المكونات:
ثلاثية تتكون من ثلاث روايات: باسيناو أو الرومانسية، إش أو الفوضى، وهوجوناو أو الواقعية، وتقع أحداث كل رواية بعد خمسن عشرة سنة من الرواية السابقة عليها 1888، 1903، 1918. ولا ترتبط رواية منها بالأخرى بعلاقة سببية، كل رواية لها شخصياتها المختلفة والمغلقة عليها، ولا يشبه بناؤها أيا من الروايتين الأخريين.
صحيح أن باسيناو (بطل الرواية الأولى) واش (بطل الرواية الثانية) يتقابلان في الرواية الثالثة، وبرتراند (شخصية في الرواية الأولى) يلعب دورا في الرواية الثانية، لكن القصة التي يعيشها برتراند في الرواية الأولى (مع باسيناو وووزينا واليزابيث) تغيب تماما عن الرواية الثانية. وحين يظهر باسيناو في الرواية الثالثة لا يحمل معه أية ذكرت عن شبابه (الذي تناولته الرواية الأولى).
هناك اختلاف جذري به ن "السائرون نياها" وبين روايات القرن العشرين العظيمة الأخرى (روايات بروست وموزل وتوماس مان.. الخ)، فعند "بروخ " لا تقع الأستمرارية في الحدث أو السيرة (لشخصية أو لعائلة)، مما يوحد الروايات ككل، إنه شيء مختلف: أقل وضوحا وأقل قابلية للفهم، شيء خفي هو استمرارية الفكرة، الواحدة ( انسان يواجه عملية تفسخ القيم).
الاحتمالات:
ما هي امكانيات انسان واقع في المصيدة التي أصبحها العالم: للاجابة على ذلك، على المرء أولا أن تكون لديه فكرة يقينية عما يكون العالم، ولابد للمرء أن تكون لديه فرضية ما عن على الكائنات (الوجود) فالعالم حسب رأي كافكا:كوكب تعمه البيروقراطية. المكتب ليس مجرد احدى الاظواهر الاجتماعية ولكنه جوهر هذا العالم. وهنا يوجد التشابه (تشابه عجيب، غير متوقع) بين كافكا السحري، وهاسيك الشعبي. فهاسيك لا يصف الجيش (بطريقة الناقد الواقعي الاشتراكي) كوسط لمجتمم نمساوي – مجرر ولكن كصيغة حديثة للعالم. ومثل محاكمة كافكا كان جيش هاسيك لا شيء سوى مؤسسة بيروقراطية هائلة، ادارة عسكرية لم تعد القيم العسكرية القديمة (كالشجاعة والدهاء، والذكاء) لها اية أهمية لديها.
البيروقراطية العسكرية عند "هاسيك " غبية، والمنطق البيروقراطي المتحذلق والعبثي عند "كافكا" أيضا خال من الحكمة.
في روايات كافكا الغباء محجوب بغطاء من الغموض، ويتخذ شكل الحكاية الميتافيزيقية. انه يسبب الفزع. ويبذل جوزيف ك، جهده ليعطي معنى للافعأل والكلمات الغبية، فمن الرعب ان يحكم عليك بالاعدام، وامر لا يطاق ان يحكم عليك بلا سبب وان تكون شهيدا للحماقة، وعلى الرغم من براءته، فان ك. يسلم بذنبه ويبحث عن الاثم الذي ارتكبه. في الفصل الاخير يخفي جلاديه عن اعين البوليس (الذى قد ينقذه)، وقبل لحظات من وفاته يلوم نفسه لانه لم يمتلك الجرأة لغرس السكين في صدرا، وتوفير العمل القذر عليها.
شفيك بطل هاسيك على عكس ك. تماما، فهو يسند من العالم حوله (عالم الغباء) بطريقة منهجية متقنة بحيث لايمكن لاحد ان يعرف ما اذا كان ابله حقيقة ام لا، فهو يتوافق بسهولة وبهجة مع النظام الحاكم. ليس لانه يرى فيه بعض المعني بل لانه لا يرو فيه أن معنى، فهو يسلي نفسه ويسلي الاخرين. وبامتثاله المفرط يحول العالم الى نكتة طريفة.
(اولئك الذين جربوا الصيغة الشمولية الشيوعية في العالم الحديث. يعرفون ان هذين الموقفين _ اللذين يبدوان اصطناعيين وادبيين ومبالغا فيهما _حقيقيان جدا. لقد عشنا في مملكة تحدها امكانية ك. من جانب وامكانية شفيك من جانب آخر. بمعني ان يكون قطب واحد هو المتماهي الوحيد مع السلطة الى درجة ان تتطور الضحية لتصبح متوحدة مع جلادها، بينما القطب الاخر غير المتمأهي مع السلطة، من خلال رفضه ان يأخذ اي شيء بجدية. بمعنى مملكة الجد المطلق ك. والهزل المطلق شفيك).
