* دعنا ننطلق ، في حديثنا هذا، من الحاضر الراهن .. مما نعيشه أمة ونواجهه واقعا ونوسمه /ونترسمه أفقا ثقافيا وفكريا… فأسأل : على أي نحو تتمثل هذا كله ؟
وأي دور توي للمثقف العربي فيه ؟ (أرجو أن تكون الاجابة في ضوء تجربتك الشخصية ، ومن خلال رؤيتك
– التي تتحدد في إطار عملك في حقل الفكر..).
– لاشك أننا نجتاز مرحلة دقيقة . واقعنا العربي ـ سواء منه الواقع الاجتماعي أو الواقع الاقتصادي، أو الواقع السياسي أو الواقع الثقافي _ يعاني من مشكلات حقيقية ، ويعيش أزمات . ويمكن للمرء أن يلمس هذا بشكل واضح في بعض الأ قطار العربية عندما يتجه بنظره الى الشباب الذين هم رجال المستقبل .. إذ يمكن القول إن شبابنا اليوم ، بصفة عامة، يعاني من إحباطات كثيرة ، وأخطر هذه الاحباطات متأت من أنه لا يرى آفاقا واضحة أمام عينيه . ففي كثير من الأ قطار العربية ـ إن لم أقل: فيها جميعا، باستثناء الدول النفملية _ يعاني الشباب من مشكلات البحث عن لقمة العيش وتأمينها، فهناك بطالة بين الخريجين وبطالة بين الأميين .. وهناك بطالة حتى بين المشتغلين (بطالة مقنعة )، فإذا كنا في جيلنا قد عشنا مشروعا هو: مشروع الدولة الوطنية المتحررة من الاستعمار، أو مشروع دولة الوحدة ، أو مشروع النهضة _ وكان هذا كله يبدو لنا ممكنا ـ فإن الشباب اليوم لا يرى الأفق بمثل هذا الإغراء الذي كان له فيما مضى. لذلك لا نستطيع أن نواجه مهام المستقبل إذن نحن لم ندرك هذه الحقيقة بعمق .
إن هؤلاء الشباب الذين يمارسون العنف في الجزائر أو في مصر باسم "الأصولية الدينية " هم ، في الأغلب الأعم ، شباب وجدوا الآفاق مسدودة أمامهم ، قد لا يكون للدين ، كدين ، دور في ممارساتهم أو في قناعاتهم ، ولكن الإحباطات التي يعانون منها تنسحب عليهم وتجعلهم ينساقون مع التطرف ويمارسونه .
إن الدولة العربية القائمة أصبحت ، مع الأسف الشديد في وضع لأشغل لها فيه إلا الدفاع عن نفسها.. فهي متهمة : متهمة سياسيا لافتقادها الشرعية الديمقراطية إضافة الى افتقادها الشرعية الثورية التي كانت تستند اليها أنظمة معينة من قبل .. كما أنها تفتقد أي مشروع يمكن أن يستقطب اهتمامات الناس وطموحاتهم ويؤجل مطالبهم ، فالدولة العربية أينما اتجهت _ حتى لو كانت غنية ـ متهمة . وبالنتيجة أصبح همها، كل همها ، أن تدافع عن نفسها. وفي الدول التي يسود فيها التطرف والعنف تدافع الدولة عن نفسها بتطرف مضاد وعنف مضاد. وهذا الموقف ، أو الحالة ، لا تبشر بانفتاح أية آفاق واضحة ، لأن التطرف والعنف لا يولدان إلا التطرف والعنف ، وحتى الأ قطار التي لا يمارس فيها هذا النوع من التطرف أو العنف ، بشكل صريح وعلني، نجدها لا تحترم ماضيها.
إذن ، نحن في حاضر صعب ، حا ضرنا صعب في الداخل وهو كذلك صعب بالنطر الى مسا يحيط بنا من الخارج ، خصوصا ونحن نواجه قطبا إمبرياليا واحدا، لا منافس له ، نحتمي به ،أو نصادقه ، أو نتحالف معه ، أو نستغل تناقضاته مع الآخر. هذا القطب الامبريالي ، خلال العدوان على العراق ، ظهر مستعدا لأن يقوم بجميع أنواع التدمير في سبيل حماية مصالحه ، أو من أجل الأ قرار بوجوده حاكما مطلقا.. هذه الوضعية كما ترى تجعل الواقع العربي والفكر العربي أمام تحديات لا يستطيع أن يتجاوزها.
