لم أذهب الى السوق من قبل.
رغم قصر المسافة بينه وبين بيتنا.. وكثر الحكايات التي أسمعها عنه. ظللت عالقا بين المزرعة والمنزل.
كنت أنظر الى السوق بأنه شي ء قريب سهل المنال.. مشروع مؤجل رغم الأشياء التي تستفزني للذهاب اليه.
الى أن جاء اليوم الذي انتظره أو بالأحرى جاءت الصدفة.. فذهبت رفقة حمارنا الأبيض.. الذي أخذ يرشدني للسوق ومسالكه.
كان يمشي هذا الطريق منذ سنين.. رفقة أبي..
كان يمشي مختالا متباهيا بطوله وبياض جلده.. يحفظ الطريق جيدا وكان كلما استشعر بالخطر يداهمه حرك أذنيه الطويلتين في اتجاهات مختلفة تنم عن الحذر والحيطة.
عندما وصلنا الى مدخل السوق.. وقف رافضا الاستمرار في المشي.. وظل يحرك رأسه وكأنه يشير الى مكان ما.. فقفزت عن ظهره وبسعادة كانت تغمره اتجه الى الحصير المربوطة خلف المدخل.
قرب المدخل تتصاعد رائحة البول المختلطة بروث الحمير والبغال ويتعالى طنين الذباب.
وكانت حوانيت السوق الطينية متراصة مع بعضها.. ذات سلالم منثلمة الجوانب وبعضها دكاكين تلامس سطح الأرض. وفي ركن بعيد من السوق يبرز مقهى سعفي صغير تجمع حول كراسيه الطويلة رجال بملابسهم المزركشة.
كنت أحمل "مخرافة " كبيرة فوق رأسي مليئة بالتمر وفي يدي عصا.. سرت للداخل وكان عل الجوانب نساء يفترشن الأرض يضعن قدورا كبيرة أمامهن.. وصحونا مليئة بالحلوى.
توقفت قليلا أمام رجل يفترش حصيرا متقطع الجوانب.. أمامه اسطوانات دائرية وصندوق خشبي بني اللون. يدور محركه بمفتاح حديدي، ثم يضع أحدى تلك الاسطوانات وتشرع بالدوران.
وقفت صامتا أمامه.. أراقبه كيف يهز رأسه عند سماعه أغنية الفأر والسنور ثم ذهبت الى "الدلال " وسلمته المخرافة وأخذت ثمنها.. ظل يسألني عن والدي ثم حملني له السلام.
في طريقي مررت عل بائعة الدنجو.. فناوشتها قطعة نقود وأخذت منها كيسا ورقيا لفت به الدنجو على شكل قبعة طويلة.
سرت به الى أن جلست على سلالم أحد الحوانيت المهجورة وأخذت أشاهد الصبية الصفار وهم يدخلون بصراخهم راكبين خبول صنعت من سعف النخيل زينوا جوانبها بخيوط ذات ألوان مختلفة.
في المقابل كان يجلس المزين ، خميس.. خلفه حجرة يسن بها الموسى الى ان جاء رجل وجلس أمامه منتزعا غترته من على رأسه.
أحدث الصغار ضجة كبيرة في السوق ´امتزجت بصراخ الباعة وتحولت السوق الى ما يشبه المهرجان.
التمعت صلعة الرجل بعدما فرغ خميس من جز شعره
ولما سار انتهزها الصغار فرصة ورشقوها بالحجارة.. أخذ يركض خلفهم الى أن اختفوا عن الانظار.
رجعت الى البيت وكانت رائحة البخور الظفاري تملأ المكان.. وكان حمار مسعود المغبر منشغلا بطرد أفواج الذباب عن جرحه. كان يقف عند الباب
عندما اقتربت وهممت بالدخول اندفعت أمي نحوي ممسكة بيدي بقوة محاولة ابعادي من هناك.
خفق قلبي لهذه المداخلة وكنت مذعورا لرائحة البخور الذي يمسك بنفس البيت. كان وجه أمي متجهما يتقاطر الحزن منه.. وكانت أول ما شاهدتني ارتمت علي وتتكلم بكلمات غير مفهومة كما لو كانت تهذي.. السيارة..الليل.. الجن.. حاولت أن أسألها عن أبي.. ولكن لم أستطع.. الى أن غافلتها وتسللت الى عريش الزور فشاهدت والدي ممددا على الأرض ورجالا آخرين يحيطون به.. وكان العلم مسعود يمسك ببخور اللبان ويدوره على رأسه.