وماذا عن بروخ المو لف، ماهي فرضيتة عن علم الكائنات أو الوجود.؟ انه يرى العالم كعملية تفسح للقيم (القيم التي تواثناها من العصر الوسيط) وهي عملية امتدت طوال اربعة قرون من العصر الحديث، وهي جوهر هذه القرون ما هي امكانيات الانسان في مواجهة هذه العملية. لقد وجد بروخ ثلاث امكانيات إمكانية باسيناو، امكانية اش، امكانية هوجوناو.
امكانية باسيناو:
يموت شقيق باسيناو في مبارزة، ويقول الاب "مات من اجل الشرف"، وترسح هذه الكلمات كالقانون في ذاكرة باسيناو.
وتصيب الدهشة صديقه برتراند: كيف يمكن في عصر القطارات والمصانع ان يقف رجلان بثبات وجها لوجه واذرعهما ممتدتان، والمسدسات في ايديهما؟
ويعتقد "باسيناو" ان برتراند ليس لديه احساس بالشرف.
ويواصل برتراند: الأفكار العاطفية تقاوم العصور المتغيرة، فهي دعائم المحافظة غير القابلة للتدمير، بقية من العرق الدساس.
الارتباط العاطفي بالقيم المتوارثة، وبالعرق الدساس هما موقف باسيناو. لقد قدم باسيناو في موتيفة الزي الرسمي، ويشرح الراوي: كانت الكنيسة كحاكم أعلى تحكم الانسان، فأرواب القسس كانت علامة السلطة فوق الدنيوية، بينما يمثل زي الضابط أو رداء القاضي الدنيوي الدنس، وحين بدأ النفوذ السحري للكنيسة يتلاشى رويدا رويدا، حل الزي الرسمي مكان الكهنوت وارتفع الى درجة المطلق.
الزي الذي لم نختره هو الذي حدد لنا اليقين الجمعي ضد الشك الفردي، وحين واجهت القيم، التي كانت يوما صلبة، التحدي، انسحبت برأس محني، وذلك الذي لا يستطيع الحياة بدونها (بدون ولاء ولا عائلة ولا وطن ولا نظام ولا حب) يبقى هادئا في عالمية زيه، كما لو أن ذلك الزي هو القطعة الباقية من التفوق التي يمكن أن تحميه ضد برد المستقبل الذي لن يبقى فيه شي ء يستحق الاحترام.
وتبلغ قصة باسيناو أوجها ليلة عرسه فزوجته اليزابيث لا تحبه، فلا يرى أمامه إلا مستقبلا من الكراهية. يستلقي قربها دون أن يخلع ملابسه مما "جعل زيه يتجعد قليلا، فينفتح طرفا البالطو ويبدو بنطلونه الأسود من الامام، وما إن يلاحظ ذلك حتى يسرع بإعادة الوضع كما كان عليه ويغطي البنطلون، ويرفه ساقيه حتى لا يلمس ملاءة السرير بحذائه اللميع، ويجاهد ليبقي قدميه على الكرسي بجانب السرير.
امكامية إش:
القيم التي خلفها العصر الذي كانت فيه الكنيسة تسيطر على حياة الانسان تماما، اهتزت منذ زمن طويل، ولكن بالنسبة لباسيناو فإن مضمونها مازال واضحا، فليس لديه شك عما تكونه بلده، وهو يعرف لمن يعطي ولاءه ومن هو إلها.
بالنسبة لإش فالقيم محجوبة، هو يحتفي بكلمات مثل النظام، الولاء، والتضحية، لكن ماذا تمثل بالضبط ؟ التضحية من أجل ماذا؟ وما نوع النظام الذي تتطلبه ؟ لا يعرف.
اذا فقدت القيمة مضمونها المتين، فما الذي يبقى منها؟ مجرد شكل فارغ، مطلب لا يبالي به أحد، والأكثر إثارة للغيظ انها تطلب أن تسمع وتطاع. وكلما قل ما يعرفه "إش " عن رغباته ازداد حنقه للوصول اليها.
"اش " هو تعصب العصر بدون إله، ولكن كل القيم محجوبة فأي شيء يمكن اعتباره قيمة. يبحث عن العدل والنظام أولا في كفاح نقابات العمال، ثم في الدين، واليوم في قوة الشرطة، وغدا في سراب أمريكا حيث يحلم أن. يهاجر. يمكنه أن يكون إرهابيا، أو ارهابيا تائبا ينقلب على رفاقه، أو مناضلا حزبيا، أو عضوا في طائفة الكاميكاز اليابانية مستعدا ليضحي بحياته، كل الانفعالات الصاخبة خلال تاريخ عصرنا الدموي وضعت وشخصت ورفع عنها الحجاب وعرضت برعب في مغامرة "اش " المتواضعة.
