بدرية الشحية
روائية وأكاديمية عمانية
حسنا، إنني لا أنوي كتابة نقد أدبي لروايات يونس الأخزمي فلست مخولة لذلك، ولكنني بالتأكيد سأطرح شهادة زوجة وزميلة كتابة عاصرت فترة كتابته للثلاثية الجميلة التي تفرد بها عن كل ما كتب في الساحة العربية ككل. فهي ليست فقط توثيقا اجتماعيا لمنطقة افتقدت التأريخ، ولكن لأنها غنية بالوصف والحبكة القصصية والتي لا شك هي مشروع يمتلك كل مقومات النجاح لسلسلة من الأفلام الروائية.
يونس ككاتب هو شخص شغوف بالمعرفة وبتقصي الحقائق والمعلومات، فبداية الفكرة كانت واضحة في ذهنه وهو أن يكتب سلسلة روائية عن المناطق الساحلية في السلطنة والتي تزخر بالتنوع الثقافي والتاريخي ولم يسبق لأحد آخر أن فكر بذلك. والحق أن كتابة ثلاثية ليس بالأمر السهل فهو أولا التزام مهني وكذلك إنهاك فكري في القدرة على وصل الحلقات وصيانة اللغة وحبكة الأحداث وإن تفردت الشخوص. لذلك يعزف الكثير من الروائيين -وأنا منهم- عن كتابة هذا النوع لما يتطلبه من جهد.
ولعلّ عمل يونس في وزارة الزراعة والثروة السمكية في فترة من الفترات التي استدعت تنقله في المناطق الساحلية الغنية بالثروات البحرية والاطّلاع عن كثب على معيشة الناس وعلى مشاكلهم وعلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ساهم كثيرا في قدرته على نسج هذه الحكايات المشوقة. فالحكاية أكثر بكثير من مجرد فكرة، بل هي اطلاع مباشر حثيث على المكان والزمان وسبر لمتاهات العقول كذلك.
أذكر بأنه كان يحدثني حينها عن الشوارع المغبرة والطويلة التي لم يتم رصفها وعلى مساحات الفراغ المنفرد والصحراء الكامنة بالخير والتطيّر والغموض والكثير من السكون وكرم الطبيعة. كان يحب أن يسمع حكايات البدو ويداخلهم ويفهم طبيعتهم، وتغنّى بكرمهم وحبهم للناس، فسكان السواحل تعلموا أن يتقبلوا الغريب القادم منذ زمان غابر، ولذلك لم يكن من المستغرب أن تعتمل في صدره رغبة جامحة بسرد كل ما رأى وسمع ويضيف عليها بهارات تلك الخيالات التي التقطها من رائحة البحر المالحة ومراعي الرعاة المتنقلين. كان يأسره ذكاء أهل المنطقة ومعارفهم بالنجم وبالصحراء وقدرتهم على التأقلم في وسط قاس واستخراج أروع ثرواته.
عندما بدأ يونس في “بر الحكمان”، لم يكتف بالذكريات المكانية والحكائية التي كانت تسكنه من خلال رحلات عمله، بل كان يبحث بكلّ اجتهاد عن المعلومات الجغرافية الدقيقة وعن شذر الكتابات القليلة التي ركزت على هذه المناطق. وقد وصل الأمر في روايته الثانية “غبة حشيش” أنه قرر أن يصحبني في رحلة برية طويلة لتقصّي المعلومة الحيّة وللاستزادة مما يمكن به صناعة ثنائية الحقيقة والخيال. وفي طريقنا، وهو رجل تتفوق عنده الذاكرة أكثر عن غيره، كان يشير بيده، كلما رأى شيئا أو معلما مألوفا: هنا مصنع الثلج وتلك البحيرات الوردية ويصر بأن ننزل بأنفسنا ونرى عمق الرمل وقوارب الصيد المهجورة والمساحات اللامتناهية من البحر الأزرق الجميل. حتى إننا تورطنا مرتين و”غرزت” سيارتنا رباعية الدفع، ولم تنفع كل المحاولات للخروج، وكان لا بد من أبناء البحر النشامى أن يظهروا بسرعة ليعينونا بخبرتهم وحنكتهم وفي وقت قصير. كانوا يفعلونها بكل أريحية وبدون تردد وتجد في كل سياراتهم عدة القنص والطوارئ كمن اعتاد على صعوبات الأرض ومغامرات السياح!
لا يمكنني طبعا أن أغفل هنا عن ذكر سيارات “أبو شنب” التي تشتهر بها المنطقة ككل، فتراها تسابقك في الصحراء من كل حدب وتعفر الغبار خلفها، وعندما سألناهم ما السر في محبتهم لهذه السيارة قالوا إن ماكينة أبو شنب تحب الصحراء ولا تخذلهم في الأنواء، طبعا لمن يستغرب ويتساءل عن ماهية سيارة أبو شنب، فهي بيكاب قديم الطراز لشركة تويوتا، لها مقدمة عريضة تشبه الشنب وخلفية واسعة لشحن الحيوانات والأسماك وكل شيء آخر!