* وهل يعني هذا أن القضايا المطروحة علينا اليوم التي قد تبقى هي نفسها التي تطرح علينا غداـ أكبر وأخطر مما كان مطروحا علينا بالأمس ؟
– بكل تأكيد .. بكل تأكيد هي أكبر وأخطر. فبالأس كنا نواجه استعمارا مباشرا، وكان بالامكان مقاومته وإخراجه بشكل ما.. لأن مقاومة الاستعمار كانت تندرج في إطار حركة تحرر عالمية ، وفي ارتباط مع التيار الاشتراكي المعادي للاستعمار والمنافس للرأسمالية هذا من جهة .. ومن جهة أخرى؟ كان الخلاف ، في المرحلة الاستعمارية ، محدودا جدا. لم يكن هناك فريق ، أو فرقاء يطالبون ببقاء الاستعمار. أكثر من هذا، عندما استرجعت بعض الدول العربية استقلالها كانت المشكلات أهون . كان عدد السكان أقل .. كانت المشكلات بالنسبة لمصر مثلا، أهون من مشكلاتها الحالية .. وكان اقتصادها أمثل ..وكانت تمول حركات التحرر العربية في الشرق والغرب .
* وكانت أيضا تشكل مركزا فكريا وثقافيا له ثقله وتأثيره العرمي
الشامل ..
– كانت تشكل مركزا فكريا وقوة مادية . أما اليوم فهي أضعف دولة عربية ، وأكثرها مشكلات ،ولا يستطيع الانسان أن يتنبأ بأي شي ء بالنسبة لمصر المستقبل ..
أقول هذا، أيضا، بالنسبة لسوريا: كان سكانها أربعة ملايين وكانت بمثابة «أثينا» أما اليوم فهي شي ء آخر.. أما بالنسبة للمغرب ، فقد كان استقلال المغرب يعني طريقا مباشرا نحو وحدة شمال إفريقيا، فإذا هو اليوم يعيش النزاعات ما بين أقطاره ، وقد استفحلت واستمرت وهددت باندلاع الحرب بين هذه الأقطار.
* وهذا يعيدنا الى ما جرى من عمل منظم على هدم المراكز الثقافية العربية ، الحقيقية والفعلية ، و" تعويضها"، او طرح " بديل " لها مراكز هشة ، ورخوة لا تمتلك من مقومات الوجود والتأثير شيئا يذكر.. بحيث يسهل اختراقها ـ إن لم تكن معدة ، أساسا، لتمرير عملية الاختراق وتمرير ما يعمل الفوب الاستعماري على تمريره الى مجتمعاتنا من خلالها بسهولة ويسر.
ـ من المؤكد أن الفوب الذي لا شغل له إلا ضمان مصالحه ، ليس من سصلحته قيام دولة عربية قوية مهما كانت ، وفي أية نقطة كانت ، فقيام دولة عربية قوية مهناه : قيام كيان عربي يستقطب النضال ويقوده . النضال ضد من ؟ ضد من يستغلنا، ولا يحترم مصالحنا، ولا يتعامل معنا على أساس توازن المصالح .
إذن مبدئيا، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الفوب ضد قيام دولة عربية قوية ، يجب أن نعي هذه الحقيقة . فإذا كنا نريد/ ونبسل على بناء دولة تكون قوية يجب أن نلتمس جميع السبل التي تمكننا من الانفلات من قبضة هذا الفوب الاستعماري.
لم يعد بالامكان مهاجمة الامبريالية من الخارج . في السابق كنا نواجه الامبريالية بالقاء الحجر عليها من الخارج (من فيتنام ، أو انجولا، أو من اثيوبيا، أو كوبا.. أو من الوطن العربي). أما اليوم فقد أصبحت الامبريالية غطاء يحتوينا جميعا شئنا أم أبينا، ولذلك فإن العمل ضدها يجب أن يكون من داخلها.
* كيف ؟ وبأي الوسائل ؟
ـ سبق لي أن قلت ، في مناسبة من المناسبات ، أن العالم اليوم أشبه بمصنع كبير على رأسه الفوب وأمريكا، ونحن في مركزه ، وهناك طريقان لأخذ الحقوق من هذا المصنع الرأسمالي :
إما بانتهاج طريق الثورة الذي يوقف العمل ، ويهجم على المصنع من أجل السيطرة عليه ..