يضايقونه في المكتب الذي يعمل فيه، فيتشاجر ويطرد، ومن هنا بدأ تاريخه. فيعتقد أن سبب كل الاضطراب الذر هو فيه، وينكد عليه حياته، رجل اسمه "نينتويج " يعمل كاتبا للحسابات، يعلم الله لماذا هذا الشخص بالذات، على أية حال، يقرر «إش " أن يبلغ عنه البوليس أليس ذلك واجبه ؟ أليس ذلك خدمة يدين بها لكل فرد مثله يريد القانون والنظام ؟
ولكن، ذات يوم في أحد البارات يدعو«نينتويج " بود الى مائدته ويقدم له مشروبا. ويحاول إش أن يتذكر اساءة نينتويج، ولكن: "بدت الآن غريبة وواهية وغامضة حتى إنه وأى فجأة عبثية ما كان سيقوم به، وبحركة خرقاء والخجل يطوه قليلا، أمسك بكأسه ".
عند اش ينقسم العالم الى مملكة الخير ومملكة الشر، ولكن للأسف من المستحيل تحديد ما هو خير وما هو شر (عليه فقط ان يقابل نينتويج بالمصادفة ليفقد القدرة على معرفة الصواب من الخطأ).
في هذه الحفلة التنكرية الكبيرة التي هي العالم، برتراند وحدد يحمل أثر الشر على وجهه، لأن جريمته لا شك فيها، فهو لوطي مرعب للنظام المقدس.
في بداية الرواية، كان "اش " مستعدا للابلاغ عن "نينتويج " وفي النهاية يرسل خطابا بالبريد يبلغ فيه عدن برتراند.
امكانية هوجوناو.
إش بلغ عن برتراند. هوجوناو بلغ عن اش.
اش فعل ذلك لينقذ العالم. وهوجوناو فعلها لينقذ وظيفته.
في عالم ليست فيه قيم مشتركة، فإن هوجوناو محدث النعمة البريء، يشعر بالراحة تماما. فغياب الالتزامات الاخلاقية هو حريته وخلاصه. هناك معنى عميق في حقيقة أن الذي ليس لديه أدنى احساس بالذنب يقتل "اش "، لأنه "دائما نصير الحد الأدنى من نظام القيم هو الذي يذبح نصير الحد الأعلى من نظام القيم الذي يتهاوى. انه دائما هو، التعس الدنيء الذي يتولى دور الجلاد في عملية تفسخ القيم، وفي اليوم الذي تدق فيه طبول العدالة، فإنه الرجل المجرد من كل القيم هو الذي يصبح جلاد العالم الذي نطق كلمته الخاصة.
في عقل "بروخ " العصر الحديث هو قنطرة بين عصر الايمان اللاعقلاني وعصر اللاعقلانية بلا ايمان. والشخص الذي يظهر عند طرف الجسر هو هوجوناو القاتل المرح الذي لا يشعر بالذنب، نهاية العصر الحديث في صيغته المنتشية.
ك. شفيك، باسيناو، اش، هوجوناو، خمس امكانيات جوهرية، خمسة نجوم هادية بدونها من المستحيل، فيما اعتقد، أن نضع الخريطة الحياتية لعصرنا.
تحت سماوات العصور:
الكواكب التي تدور في سماوات العصر الحديث تنعكس، دائما، بتشكيل محدد في روح الفرد، ومن خلال هذا التشكيل يتحدد موقف الشخصية ومعنى وجودها.
يتحدث "بروخ " عن اش، ثم مرة واحدة يقارنه بلوثر: فكلاهما ينتميان الى طبقة المتمردين (ويحلل بروخ ذلك باسهاب)، "اش متمرد مثل لوثر". ونحن نميل للبحث عن جذور الشخصية في طفولتها: جذور اش (تظل طفولته غير معروفة لنا) توجد في قرن آخر. ماضي اش هو لوثلا.
لكي نفهم "باسيناو"، ذلك الرجل صاحب الزي، كان على بروخ أن يضعه وسط العملية التاريخية الطويلة، حيث الزي الدنيوي يأخذ مكان دور القسيس. وما إن فعل ذلك، حتى اشتعل السقف السماوي للعصر الحديث بالضوء فوق هذا الضابط التافه.
عند "بروخ " لاتدرك الشخصية كتفرد وشكل فذ وعابر، كلحظة معجزة منذورة للاختفاء، ولكن كجسر تصب فوق الزمن، حيث لوثر واش، الماضي والحاضر، يأتيان معا.
في طريقته هذه بالنظر الى الانسان تحت القوس السماوي للعصور، فهو في روايته «السائرون نياما" (أكثر مما في فلسفته) يتنبأ فيما أعتقد، بالامكانات المستقبلية للرواية.