وعند عودتنا من الصحراء عرفت سر الشغف الذي تمكن من زوجي وجعله يسكن غرفة مكتبه بشكل متواصل لا يكلّ وكأنه أمام مشروع ضخم. سكنته الصحراء والحكايات وخاف أن تتسرب من ذاكرته فقرّر أن يطرحها كلها دفعة واحدة. كنا بالكاد نراه، وصرت مرات أشتكي من إدمانه أمام شاشة الحاسوب بلا توقف، هكذا هو عندما يأسره شيء أو يلتزم بعمل ما، يظل يراوح مكانه لا يغيره حتى ينتهي منه، مخلصٌ بشكل مغيظ حتى النخاع! وكذلك كان حاله في الروايتين الأوليين من الثلاثية. لكنه في الثالثة “رأس مدركة” أخذ وقتا أطول، كانت النهاية تؤرقه ولم تعجبه الخيارات التي وضعها حتى في العنوان ظلّ متردّدا في المكان الأنسب لأحداث الرواية، لذلك توقف عن الكتابة بضعة شهور وكما نعرف جميعا بأن التوقف في الكتابة الروائية هو مأزق صعب؛ لأنّ استعادة اللياقة ليس سهلا خصوصا مع قطع شوط كبير فيها.
توقف يونس عن إكمال روايته الثالثة في الثلاثية، وقرر كتابة رواية “بدون” التي كانت قد اكتملت في مخيّلته بعد أن قام بمقابلة صديقه القديم وتسجيل أحداث حياته التي سردها بحرص وإتقان ولاقت استحسان الجميع بعد نشرها. كنت أقول له وقتها بأن رواية “بدون” هي أفضل رواياته على الإطلاق لأنها إنسانية ولأنها أيضا مؤلمة وتنفذ للقلب مباشرة، ولكنني كنت أعيد وأكرر في الوقت ذاته بأنّ مشروع الثلاثية يجب أن ينتهي أيضا وبأنها المرة الأولى التي يظهر فيها هذا النوع الكتابي في السلطنة وهو المنفرد عربيا لفرادة عنصري المكان والزمان وعطش القارئ لسبر أغوار المناطق الغامضة في الساحل العماني. كان يعرف أن كل ما كنت أقوله صحيح ويعرف أنه سيدخل التاريخ بهذه الثلاثية متى ما اكتملت، ولكنه ظل يراوغ للعودة للكتابة لعلمه بمدى الجهد المطلوب فيها. ومع مرور الوقت وإلحاح الأصدقاء، رجع ببطء وقرر إعادة كتابة الجزء المنجز حتى يكتسب التسلسل المطلوب ويسترد نفسه الروائي.
رواية “رأس مدركة” تنفرد في الثلاثية بأمر مميز جدا: كانت تروي التاريخ وتنقضه! وهذا الأمر بالنسبة لي شخصيا مهمٌّ جدا من وجهة نظر أكاديمية وليس أدبية فقط، فنحن نستند في أعمالنا الأكاديمية والتاريخية على منتوجات الأشخاص الآخرين التي قد تكون غير دقيقة أو مبالغًا فيها أو تمت تحت ظروف مختلفة. ولذلك عند التعامل مع المنتوج الثقافي للشخوص الآخرين، ليس في التاريخ فقط وإن كنا هنا في صدده، وجب التحقق ووجب النظر في المرآة واستقصاء وجهة النظر المقابلة. المشكلة تكمن فقط عندما تكون وجهة النظر المقابلة مغيبة بسبب افتقاد المصادر والتأريخ ولا يبقى لدينا غير فكرة واحدة من طرف أوحد. يونس قرّر هنا في رواية “رأس مدركة” أن يلعب دور محكمة تاريخية في قصة السفينة الجانحة وقتل الإنجليز المذكور في الرواية الإنجليزية. قرأ هو تلك القصة الوحيدة المتوفرة باللغة الإنجليزية وقرر أن يصوغها في قالب روائيّ يستخدم المكان والظروف المعيشية والمنطق لينقض صحة ما كتب سواء بجهل أو بتعمد. وبذلك وضع القارئ أمام تساؤلات أخرى كثيرة وعن قصص متعددة كتبت وأخذناها بتسليم دونما تفكير. الرواية أشبه بلعبة الأحجية ووضع القصاصات في موقعها الصحيح وقد نجحت في نظري بشكل كبير في كشف اللغط والمغالطات عن حياة البدو في الجزيرة العربية والصبغة الاستعمارية التي شاءت عمدا وأنفة إضفاء الصفات الوحشية لأغراض جيوسياسية بحتة.