أو بالقيام بعمل نقابي داخل المصنع _بتحقيق نوع من التضامن بين العمال نوع من الاضراب .. نوع من المطالب _ أي أن المعركة تسير في جداول وعبر قنوات لا تؤدي الى أي نوع من الاصطدام . والفوب الرأسمالي ، بطبيعته يستجيب لمثل هذه الضفوط لأنه يحسب حساب الربح والخسارة . فاذا ما أخذنا بهذا التشبيه يمكن القول : أن العالم اليوم أشبه ما يكون بمصنع .. الرأسمالي فيه هي الشركات الرأسمالية العالمية (متعددة الجنسية لم والشركات الامريكية ، والمالكون هم الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية . أما العمال في هذا المصنع فهم نحن ، شعوب الجنوب ، بدولنا وشعوبنا. فإذا ما تحقق نوع من التضامن بين دول الجنوب وشعوبه كا لتضامن الذي يتحقق بين النقابات .. وإذا ما عرفنا كيف نستغل التناقضات الموجودة بين دول الشمال نفسه ، ونسلك مسلكا ذكيا على المستوى السياسي فاستطعنا أن نحقق التوازن بين المصالح _بالحد من مصالح الفوب وعدم تمكينها من الاستشراء _ نستطيع المحافظة على وجودنا، ونضمن تنحيته . أما إذا أردنا أن نواجهه بالأسلوب القديم ، فإن النتيجة ستكون ضدنا.
بطبيعة الحال ، لا يعني هذا أن التاريخ باق في شكله هذا أو على صورته . فمن الممكن أن تنشأ في غد تناقضات بين الشمال نفسا.. ومن الممكن أن تبدو لنا مداخل أو مخارج أخرى للعسل . ولكن ، في جميع الحالات ، نحن أمام حاضر ثقيل لابد من التعامل معه بأكثر ما يمكن من التضامن والذكاء السياسي .
* وهنا يأتي دور الثقافة على ما أرى باعتبارها تمثل بعدا استراتيجيا في عملية الصراع هذه بين الجنوب والشمال . – نعم ، لأن الثقافة أصبحت الآن من جملة الوسائل التي تتحقق بها السيطرة _أو ما نسميه بـ «الغزو الثقافي » _ فالوسائل السمعية البصرية تفزر الأذواق ، والسلوك ، ويجري العمل بها /من خلالها على تكييف حياة الفرد من أجل أن يصبح مستهلكا لنوع من السلع لنوع من القيم ، وتابعا لنماذج معينة _هي هذه القيم ، والسلع ، والنماذج الغربية التي يخدم تكريسها المصالح الاقتصادية للغرب ، ويحقق السيطرة الاقتصادية والسياسية . فمن يتبع غيره في مجالات القيم ، والاستهلاك ، والنموذج هو، بطبيعة الحال ، تابع له ، اقتصاديا وسياسيا. وقد أصبحت الثقافة اليوم مدخلا لهذه التبعية.
* إذن ، دور الثقافة هفا دور أساسي..
* الآن وبعد أن انسحبت الكتلة الشرقية من واقع الصراع لم يعد هناك صراع آيديولوجي، عل الصعيد العالمي، بين معسكرين . الصراع الثقافي وحده هو الذي يقوم اليوم مقام الصراع الآيديولوجي بين نموذجين لا مشروعين : النموذج الرأسمالي ، والنموذج الاشتراكي، ويمتد هذا الصراع ، ويمتد _ وهوصراع يتم داخل كل ثقافة .
أما الصراع الآيديولوجي من أجل نماذج للمستقبل .. من أجل مشروعات للمستقبل ، فقد انسحب بأبعاده هذه ، وأصبح الصراع الآن من أجل من يحتل الواقع .. من يستقطب الواقع _وهو " الطرف الواحد" الآن . لذلك فإن الجانب الثقافي أسامي هنا.
* يكون من المفيد أن نحدد طبيعة الثقافة بما ينبغي أن يكون لها من مستلزمات موضوعية في صراع كهذا..
ـ مادمنا قد قلنا بأن هذا الصراع الثقافي يستهدف القيم والسلوك والعادات _عادات الحياة وعادات الاستهلاك _ فيجب أن نأخذ الثقافة ، هنا، صعناها العام _أي بما فيها " الثقافة العالمة "، من معارف ، وعلوم ونظريات وآراء وإبداعات _و"الثقافة الشعبية " بما هي سلوك فردي وجماعي، وفي مستوى القيم الجماعية ، وكل ما يشكل هوية جماعة من الجماعات .