وبرؤية بروخ هذه قرأت رواية توماس مان «دكتور فاوست " وهي رواية تتناول ليس فقط حياة مؤلف موسيقي يسمى "اندريان ليفركوهن "، بل قرونا من الموسيقى الألمانية معه. اندريان ليس مجرد مؤلف موسيقي، لكنه مؤلف وصل بتاريخ الموسيقى الى نهايته (أكبر أعماله يسمى سفر الرؤيا). وهو ليس فقط المؤلف الأخير، فهو فاوست أيضا. نظرته المحدقة مركزة على الروح الشيطانية التي تلبست بلاده (لقد كتب مان روايته في نهاية الحرب العالمية الثانية تقريبا) لقد تأمل توماس مان العقد الذي وقعه الطبيب الأسطوري (استنساخ الروح الألمانية) مع الشيطان. كل تاريخ بلاده لاح أمامه فجأة كمغامرة مفردة لشخصية واحدة: فاوست منفردا.
وعلى ضوء "بروخ "، قرأت رواية كارلوس فوينتس "تيرا نيوسترا"، التي أحيطت فيها كل المغامرات الاسبانية الكبيرة (الأوروبية والأمريكية)، برؤية بعيدة رائعة، وبتشويه رائع للأحلام والرؤى.
لقد حول "فوينتس " مبدأ بروخ: إش يشبه لوثر، الى مبدأ أكثر راديكالية، إش هو لوثر، وزودنا بمفتاح طريقته: يستغرق الأمر عدة حيرات لخلق انسان واحد. اسطورة التناسخ القديمة تتجسد في تكنيك روائي يجعل "تيرا نوسترا" حلما هائلا غريبا يصنع فيها التاريخ ويتحول باستمرار، على يد الشخصيات نفسها التي تتناسخ بلا نهاية. لودفيكو نفسه الذي وجد قارة مجهولة في المكسيك، يظهر بعد عدة قرون في باريس مع سيليستينا ذاتها التي كانت قبل قرون عشيقة فيليب الثاني وهكذا.
فقط عند النهاية (نهاية حب، نهاية حياة، نهاية عصر) يظهر الماضي نفسه فجأة ككل ويتخذ شكلا ساطعا وتاما.
عند بروخ فإن لحظة النهاية هو هوجوناو، عند توماس مان هو هتلر عند فوينتس هو الحد الأسطوري بين ألفيتين، يرده ذلك المراقب الخيالي حيث يبدو التاريخ _ الغرابة الأوروبية التي تلطخ سطح الزمن النقي _ منتهيا بالفعل مهجورا ووحيدا ثم فجأة حقيرا وضيعا ومؤثرا كقصة شخصية قصيرة ستنساها عند قدوم الغد.
في الواقع، لو كان لوثر هو إش، فإن التاريخ الذي يسير من لوثر الى اشر هو مجرد سيرة شخص واحد، مارتن لوثر اش، والتاريخ كلا هو مجرد قصة شخصيات قليلة (فاوست دون جوان، دون كيشوت، راستيناك، واش) وهي التي استعرضت قرون أوروبا معا.
فيما وراء السببية.
يتقابل رجل وامرأة، في عزبة لينين، شخصان وحيدان مكتئبان، يعجب كل منهما بالآخر، ويأملان سرا أن ترتبط حياتهما معا، وكل ما يحتاجانه، فرصة يكونان فيها وحيدين للحظة ليقولا ذلك، وأخيرا وجدا نفسيهما، ذات يوم في غابة دون مراقبة وقد جاءا يجمعان عش الغراب، كانا قلقين، وظلا صامتين، وهما يدركان أن اللحظة قد واتتهما، ولا يجب أن يتركاها تفلت منهما. لكن الصمت بينها استمر لفترة طويلة نوعا ما، حيث بدأت المرأة، فجأة، كرد فعل عكسي لاارادي تتحدث عن عش الغراب، ثم عمهما الصمت ثانية. وبدأ الرجل يبحث عن طريقة ليعبر عن نفسه، ولكن بدلا من الحديث عن الحب، وبدافع غير متوقع، بدأ يتحدث أيضا عن عش الغراب.
في طريق عودتهما الى البيت، واصلا النقاش حول الموضوع نفسه، وهما يشعران بالعجز واليأس، لأنهما لم يتحدثا قط عن الحب.
وحين يعود الرجل الى البيت، يقول لنفسه: انه لم يصرح بحبه بسبب ذكرت عشيقته الميتة التي لا يستطيع ان يخونها، ولكننا نعرف جيدا، انه عذر كاذب يستحضره ليعزي نفسه، يعزي نفسه ؟ نعم، لأننا نستطيع أن نرضي أنفسنا بفقدان الحب لسبب ما، لكننا لا نغفر لأنفسنا أن نفقد الحب بلا سبب على الاطلاق.
