تستجيب رواية،"آخر الملائكة " لفاضل العزاوي لطروحات الحداثة الجديدة في فن الرواية من خلال البحث عما هو انساني مشبع بالمحلية، وما هو فني يحول اليومي والمألوف الى نص منفتح، وقارئها يشعر، ومن صفحاتها الأولى، ان العزاوي يعتمد البنى اللاواعية في التركيبة الاجتماعية – النفسية لشرائح مختلفة من الشخصيات ليس بينها ما هو متميز قبل دخوله بيت الرواية. وان هذه البنى اللاواعية بنى أسلوبية أيضا، حيث جمع فيها بين القول الشفاهي – أي فن الحكي قبل مرحلة العلم الفني – وبين أساليب الفن الحديثة – فن التداخل والتعاقب بين الأصوات، وتعدد الرواة، وتبادل المواقع بين الراوي والمروي له.. واذا ما أضفنا لما أحدثته البنى اللاواعية الاشكالية المكانية التي أنشأ فيها روايته وأعني مدينة كركوك فضاء واسعا لحركة الأحداث والشخوص، ومحلة جفور مكانا معاشا وزمنا عموديا، ووعاء للأفعال اليومية المختلطة، يمكننا القول أننا بصدد رواية جديدة تجمع بين الملحمية دون أن تعتمدها كليا، وفن الواقعية السحرية القائم على موروثنا الشفاهي والمعاش، دون أن تقع تحت تأثيره كليا. رواية تؤسس لفن الرواية العراقية قافية جديدة، فهي رواية نقلة بعد روايتي النخلة والجيران لغائب طلحة نرمان، والرجع البعيد لفؤاد التكرلي. الأولى بنت بيتها الروائي على فكرة المجاورة والمحاورة بين الشخصيات والأفكار ضمن فترة زمنية معلومة ومحددة، والثانية تساوي "أي الرجع البعيد" التي بنت بيتها الروائي على هوية مرحلة وهوية أشخاص وجدوا أنفسهم مقذوفين دون مسؤولية في خضم اشكالية واقعية كبرى. أما آخر الملائكة. فتؤسس نمطا ثالثا لرؤية المجتمع، باعتمادها على البصر المشترك لكل الشخصيات المتباينة الأفكار والتجارب دون أن تلفي خصوصيتهم
وفرادتهم، من خلال الكشف عن البنى الفكرية التي اقتسمت تاريخ تلك الشخصيات دون أن تختلط في عقولهم أو تجاربهم،
بمثل هذه البنية المعقدة والاشكالية أقام فاضل العزاوي بيته الروائي وهو يفتح نوافذه وأبوابه للاتساع وللتقلص معا. مما يعني أن فن الرواية فيها ليس مما قيل – عراقيا – سابقا. وأنه ينفتح على تجارب عالمية دون احتذاء أو تقليد، وفي الوقت نفسه تؤسس رؤية أسلوبية يمكن أن تقتفي وتنمو وتتطور في تجارب فنية لاحقة فنمط رواية آخر الملائكة الفني، يمكن أن يتسع دائما بالكتابة والتفكير معا، على العكس من نمط الكتابة لرواية النخلة والجيران التي يمكن تقليدها أو الاحتذاء بها، لأن بنيتها وافكارها بنية أفكار روايات الحقب والمراحل التي تشكل الشخصيات فيها نواة لتطور نوني لاحق. وكلتاهما مختلفتان عن فن الرجع البعيد، التي لا يمكن استنساخها، أو الاحتذاء بها، لأنها قول فني مغلق، احتكم الى رؤية مؤلف عاصر أحداثا لا تكشف عن حقبة أو مرحلة وانما عن أزمة وجدت في تلك المرحلة تبعتها هوية أشخاص يمتلكون فردانية عالية.