في كل روايات يونس، يصرّ أن أكون أنا الناقد الأول. ربما لأنني ناقدة شرسة بحكم عملي الأكاديمي أو لأنه يؤمن بأن الخلفية الروائية المشتركة تؤمن مساحة كافية من الاستقراء والتخاطر. وكعادتي أمسك القلم وابدأ في وضع ملاحظاتي بتأنٍ سواء أكانت لغوية (مع أني لست متخصصة في اللغة العربية) أو فكرية وتساؤلية. أظن أنني كنت قادرة على تغيير رأيه في سير بعض أحداث الرواية والتفكير بمخارج أخرى وهذا ما أتوقعه منه أيضا في كتاباتي الروائية القليلة. هذا التبادل المباشر للآراء ممن يشاركك ذات الهم هو أمر صحي جدا وعملي، فنحن أحيانا مع الصحاب نغرق في مجاملات لا تخدم النص، بل تسقمه ولذلك من المهم أن تختار ناقدك الأول فهو المصفاة الأقوى والمساهمة في نجاح العمل. أنا أرى أنه حتى تغيير أجزاء كبيرة -إن استدعى ذلك- في مسودة العمل الروائي بعد تمحيصه من صديق مخلص كفيل بتقليل الهوة مع القارئ وضمان جودة العمل. معظم الكتاب يلجأون لنقاد لغويين ينظرون للأحداث بوجهة نظر ثانوية، لكن في الحقيقة أنه برغم أهمية صحة وفصاحة اللغة إلا أن تصاعد الرواية وتماسك حلقاتها هو الجانب الأكبر المستحق للنقد قبل النشر، فبه تخرج الرواية من عاصفة النثر المشتت لقصة متمكنة واضحة المعالم. لذلك ربما من الأجدر أن تتواجد منصة لمثل هذا النوع من “المساعدة الأدبية” والتي كانت من ضمن صلاحيات دور النشر وقد تم إغفالها أو إسقاطها لدواع مادية/ تجارية.
ماذا ينقص الثلاثية في الوقت الحاضر؟ ما الذي يحتاجه يونس الأخزمي اليوم؟
من وجهة نظري ينقص الثلاثية اهتمام وتسويق الجهات المختصة بالأدب والثقافة في السلطنة. وإنني إذ أشكر مجلة لهذا الملف عن الثلاثية، وهو غير مستغرب من المجلة التي احتضنت الكثير من مبدعي هذا الوطن؛ لكنني ما أزال اعتب على بقية الجهات التي ما تزال تدور في نطاق دوران التفضيل الشخصيّ بعيدًا عن إنجازات وإصدارات الكتاب العمانيين بمختلف خلفياتهم وانتماءاتهم الأدبية. هل نفتقد النقاد في بلدنا؟ لا طبعا، ولكن نفتقد التوجيه من المعنيين بتبني جلسات نقديّة متجردة كما نفتقد الشمولية النقدية بعيدا عن الدوائر الكتابية الضيقة. يونس يستحق الاحتفاء ليس لأنه زوجي، ولكن لأنه كاتب عماني مخضرم ومتمكن، كتب في وقت قياسي خمس روايات بمستوى عالمي ويجب الالتفات إليه وتسويقه في الداخل وفي الخارج. ولعل هذا الهمّ ليس ما يحتاجه يونس وحده، ولكن أيضا العديد من الكتاب الذين تم التهاون والتقصير في حقهم، لضعف في حوكمة المنظومة الثقافية واستنادها على قرارات فردية. يجب أن نرى زخمًا أكبر في التسويق للكتاب العماني أبعد عن معرض مسقط للكتاب، يجب أن نتبنى هذا بإخلاص لهدف أسمى من الاختلافات الفكرية التي تنوء بها أية ساحة ثقافية، لرفع صورة التنوّع الثقافي الذي تزخر به السلطنة على مر العصور وتعزيز الشفافية في الأوساط الأدبية.
أتمنى أيضا أن يلتفت القطاع الخاص المهتمّ بالفن والسينمائيات للثلاثية والعمل على إصدار سلسلة أفلام تاريخية توثق بها سيرة الإنسان العماني في سواحل بحر العرب، وربما المشاركة لاحقا بهذه الأعمال في المهرجانات العالمية للخروج بالأدب والفن العماني من نطاق المحلية. كلها قد تكون أحلامًا في الوقت الحالي، ولكنها كلها بالتأكيد قابلة للتطبيق إن طبقت المنظومة المتكاملة لتعزيز شأن الثقافة والكتاب العماني.