هذه الحكاية الجميلة الصغيرة هي نوع من المثل الرمزي لأحد المفاخر الكبرى لأنا كارنينا: اظهار الجانب اللاسببي، اللامحسوب، بل الغامض للفعل البشري.
ما هو الفعل ؟ السؤال الأبدي للرواية أو كما يقال: مقومها الأساسي، كيف يولد القرار ؟ وكيف يتحول الى فعل وكيف تترابط الأفعال لتصنع المغامرة ؟
من نسيج الحياة، الغامض والفوضوي، حاول الروائيون القدامي، أن يداعبوا جيل العقلانية الصافية. فهم يرون أن الدوافع العقلانية سهلة المنال، تؤدي الى ميلاد الفعل. والفعل يستثير فعلا آخر، والمغامرة هي بجلاء سلسلة مسببة من الأفعال.
"فرتر" يحب زوجة صديقه، ولا يستطيع أن يخونه أو يستغنى عن حبه، وهكذا قتل نفسه، الانتحار بوضوح شديد كمعادلة رياضية. ولكن لماذا تقتل أنا كارنينا نفسها؟
الرجل الذي تحدث عن عش الغراب بدلا من الحب، أراد أن يصدق إنه فعل ذلك نتيجة اخلاصه الى عشيقته الميتة.
والأسباب التي يمكن أن نبرر بها فعل "آنا" تستحق التقدير قليلا. صحيح، أن الناس تعاملها باحتقار، ولكن الا تبادلهم المعاملة نفسها: لقد منعت من رؤية ابنها لكن هل ذلك موقف الا يحتمل: أو الا يوجد أمل في تغييره ؟ لقد قل افتتان "فرونسكي" بها بالفعل، لكن ألم يزل يحبها على الرغم من كل شيء؟
بالاضافة الى ذلك، فإن "أنا"لم تأت الى المحطة لتقتل نفسها، لقد جاءت لتقابل «فرونسكي "، لقد ألقت نفسها تحت القطار دون أن تتخذ قرارا بذلك بل القرار هو الذي تغلب عليها، مثل الرجل الذي تحدث عن عش الغراب، لقد تصرفت "آنا" بدافع غير متوقع، ولا يعني ذلك أن عملها بلا معنى، ولكن معناه يكمن خارج السببية المعقولة المفهومة.
كان على تولستوي أن يستخدم (للمرة الأولى في تاريخ الرواية) مونولوجا داخليا جويسيا ( نسبة الى جو يس) تقريبا، ليعيد بناء النسيج الدقيق للدوافع سريعة الزوال، والمشاعر المؤقتة، والأفكار المبعثرة، ليبين لنا الرحلة الانتحارية لروح آنا.
مع "آنا" نحن بعيدون عن "فرتر"، وأيضا عن بطل، ديستويفسكي كيريلوف"، فهذا الأخير قتل نفسه لأنه أجبر على ذلك بسبب مصالح محددة وواضحة جدا، ومكيدة خططت بعناية، إن عمله مهما كان جنونيا، فهو عقلاني، اتخذ بوعي وفكر فيه مليا. شخصية "كيريلوف " مبنية كليا على فلسفته الغريبة في الانتحار، وعمله هو مجرد امتداد. تماما لأفكاره.
ولقد أمسك ديستويفسكي بجنون العقل بعناد مصمما أن يصل بمنطقه الى النهاية. أما الأرض التي يستكشفها تولستوي فهي على النقيض: فهو يكشف الغطاء عن تطفل غير المنطقي، اللاعقلاني، ولذلك أذكره هنا. فالرجوع الى تولستوي، يضع "بروخ " في سياق واحد مع أكبر الاستكشافات في الرواية الاوروبية: استكشاف الدور الذي تلعبه اللاعقلانية في قراراتنا وفي حياتنا.
تشوشات
يعاشر "باسيناو" عاهرة تشيكية اسمها "روزينا". لكن والديه يرتبان له زواجا من فتاة من محيطهما – اليزابيث – "باسيناو" لا يحبها ومع ذلك فهي تفتنه، وفي الحقيقة أن ما يجذبه اليها ليس شخصها في ذاته، ولكن كل ما تمثله بالنسة له.
حين يذهب لزيارتها لأول مرة يرى الشوارع والحدائق والمنازل في الجوار تشع "بطمأنينة كبيرة مستقلة "، ورحب به بيت «اليزابيث " بجوه المرح "حياة لطيفة آمنة مملوءة بالود" ستفسح يوما ما "مكانا للحب "، الذي بدوره "سيتلاشى في المودة " يوما ما، القيمة التي يرغبها "باسيناو " (الأمان والود العائلي) تقدم له نفسها قبل أن يرى المرأة التي ستصبح حاملة لتلك القيمة (دون معرفتها وضد طبيعتها).