-2-
ابتداء من الصفحات الأولى للرواية، يبرز الثانوي من الحياة ليعتلي خشبة الحدث والتفكير وليصبح المادة الأكثر حضورا في بنية السرد، وما اللجوء ,الى ابرازه وتضخمه وجعله القيمة الأسلوبية الا محاولة الوصول الى الشكل الفني المشترك بين الشخصيات والاحداث المفترقة. وهذه الطريقة الفنية ليست سهلة، كما يبدو، وانما تحتاج الى أداة فنية خاصة للكشف عما هو مشترك وعام. هكذا تحولت حكاية فصل حميد نايلون من شركة النفط، من حدث مفرد الى حدث جماعي تلاقفته ألسن النسوة والشيوخ والأطفال، وحاكوا على منوالها حكايات أخر، موسعين من حدث ثانوي بسيط، ليصبح القضية الشعبية التي حركت الناس لاحقا ضد الانجليز، فكلمة نايلون التي ألصقت باسم حميد لتصبح صفة ولقبا له، جاءته من جورب النايلون الذي أهدأه الى زوجة الصاحب الانجليزي طمعا في جسدها بعدما شاهدها عارية في بحيرة الحبانية ومضاجعة لمن تشاء من الرجال في خلوتها.. الا أن هذه الرواية عن جورب النايلون، وما سببه من فصل عن عمله، ليس لها أي أساس من الصحة كما يقول حميد نايلون نفسه الا جورب النايلون. وهذا ما جعل الحكاية تستطيل وتتسع وتزداد ابهاما وغموضا. لأن ما تحت سطحها المباشر هو الذي حرك سكان محلة جفور لأن ينسجوا على منوالها حكايات أخر.
ان تطور بنية المهمل والمروي الشفاهي والنادر عن طريق تضخيمه والصاقه بمواقف كبرى يوسع من دائرة الاصالة والتأويل، والموقف الذي ينتج هذه الروايات المختلفة ان تحول فصل حميد نايلون من الشركة الى فعل جماهيري ومادة شعبية في أول مظاهرة ضد شركة النفط، يقوم بها عمال الشركة في كاورياغي، ثم ما ينتج عن ذلك من مهاجمة السلطات المظاهرة وقتل عدد من أبناء المدينة.. ان وعي الناس البسطاء بمواقف شركة النفط، والسلطات الحاكمة يومذاك، كان عاديا، في حين أن ما يجري تحت سطح هذا العادي والمألوف غير ذلك، لقد فوجيه الناس بانهمار الرصاص والقتل وبدأ وا يفكرون بطريقة أكثر جدية في المواقف اللاحقة، وان فصل حميد نايلون ليس من أجل جورب نايلون أهدأه لزوجة الصاحب الانجليزي، وانما لاستشعارهم بوجود تنظيم سري داخل الطبقة العاملة. ان تطور اللاوعي الجماعي، يصبح وعيا وأداة لكشف آلية التعامل مع الأخر، وقد تمثل بشركة النفط، ومراكز الشرطة والحكومة وبض رجالات الأمن.. وفي مراحل السرد اللاحقة نجد أن تقدم فن السرد في الرواية يقوم على توسيع هذه البنى القبلية والآنية من الحكايات الشفافية والعملياتية. فقد تكون مثل هذه البنى ثانوية ومهملة، ومرتبطة بهموم محلية ضيقة، الا أنها تكشف عن محاربة جماعية دونما حاجة للبحث عن أسباب جوهرية لظهورها. فالاقناع، وهو أحد أهم مباديء الوعي الجماعي لظاهرة ما نجده متوافرا في أي بنية حكائية شفافية يتفق الناس على تداولها واشاعتها، ولأن "أخر الملائكة " رواية وليست ديوان شعر أو قصيدة طويلة، فالسرد فيها هو البعد الفكري -الاسلوبي لأفعال هذا الوعي. ان فنون النثر كلها تنتمي لهذا البعد الاسلوبي، مما يعني أن السرد – وخاصة في أرضيته الشفافية – ليس شكلا فنيا خاصا بنوع أدبي – هو الرواية والقصة – فقط، وانما ببعده الاجتماعي الكامن في التقاء الألسن على حكاية أو فعل. فالسرد هو الشفافية الجماعية للقول.