ظل ذاك المشهد يؤرقني كثيرا ولم أقدر على تفكيك رموزه.. كنت أحمل القهوة للضيوف الذين يملأ ون المنزل.. كلما حاولت الاقتراب من ذاك المكان أرسلتني أمي لمشوار.. شغلتني به.
كانوا يتمترسون في المجلس.. وآخرون يأتون لمشاهدة أبي.. في هذه الزحمة استطعت أن التقط بعض الوشوشات الصادرة من هناك.
ومن فتحات صغيرة شاهدت والدي متكئا على وسادة كبيرة.
كان مزهوا.. زهرة المنتصر.
يحرك سبحته. ويعد خباتها.. وكان يتحدث معهم ويقص عليهم حكاية تلك الليلة.
كان الليل قد انزل أسماله.. على المكان.. ليل لا تسمع فيه الا صغير الرياح القادمة من منافيها البعيدة.. الرياح المحملة بنباح الكلاب.. وهو اخ بنات أوى.
وهذا الظلام الذي يتبختر اخترقه بسيارتي وأدخل في طياته رغم ما حمله في جيوبه من مفاجأت.
منذ سنين أقطع هذا الطريق بمشواري.. دون خوف وكلما شعرت بالملل يقترب مني أبدا بتدوير موجات الراديو.
كنت أستمع وتقترب من ذهني حكايات الجن والسحرة.. وفي الخارج تتعالى الأصوات وأسمع أمي تبحث عني بأعلى صوتها. زدت التصاقي على الجدار الخوصي.
وأضاف أبي
– على امتداد هذا المدى الشاسع.. كانت عكة تتحرك بسوارها.. وتتمايل في النسمات الكوس.. أغراني مشهدها وزدت في سرعة السيارة لأصل اليها.
كان الصمت ينصب خيامه المهترئة.. وكانوا جالسين ينصتون بشغف.. يسكت أبي وكأنا يستريح ويلملم أسلحته المبعثرة.. وكنت أراقب تحركاته.. الى أن أضاف :
– أشارت بيدها وكانت مخضبة بالحناء.. أحسست بعدها بداخلي تشتعل النيران وبسرعة وقفت ودعوتها تململوا في جلستهم.. وتنحنح بعضهم ضاغطين على شفاههم كأنهم يتذوقون الحلوى وصاح أحدهم.. ركبت ركبت السيارة.
كانت تتكلم بأي لغة.. وحروفها كاللؤلؤ يتساقط من فمها.
شعرها كالنهر يسيل على المقعد.
رغم تكدس الظلام.. كشفت ممن ركبة ساطعة كالبلور
ملساء أظنها كالرخام.
مد الجالسون أرجلهم بتكاسل وبعضهم ظل يحك أشياءه بتلذذ.
– كنت بين الاغماء واليقظة.. دون أن أشعر.. انسللت كالسيف من غمده… نافذة السيارة مغلقة.. والباب لم يفتح..
انتشر السكون وكما لو أن الصمت طائر كبير فرد جناحيه.
نهض أبي من جلسته وللامام مشى خطوتين.. وبصرت منخفض كأنه يهمس في أذن أحد قال :
– يا جماعة.. أتدرون ماذا بعد الركبة الملساء.
طار طائرا لصمت وحلق بعيدا وتحرك الجالسون بدهشة.. ظلت عيونهم ونظراتهم تتسابق نحو أبي.. كانوا يترقبون حديثه بخوف.
– ياجماعا.. رجل حمار.. رجل حمار.
تدافع الناس الى الباب وتراكضت الغيوم في السماء وكان رذاذ بدأ في التساقط.
* مخرافة : مصنوعة من سعف النخبل يضع داخلها التمر..
* الفأر والسنور : اغنية شعبية لحمدان الوطني.
* عريش الزور : غرف صغيره مصنوعا من سعف النخيل.
* الخبول المصنوعة من السعف لعبة قديمة للاطفال.
بدر الشيدي ( قاص من سلطنة عمان)