ويجلس في الكنيسة في قويته، ويتخيل، وعيناه مغلقتان، العائلة المقدسة على سحابة فضية تجلس في وسطها العذراء مريم الجميلة جمالا لا يوصف ولقد جرفته وهو طفل بالفعل تلك الصورة ذاتها في الكنيسة نفسها في ذلك الوقت كان يحب في أمة بولندية في مزرعة والده، وفي أحلام يقظته اختلطت في ذهنه مع العذراء، وتخيل نفسه جالسا على ركبتيها،،كبتا العذراء تحولتا الى خادمة، وهذا المرة وعيناه مغلقتان، يرى العذراء ثانية، ويلاحظ فجأة أن شعرها أشقر، نعم العذراء لها شعر اليزابيث، فيجفل ويرتعش ويبدو له إنه خلال خدعة حلم اليقظة هذا ليجد من يخبره إن هذا المرأة التي لا يحبها هي في الواقع حبه الحقيقي والوحيد.
يقوم المنطق اللاعقلاني على آلية التشوش: فعند «باسيناو" حس ضعيف بالواقع، وتفلت منه أسباب الأحداث، ولن يعرف أبدا ما يكمن وراء حملقات الآخرين، مع أن العالم الخارجي، قد يكون مموها وغير مدرك ومنعدم السببية، إلا إنه ليس صامتا، فهو يتحدث اليه إنه يشبه قصيدة بودلير الشهيرة حيث "الأصداء الطويلة.. مربكة " حيث "الأصوات والروائح والألوان تتوافق وتنسجم "، كل شي ء يشبه الآخر ومختله معه (اليزابيث تلتبس مع العذراء) ومن خلال تشابهها توضح نفسها.
"إش " عاشق للمطلق، وشعاره "نستطيع أن نحب مرة واحدة فقط" وحيث إن السيدة هنتجن تحبه، فتبعا لمنطقه فلابد إنها لم تحب زوجها السابق. وهذا يعني أن الرجل قد استغلها ولم يكن إلا نذلا، نذل مثل برتراند، لأن ممثلي الشيطان لا يتغيرون، ويختلط كل منهما بالآخر، فهم صور مختلفة للجوهر ذاته. وحين يلمح صورة السيدة هنتجن على الحائط تراوده فكرة الذهاب الى الشرطة والوشاية ببرتراند على الفور، فهو يرى إذا استطاع أن يضرب برتراند، فكأنه جرح زوج السيدة، ويخلصنا كلنا من جزء صغير من الشر العام.
غايات من الرموز
لابد أن نقرأ رواية "السائرون نياما" بعناية وبطء ونتوقف قليلا عند الأحداث بلا منطقها ومعقوليتها معا، كي ندرك نظاما خفيا سريا هو الأساس لقرارات باسيناو وووزينا واش.
هذا الشخصيات لا تستطيع مواجهة الواقع كشيء ملموس، فكل شي ء يتحول أمام أعينهم الى رمز (اليزابيث الى صفاء عائلي، وبرتراند رمز للجحيم)، وردود أفعالهم صدى لهذه الرموز بينما يعتقدون انهم يمارسون أفعالهم في الواقع.
يوضح لنا "بروخ "، ان نظام التشوش، نظام الفكر الرمزي، يكمن وراء كل سلوك فردي أو جماعي، وكل ما نحتاجه أن نتمعن في حيواتنا لنرى الدور الكبير لهذا النظام اللاعقلي الذي يوجه مواقفنا أكثر بكثير من أي تفكير عقلي:
انسان ما بحبه لسمك الزينة، يستحضر في ذهني شخصا مشابها سبب لي بعض المتاعب الرهيبة في الماضي، فيستفز بداخلي عدم ثقة لا يمكن التغلب عليها.
النظام اللاعقلاني يحكم الحياة السياسية بدرجة لا تقل عن ذلك: في الحرب العالمية الأخيرة، كسبت روسيا الشيوعية حرب الرموز ونجحت لمدة نصف قرن على الأقل، بضخ رموز الخير والشر الى ذلك الجيش الكبير المكون من آلاف من أمثال "إش " الشرهين الى القيم بقدر عجزهم عن التمييز بينها.
وهذا هو السبب في ان الكولاج Gulag (سجون العمل الشاق لمن وجد مذنبا في جريمة ضد الدولة) لن تحل أبدا محل النازية كرمز للشر المطلق في الضمير الأوروبي، وهذا هو السبب أيضا في قيام الجماهير بمظاهرات ضخمة ضد الحرب في فيتنام وليس ضد الحرب في أفغانستان.