ان في تدوير المبهم والمؤول والثانوي، وجعله لسانا لعامة الناس يعطي لفن السرد فاعلية ملحمية حتى لو لم تكن الأحداث مأساوية وما اشراك عدد أكبر من الناس في صنع الحكاية، وانفتاح هذه الحكاية على زمن ومكان غير ذاتيين الا من خصائص السر دية. وما حكاية زوجة حميد نايلون – فاطمة
التي لجأت الى مختلف الحيل هي تحمل بطفل، واحدة من جماعية السرد. ففاطمة التي اقنعت زوجها حميد بأن ينام معها كل ليلة ولأكثر من مضاجعة في الليلة الواحدة، تفصح حكايتها عن بعد مشترك غير ذاتي وعندما لجأت بعد أن يئست من الحمل الى إمام جامع سني، لتستشيره بالأمر، ولما لم تعد المشورة ذات فائدة، لجأت الى إمام جامع شيعي، ثم الى إمام تركماني، وأخر يهودي، وعاشر تركماني، خالطة بين القوميات والأديان، ولما لم تنفع معها كل السبل، لجأت الى السحر والجن علهم يحلون الرقية الممسكة برقاب الارحام. ان التيار الحكائي لهذه الشعيرة الصغيرة والثانوية، لا يتسع لنتيجة حاجة فاطمة الى الحمل وانما لأن حكاية فاطمة هي حكاية كل النساء، وهذا ما جعل الروائي يغفل فاطمة وحملها كله لاحقا، بعد أن أشبع حادثتها بفاعلية الحكي اذ لم نجده يذكرها ولا يذكر طفلها ولا قصة زوجها الذي ينام معها، وانما أصبحت الحكاية خلفية مرتبطة بالعلية التي يسكن فيها حميد فايون، والأرضية التي يحتلها خضر موسى، والسطح الذي يطل على البرية حين يتطلع فيه برهان عبدالله. ان الكثير من البنى الثانوية يؤدي وظيفة صغيرة في مجرى حكائي عام، ثم تهمل لتصبح نافذة على حدث ومكان اوسع. وقد يحتل خلال تصاعد ونمو عملية السرد موقعها بنى أخر.
ان تيار السرد النثري لا يتمحور حول الجزئيات – خاصة في بنية الرواية الحديثة – وانما يتغذى بما هو "ثانوي" و"جزئي" كي يعمق مساره، اما في الحكاية الشعبية فيصبح الثانوي مادة لحكاية اخري.
لا شك ان الروائي وهو يجمع مفردات بيته الروائي قد أمن نفسا لان يبقى في المنطقة الوسطى، ونعني بهذه المنطقة، المواقع التي تتأرجح بين بنية الجامع وبنية المقبرة. المرتفع قليلا في سماء المدينة، والمنخفض قليلا في اعماقها. وما بقى من مواقع تجمع هي الاخرى بين الكوى والخرائب والمزارات والوادي السحري، والتلال، والمخزن المهجور، والمقهى، والحمام، والبئر والزور خانة، و البيوت والقلعة.. فمثل هذه المواقع الوسطى مكانيا هي كل البنى المكانية التي تستقر فوق لا وعي مكاني، هو المدينة – النفط. وضمنا فإن مثل هذه المواقع – سنأتي على تفصيلها – لا تنتمي الى الطبقات الاجتماعية العليا، ولا الى الطبقات الاجتماعية المفروزة طبقيا، كالعمال والفلاحين فليس في الرواية برجوازية او رأسمالية، كما ليس فيها طبقة عاملة بالرغم من وجود عمال شركة النفط، وليس فيها فلاحون بالرغم من وجود المزارع والا غنام. كما لا توجد في المدينة بنية قومية، فالعربي الى جوار التركماني، وكلاهما الى جوار الكردي، كما خلت الرواية من اي التزام بدين معين، فالإسلام يجاور ويحاور المسيحية، ومعهم فئات دينية يهودية ويزيدية، كما توجد بنية سياسية – ايديولوجية كبيرة، هناك سلطة الدين،، وسلطة الحكومة، وهناك الشيوعيون والقوميون، واللامبدئيون، كما لا توجد بنية عمل قارة، فهناك العمال، والفلاحون، واللصوص والعاطلون، والباعة وممتهنو السحر والشعوذة.