" النخبة العالمة " صاحبة الثقافة العالمة ، مستهدفة لأنها هي " التي تقود المجتمع والسلوك العام للجماعة هو المستهدف أيضا.. لأن المطلوب هو أن تكون خاضعة ، وطيعة ومزهوة بهذه «النماذج » التي تكرس عن طريق الإعلان .
إذن ، الثقافة هنا يجب أن تؤخذ بمهناها العام .. ويجب ، بالخصوص ، أن تؤخذ باعتبارها المقوم الرئيسي للهوية الوطنية والقومية .. فالمستهدف هنا هو الهوية الوطنية والخصوصية الثقافية .التي هي معدن الأمة .
* ولكن .. ما مقومات هذه الثقافة التي يمكن أن تأخذ مثل هذا الدور في كملية الصراع هذه ؟
– إذا أخذنا بمفهوم " الثقافة القومية " فيجب أن نميز بين المعنى الذي كنا نعطيه لهذه الثقافة قبل هذه المرحلة – في الخمسينات والستينات تحديدا ـ والمعنى الذي نعطيه لها الآن . ففي الخمسينات والستينات كانت الثقافة القومية تعني الثقافة التي تخدم الوحدة وتعمل من أجلها (أي ثقافة الوحدة ). أما اليوم فالثقافة القومية هي الثقافة التي تواجه " الآخر" الذي يهدد الجميع ، قوميين وغير قوميين ، إسلاميين وغير إسلاميين .. اشتراكيين وغير اشتراكيين . قطريين وغير قطريين .
" الثقافة القومية " يجب أن يتسع صعناها ليشمل لا الوحدة والعمل من أجل الوحدة فقط ، بل الأمة كلها: بتاريخها بآمالها .. بواقعها . ولذلك فإن الحالة اليوم تدعو الى " كتلة تاريخية ". وفي هذا الاطار فإن الثقافة المطلوبة هي الثقافة التي تستطيع أن تجعل جميع الأطراف تنتظم حول قضايا مشتركة أي: الثقافة التي توحد، ولا تفرق أما الاختلافات والمشارب الآيديولوجية فيجب أن تؤجل .
* وهل تنتظم في هذه الذي ترده وتدعو اليه الدعوة القي قال بها بعض المثقفين العرب في السنوات الأخيرة ، الى " ثقافة عربية جديدة ؟
– الجديد جديد بالنسبة لمرحلته . ففي كل مرحلة يحق لنا أن نطالب بالجديد. ولكن ، لا يكون هناك جديد حقيقة إلا إذا استنفد القديم كل إمكاناته ومبررات استمراره والدعوة الى «ثقافة عربية جديدة » تبقى دعوة مشروعة دائما.. لكنها تبقى دعوة غير مؤملة ما لم تعزز نفسها بنوع من التحليل للوا قع ، بنوع من المشروع المستقبلي الواضح الذي يمكن أن يستقطب الاهتمامات ، والناس ويوحد النظرة والاتجاه .
لكن … ماذا نعني بالجديد هنا هل الجديد هو أن تكون هذه الثقافة مرتبطة بالعصر فقط ؟ إن الجدة مرتبطة باللحظة ولا معنى لها ما لم تكن نابهة من تحليل الواقع ، ومرتبطة بآفاق مستقبلية . أما الارتباط بشعارات الجدة ـ خصوصا في واقع كواقعنا يحتم علينا النظر الى ما يجب أن ينجز على جميع الجبهات ، فلا ينتج شيئا إن الجدة يجب أن ترتبط بأشياء ملموسة ، وتستجيب لها لا" الجدة الشكلية " فقط .
* هنا» بالذات ء يمكن أن نبصر الفجوة بين ثقافتنا والعصر.. بين هذه الثقافة ومتطلبات مواجهة " الآخر ـ ثقافيا" ـ بكل ما يسود العصر وحالة الصراع فيه من متغيرات وتطورات دائمة .
– هناك ، في الحقيقة فجوتان بالنسبة للعصر الحاضر وما تحدثنا عنه من نزوع نحو الهيمنة الثقافية ، وانسحاب الصراع الآيديولوجي لحساب الصراع الثقافي ـ وهو ما يدفعنا الى أن نرى في واقعنا فجوتين ، لا فجوة واحدة : ـ فهناك الجماعات الشعبية ، أو الثقافة القروية المرتبطة بالمجتمع القروي..