فيتنام، الاستعمار التفرقة العنصرية، الغاشية، النازية، كل هذا الكلمات تتطابق وتنسجم مثل الألوان والأصوات في قصيدة بودلير، بينما الحرب الافغانية، رمزيا خرساء إذا صح القول أو إنها في درجة وراء الدائرة السحرية للشر المطلق النبع الفوار للرموز.
ثم ذلك القتل اليومي على الطرق السريعة، ذلك الموت الذي بقدر ما هو مرعب بقدر ما هو سخيف، ولا يحمل أي تشابه مع السرطان أو الايدز لأنه عمل ليس من الطبيعة بل من الانسان، فهو تقريبا موت تطوعي.
كيف يمكن لميتة كتلك أن تفشل في اذهالنا وقلب حياتنا وحثنا على عمل اصلاحات كبيرة ؟ إنها لا تذهلنا، لأننا مثل "باسيناو" لدينا حس ضعيف بالواقع، وفي الجو غير الواقعي للرموز، فهذه الميتة في شكل عربة جميلة، تمثل الحياة بالفعل، هذه الميتة المبتسمه تختلط مع الحداثة والحرية والمغامرة، بالضبط كما اختلطت اليزابيث بالعذراء، موت رجل محكوم عليه بالاعدام، على الرغم من أنه أندر بكثير من الموت على الطرقات السريعة، يجذب انتباهنا بدرجة أكبر ويوقظ عواطفنا، واختلاطه بصورة الجلاد ينتج قوة رمزية أقوى وأكثر قتامة ونفورا.
الانسان طفل يتجول على غير هدى – ولنستشهد بقصيدة بودلير ثانية _ في غابات الرموز (معيار النضج هو القدرة على مقاومة الرموز، لكن الجنس البشري يصغر طوال الوقت).
التبحر في العلم:
عند مناقشة روايات "بروخ " نجده يرفض جماليات الرواية السيكولوجية، لصالح الرواية التي يسميها روحية أو متعددة الأبعاد الثقافية، ويبدو لي أن المصطلح الثاني خاصة مضلل وأسي ء اختياره، كان "ادالبرت ستيفتر" زميل بروخ، والاب المؤسس للرواية النمساوية، هو مبتدع الرواية متعددة الأبعاد الثقافية بالمعنى الدقيق للمصطلح، حين كتب 1857 "صيف هندي"، (في سنة ظهور مدام بوفاري). الرواية مشهورة، وقد وضعها "نيتشة " ضمن الكتب الأربعة العظيمة في النثر الألماني، في رأيي إنها بالكاد رواية مقروءة نتعلم منها أشياء كثيرة عن الجيولوجيا وعلم النبات والحيوان وكل الحرف وعن الرسم والمعمار، ولكن الانسان والمواقف الانسانية تقع على هامش دائرة المعارف التعليمية الضخمة هذه، إن الرواية تفتقد تماما خاصية النوع الروائي بسبب تعدد أبعادها الثقافية أو تبحرها في العلم.
وليست هذه هي الحال مع بروخ. فهو يتتبع "ما يمكن للرواية وحدها أن تكتشفه " وهو يعرف أن الشكل التقليدي (القائم بشكل مطلق على مغامرة شخصية ومضمون هو مجرد سرد لتلك المغامرة) يحد من الرواية ويختزل امكانياتها المعرفية وهو يعرف أن للرواية قوة غير عادية للاحتواء، بينما لا الشعر ولا الفلسفة يمكن أن يحتويا الرواية. والرواية يمكن أن تحتوي كلا من الشعر والفلسفة دون أن تفقد شيئا من هويتها التي تتميز (لا نحتاج إلا لذكر رابيليه وسرفانتس) خاصة بميلها الى احتواء الأنواع الأدبية الأخرى، وأن تتشرب المعرفة الفلسفية والعلمية. وهكذا فإن تصور "بروخ " لمعنى "التبحر في العلم ": تنسيق كل الوسائل الثقافية وكل الأشكال الشعرية لانارة "ما يمكن للرواية وحدها ان تكتشفه " وهو: الوجود الانساني وهذا يتطلب بالطبع، تحولا عميقا في شكل الرواية.
ما لم يتحقق:
سأتكلم بحرية وبشكل شخصي: أحب وأعجب بالرواية الأخيرة (ص 3) من "السائرون نياما" (هوجاناو أو الواقعية). ففيها ميل الى التركيب والتغيير في الشكل بطريقة متقدمة جدا، ولكن لدي أيضا بعض التحفطات:
– تعدد الأبعاد الثقافية هدف يتطلب تكنيكا من الحذف لم يحققه «بروخ " تماما ولذا فإن الوضوح المعماري في الرواية يعاني بسبب ذلك.
– العناصر المختلفة (نثر، سرد، قول مأثور، ريبورتاج ومقال) ظلت متجاورة أكثر منها مندمجة في وحدة حقيقية متعددة الأبعاد.
