سبحان من أضاء لي هذا المشهد:
بعد أن كان كل شيء راكدا، صامتا لسنين بعيدة ، ينبثق الشعاع الأول ، النور المتحرك من ثنايا التراب ، حيث الخطوات تقترب ، تلامس أجزاءها، رافعة صروحها، نحو شفق الجهات. في هذه العتمة ينفلت الضوء الأول طاغيا، يقبض المكان بخصلاته المشعة ، حيث الأرض هي الأرض وتلد الأسماء، حيث انبثاق الهتاف الأول في السديم ، يتخلل أجنحة الصلصال ، لفيفا نابضا بالعذوبة والعذاب ، لذات الغشاء الطري، المكتمل في الغياب المستعيد تروضه ضد مزامير العهود، والبراكين.
أفق ، وياله ، يغري بما يأتي من العتمة ، من الروح الخلد. دعوة للتلاقي، للاعتراف أمام فصاحة التراتيل. هنا يمكنك أن تراما وهي تزحف نحو بعضها، تتلامس بنعومة ورفق. صلصال ينسجم ، يتلاحم في صعوده الهاديء، فتتولد الأشياء التي لا اسم لها سوى شؤون العظمة.
كتل تبذل إغراءها في حضور الروح الباسلة.
حين يخرجون تخرج الكلمة الأولى ، ليهتز الماء الراكد، لتهتز السماء المظلمة ، ليتلاشى الصمت في حضور الهسهسات المطهرة. تخرج لتقول الحكاية. وما تبقى منها. ليس ثمة حكاية بالمعذر العريق ، بل هي انبلاجات بدائية ترفع السكون ليقظة حية تحدثها الأرض في التحام الصلصال. في تشكل الكتل المتمايلة ، الهلامية الزئبقية في نشيدها البكر.
يا من قلتم…
تعالوا واشهدوا
هوذا الوجد ينبثق
يحمل همساته أنينا مرتفعا كل جزء يطوي حركاته ، ليصعد النور الى السماء ويضيئها. فمن قال منكم يا لهذا الوعاء المتفتح من الطين لا سلطة عليه.. ولا شريك له.
يا من قلتم..
تعالوا واشهدوا
فخلقنا سيكتمل.
يخرج من صلصاله البكر، ويكون الخلود، الوجد النهاري والنشيد. هذا الارتطام الأول ، الحركة الأولى ، فاشهدوا ظلها على حنان الأرض الرطبة ، المشتاقة للقاء الروح ، حينها يضحي الكون ملتقى الولادات:
رأس يستدير نحو أفقه الآسر فيرى نوره يضيء يقين الكون. زند مطرز بعضلات فتية تخدش الأرض بحركتها المباغتة. ملامح أصابع تختزل نعومتها وهي تحتضن التراب. صدر رخامي تضيئه الأثداء كفنائر الغيم ، حتى يخيل لكم يا من قلتم بأن هذا الخمري الطالع من الماء الراكد، والطين الرائق سينطق كلمته الأولى ، سيحتضن صوته البعيد وينثر في الأرجاء صخبا يلامس الأثير. سينهض من تحجره شاهقا ،عظيما ، يواجه السديم بنبضه المشع وضوئه الباهر.
ها هو الكون يستأنف جماله الغائب في اندفاع نابض يلتمس شهرته تحت شجرة البهاء، يسحب خطواته نحو طعم الأعشاب ورائحة الفواكه التي خاصمتها الأغصان ، داعبتها السحالي بأناشيدها.
هما
جسدان يتخلقان. تبسط السهول امتدادها المترف ، تفتح نوافذها فيستدل عليهما الليل الناصع ، الأكثر قدرة على:
اشعال
الكون
بمرح
الطفولة
فسبحان من أضاء لي هذا المشهد، أقول:
الكتابة.
الريــح
تضفي ملامسها الأخيرة على الصلصال المتشكل تمر عليه بحنان فتضيء الملامح. جسدان نائمان جاءت بهما الحكاية في غمرة العظمة.
لذلك يا من قلتم ، تعالوا واشهدوا، هو المجد يستوي، هو الانبثاق الآسر ، هو الشبق المشع بحضوره المتوهج. لننحني لهذا الدوي الحاضر.
ننحني
جسدان ، ما أروعهما يحكيان لنسا، نحن – الواقفين – بخشوع ، سيرة الشعاع البهي. سيرة الحب الذي يفضح الطين في هواء الروح.
أول الحب
آخر الحب
هما الجسدان يحكيان ذهابهما معا
عبثا
نحاول
صدهما.
التراب الناعم الذي يخرجنا من دائرته
متضرعا بالريح..
بمطر الأنفاس.
يبتكر العناق الأبدي
ويغافل الأمكنة.
هل ألفناه ، المطمئن على خوفنا يطرد ما علق من كائناته في شفره القلب ، وتعب العظام ، هذا الذاهب نحو وسادة الليل ليضىء النوم ؟
الرعـد
صاحبنا
يأتي بجنونه
دون وصايا
ماذا يريد منا؟
كنا في العتمة.
في يقظة الكوامن ،
نطوف بأشجار العذاب نسأل منها ورقة.
المطـر
مختزلا غموضنا الأزلي
روحنا ترف في دفء قطراته
يغتنم ما بيننا
يفضنا
نحن – المخلوقين – من طعم الهواء وعنفوان العواصف
والنور
نميل نحو ظلال يديه. في سخائه الباهر يستيقظ نبضنا
المطمئن لصوته.
يغافلنا
يدك النوم الساكن تحت أهدابنا
حينها فقط يمكننا أن نراه
الشجرة
أذكر الذين جاءوا،
أعطوني قلوبهم الدامية ،
فبحت لهم عن الهوى.
ثم
رافقتهم.
الحـــــوت
لن تدرك أمرهما
كأنها الفتنة
خرجت في غفلة بحارك
من حريق الطين
وذعر الماء
نص :فريد رمضان (كاتب من البحرين)