– وهناك ثقافة "النخبة العصرية "..
فهناك فجوة ما بين «النخبة العصرية » و ددالنخبة التقليدية ».. وهناك فجوة ما بين هذه النخبة العصرية نفسها وبين " النماذج " التي تقتفيها، أو تقلدها، أو تنسج على منوالها. وأنا أرى أن الخطر اليوم ، الذي يهدد وحدة ثقا فتنا، هو ددالفجوة الأولى » التي تقوم ما بين "الثقافة البادية " و" ثقافة المدينة " ، أي بين " ثقافة النخبة التقليدية " و" ثقافة النخبة العصرية ". هذه الفجوة هي الخطيرة لأن الثقافة الغربية وغزوها، أو هجومها وتدخلها، واقتباسنا لها، أو ارتباطنا بها، هو من شأن "النخبة العصرية ". والنتيجة هي «أرد الفعل » الذي سيكون من النخبة الأخرى، وهو: رجوع أكبر الى الوراء. وما دامت هذه «الثقافات الغربية » ذات منحى عدواني امبريالي ، فان كل من يخضع لها متهم بالخضوع للاختراق ، أو بتكريس ثقافة الاختراق .
هذه " الفجوة " أصبحنا نعاني منها في مستوى الصراع أو النقاش الثقافي فهناك حرب أهلية ثقافية وإرهاب فكري، لذلك فإن " الفجوة الثقافية " ليست فقه بيننا وبين الغرب .. بل هي ربما بشكل أكبرأوأشد، بيننا وبين أنفسنا_وهذه هي الخطورة في الأمر، في الوقت الحاضر. وهو ما يعطي الثقافة اليوم أهمية أساسية ، لأنه يستلزم تحقيق نوع من المصالحة عل صعيد ثقافتنا ككل ، بحيث نستطيع تجاوز هذه الحالة التي
عبرنا عنها بـ «الحرب الأهلية » نستطيع ، عندئذ أن نتعامل مع الغرب أخذا ورفضا.. اقتباسا وردا..الخ .
* تبدو لي من خلال هذا الذي تقول ، وكافك تضع أمام المثقف العربي مهمات جديدة ، وتقترح عليه مشروعا مفديوالمشروعه السابق ..
– نعم ، فنحن الآن يجب أن نفكر في ضوء الواقع ، نحن لا نستطيع أن نفكر، أو نقدم مشروعا للمستقبل بناء على المعطيات التي عشنا عليها في الخمسينات والستينات والسبعينات، وحتى في الثمانينات. اليوم، في التسعينات، هناك واقع جديد يظهر في الوطن العربي ككل.. هذا الواقع هو الذي يجب أن ننطلق منه عند التفكير بأي مشروع ثقافي مقبل وإلا سنكون كمن يفكر في فراغ.
" ضمن هذا الواقع الذي قدمت تصوراتك عنه على النحو الذي قدمت، وطرحت مشروعك فيه: ما السؤال الذي يسكنك اليوم، وتطرحه على نفسك والواقع معا؟
– هي نفسها المشكلة التي تحدثنا فيها؟ قبل قليل، عندما طرحت مفهوم "لكتلة التاريخية" على الأقل : أن نقلص الفجوة التي تفصل بين طرفين في ثقافتنا لكي نتعامل، ككل، مع "ثقافة الآخر". أعتقد أن الكتلة التاريخية مهمة تاريخيا وظرفيا. وأستطيع القول : إن هذه الفكرة وجدت صدى في كل مكان. كما تحققت الاستجابة لها من أغلب المثقفين العرب، وبطبيعة الحال، فعندما تظهر فكرة كهذه وتصبح موضع اهتمام وموضوع مناقشة معنى ذلك أن هناك حاجة فعلية الى تجارب وضعية تقترح هذه الفكرة مجاوزتها..