– على الرغم من أن الرواية مكتوبة على لسان أحدى الشخصيات فإن المقال الممتاز على تفسخ القيم يمكن اعتباره فكر المؤلف الخاص. وللحقيقة الروائية، فإنه بالشكل الذي جاء عليه تعبيريا، وفرضيته وما شابه، قد يفسد النسبية التي لابد منها للفضاء الروائي.
كل الأعمال الكبيرة (خاصة لأنها كبيرة) تحتوي على شيء لم يتحقق.
ان "بروخ " ملهم لنا، ليس فقط بما أنجزه، ولكن أيضا بما هدف له ولم يستطع انجازه.
غير المتحقق في عمل "بروخ " يبين لنا الحاجة الى:
1- فن جديد من التعرية والتجريد الجذريين – بحيث يستطيع أن يحتوي تعقد الوجود (الحياة) في العالم الحديث دون فقد الوضوح المعماري.
2- فن جديد من الطباق Counter الروائي يمكن ان يخله الفلسفة والسرد والحلم في موسيقى واحدة.
3- فن جديد من المقال الروائي النوعي (الذي لا يهدف الى حمل رسالة دامغة (حاسمة) ولكن يظل افتراضيا مازحا أو ساخرا).
حداثيات
"بروخ " هو الأقل شهرة بين كل روائيي عصرنا الكبار، وليس من الصعب معرفة السبب، فما إن أنهى روايته "السائرون نياما" حتى كان هتلر يتولى السلطة، وتلاشت الحياة الثقافية الألمانية، وبعد خمس سنوات، ترك النمسا الى أمريكا حيث ظل هناك حتى وفاته.
في مثل هذه الظروف فان عمله – الذي حرم منه جمهوره الطبيعي، ومنع من التواصل مع حياة أدبية عادية – لم يعد يستطيع أن يلعب دوره الصحيح في عصره: ان يلتف حوله جمع من القراء والمؤيدين والذواقة، ويكون مدرسة تؤثر في الكتاب الآخرين.
إن أعماله اكتشفت أو أعيد اكتشافها – مثلها مثل أعمال موزل وجومبروفتش _بعد تأخير طويل (بعد موت مؤلفها) على يد أولئك الممسوسين بالتوق الى شكل جديد.
أو بكلمات أخرى من كانوا حداثيين في توجههم، ولكن حداثتهم لم تشبه حداثة بروخ حتى بعد أن تقدمت كثيرا بعد ذلك لأنها كانت مختلفة جذريا في موقفها تجاه العالم الحديث أو في جمالياتها.
ذلك الاختلاف تسبب في ارتبان معين: كان ينظر الى "بروخ " (مثله مثل موزل وجومبروفتش) كمجدد كبير، ولكنه لم يتفق مع التيار والصورة الاصطلاحية للحداثة (لأنه في النصف الثاني من هذا القرن يجب أن نضع في الاعتبار حداثة القواعد المحددة، حداثة الجامعة، وحداثة المؤسسة (الحداثة السائدة).
الحداثة السائدة مثلا تصر على تدمير الشكل الروائي، مع أن بروخ يرى أن امكانيات الشكل الروائي أبعد ما تكون عن الاستنفاد.
الحداثة السائدة تريد من الرواية أن تتخلص من فكرة الشخصية، فهي تفترض انها في النهاية ليست إلا قناعا يخفي بلا هدف شخصية المؤلف. عند "بروخ " شخصية المؤلف لا يمكن اكتشافها.
الحداثة السائدة تنفي فكرة الكلية – وهي الكلمة ذاتها التي استخدمها بروخ بشكل متناقض ليقول: في عصر التقسيم المفرط للعمل، والتخصص الحاسم، فإن الرواية هي أحد المخافر الأخيرة حيث يمكن للانسان ان يظل متمسكا بالحياة بكل كليتها.
كما ترى الحداثة السائدة ان هناك حدا منيعا يفصل الرواية الحديثة عن الرواية التقليدية (هذه الرواية التقليدية، باعتبارها السلة التي يجرفون فيها كل المظاهر المختلفة لأربعة قرون من الرواية)، بينما يرى "بروخ " ان الرواية الحديثة تواصل البحث نفسه الذي شغل كل الروائيين العظام منذ "سرفانتس" وحتى اليوم.
ثم إن هناك وراء الحداثة السائدة بقية من ايمان ساذج بأن تاريخا ينتهي وتاريخا جديدا (أفضل) يبدأ، قائما على أسس مختلفة كليا. بينما عند بروخ هناك وعي سوداوي بتاريخ يقترب من نهايته في ظروف عدائية تماما لتطور الفن، والرواية على الخصوص.
ترجمة:أحمد عمر شاهين(كاتب ومترجم من فلسطين)