أعتقد أن علينا كمثقفين أن نعمل من أجل هذه الفكرة.. من أجل تحقيق الكتلة التاريخية : بتجاوز الانشطار الذي يتهددنا ثقافيا وسياسيا وحضاريا وإلا فلا مخرج لنا. _ ودعوتك إلى والاهتمام بالجانب الثقافي من حياة المجتمع: أين تقع هذه الدعوة من الحالة التي نعيشها اليوم في ظل هذا الظرف العالمي الجديد الذي يضع أمامنا مسارات جديدة ويطرح علينا توجهات جديدة ؟
– أعتقد أن الوضع العالمي اليوم الذي يطرح علينا تصورات جديدة، وحالات مغايرة لما كان (على مستوى السياسة والاقتصاد) هو الذي يجعلنا نقول باعطاء الأولوية للثقافي على السياسي. من قبل في مرحلة الاستعمار، كانت الأولوية للسياسي على الثقافي، وفي مرحلة ما بعد الاستعمار كانت الثقافة هي الثانية. النضال السياسي من أجل أهداف سياسية يحتل المقدمة. الآن المهدد هو الكيان الثقافي الذي أصبح يشد اليه مختلف جوانب حياتنا. لذلك أرى أنه لابد من إعطاء الأولوية للثقافي على السياسي. وليس معنى هذا إلفاء السياسي، وإنما معناه أن نحرر الثقافة من السياسة.. الا نجعل الثقافة خاضعة للاعتبارات السياسية، بل يجب أن يكون لها كيانها وحريتها ومسوغ وجودها عندها تصبح الثقافة قضية العصر _ وهي قضية العصر فعلا.
كأنك بهذا تقترح منطلقات جديدة للثقافة والعمل الثقافي العربي مواجهة لعديد من الحالات المستجدة في واقعنا من جانب وقيما يحيط بنا من واقع دولي وإنساني من جانب آخر.
– المنطلقات هي هي نفسها أي أن منطلقاتنا المتوارثة لا يمكن أن تتغير ما لم نحققها فهناك منطلق اكتساب أكثر ما يمكن من الاستقلال السياسي والاقتصادي والتحرر من التبعية وليس هناك من تفكير في الواقع العربي إلا وهو منشد الى مشكل التنمية ومشكل الاقتصاد العربي. فهذه المشكلات تتطلب لا نقول عملا وحدويا وإنما مشاركة عربية. إذن منطلقاتنا تبقى هي هي، لكنها تتوجه الآن بفعل التحديات، الى أدوار أخرى، وفي توجهات أخرى. المنطلق الأساسي هو المنطلق الديمقراطي الذي يبقى دائما عقدة ما يمكن أن يحدث.. إذ لا يمكن أن يتحقق ما نصبو اليه ما لم يكن هناك هامش واسع من الحرية : حرية التعبير، وغيرها من الحريات التي لا تتحقق إلا في وجود نظام حكم بطريقة ديمقراطية، هذه منطلقات وأهداف دائمة وهي تطرح نفسها اليوم بشكل أكبر من أي وقت مضى.. وتطرح نفسها عليك مفكرا، وفي مجالات العمل الثقافي والفكري.
– هذا مجال آخر، كلنا يحمل الهم نفسا وكلنا يعبر عن هذا الهم بطريقة أو بأخرى.
– ضمن هذا التصور الذي قدمت عما نعيش وبه نفكر هل نحن اليوم، أمة في مأزق أم في مخاض ؟
– الفرق بين "المأزق" و "المخاض" دقيق جدا. هو مخاض، لكنه سيلا كائنا حيا معافى أما ميتا؟ هذا شيء آخر. نحن في مأزق المخاض.
أنا شخصيا متفائل، متفائل لأن وضعنا العربي ليس مهددا بالتلاشي المطلق كما هو وضع افريقيا مثلا _المهددة بالانحلال قياسا الى ما كانت عليه. نحن نختلف فنحن لدينا تراث، وما يزال عندنا طموح.. ولدينا الوعي بشرعية وجودنا التاريخي وبشرعية أعمالنا، وبأهمية دورنا في الخريطة العالمية الحاضرة : وضعا استراتيجيا، ومواد خاما، وغيرها. إلا أن هذه الحركة التي نعيشها، وهذه التمزقات إنما هي، في الحقيقة، دليل حيوية، وعامل رفض، وان لحان – كما يبدو – رفضا سلبيا إلا أنه ليس استسلاما، فالصعب هو الاستسلام، يجب التحول الى العقلانية وهذا ما نعمل له. : وهنا يأتي دور الثقافة..
– وهذا هو المقصود.. لأن تحويل هذا الرفض السلبي الى رفض إيجابي هو، أساسا، من مهمة المثقفين، والدور الأهم فيه للثقافة.