بمثل هذا الخليط من التقسيمات الاجتماعية والسياسية بنى فاضل العزاوي روايته. وحاول من خلال هذا النثار المشتبك ان يؤسس رؤية كلية، ليس لمدينة كركوك وحدها، وانما للعراق كله. فكانت احداثه وشخوصه ادوات لتجسيد الوعي المستلب بفعل قوى كامنة في ذواتهم بوصفهم غير داعين لما يجري. وقوى كامنة في المؤسسات الدينية والسلطوية. الجامع والمقبرة، والسلطة وشركات النفط. اما مادة هذا الوعي المستلب فهي الغرائبي والسحري، والمثيولوجي، واليومي، والفنتازي، وكل ما هو غير محسوم من حكايات ناقصة، او مستحدثة، ومن مفارقات واعمال عفوية. ولولا هذه الميزة الفكرية – الاسلوبية، لما امكن لفاضل العزاوي ان يكتشف بقعته الخلاقة والمولدة والممتلئة بكل ما هو معاش ومعروف واشكالي، والا كيف يتحول موت عبد حبشي جاء صدفة لكركرك، وسكن فيها، الى ولي من اوليا، الله، ويصبح "قرة قول " اماما يزوره عامة الناس، ومن مختلف البلدان، ويقدمون له العطايا والهدايا،الى ان يصبح موته، ومن ثم قبره، حادثة تختلف عليها الآراء، ومادة نقدية يسيل لها لعاب السلطة ورجال الدين، مما دفع بالموقف لان يتولى امام جامع سني، هو الملازين العابدين، القادري شؤون مزار قرة قرار، ويصبح سادنا له يجمع الاموال، ويتقاسمها مع السلطات، ثم لما تراكمت وكثرت، حفر لها حفرة في بيته، لا تعرف سرها حتى زوجته. ثم لما تراكمت اكثر اصبحت قوة تهدد كيان السلطات، وتبعث على الريبة والشكوك بعدان طالبت زوجة قرة قول بإرثها من زوجها، ولولا حيلة اللص محمد العربي، في الاهتداء الى مخابيء الكنز، وسرقته بعد ان جن الملازين العابدين، واعطائه للثوار بقيادة حميد نايلون الذين اتخذوا من التلال المحيطة بالمدينة مكانا لشورتهم، التي اراد وها على غرار ثورة "ماوتسي ترنج " الفلاحية الزاحفة.. اقول كيف يتحول موت انسان عابر وفاسق وسكير في مدينة اشكالية الى تكوين سياسي وديني ومادي يخلخل بنية المجتمع كله، ويؤسس علاقات من نوع آخر غير علاقات العمل لو لم يكن المجتمع الذي يولد مثل هذه المظاهر مستودعا لان يتحول فيه العادي والمهمل والثانوي الى غرائبي وسياسي معا. والا كيف يتحول احسان دلي، الى قط يمارس الحياتين، حياة الانسان وحياة الحيوان، وكيف يظهر الشيوخ الثلاثة لبرهان عبدالله وحده دون سائر الناس ليرشدوه وليدلوه. ومن ثم ليودعوه اسرارهم وافكارهم املا في مخلص جديد للمدينة من شرورها المعلنة والمخفية. فالصبي الذي نضج في وهج الاحداث، تعامل الروائي معه كما لو كان صوته الخاص، مالك الرؤية الجديدة لواقع خرب. صبي تعمد بنار الواقع ومشكلاته، كما لو كانت هذه الرؤيا الشيمة التي تنهض صبيا من الرماد المعاش بعد ان يكون الخراب قد اتى على كل بقايا الامس.. لعل جنكيز ايتما توف في روايته "الجبل الابلق الراكض نحو البحر" تشكل خلفية مثيولوجية لكل تعميد من هذا النوع.
ولو تعمقنا في الابعاد المثيولوجية في الرواية لوجدناها شاملة، للناس وللاشياء معا، فالصندوق الصفير يتحول من خلال عيني برهان عبدالله الى نافذة كونية يطل من خلالها على وادي الملائكة ووادي الاعشاب، والوادي المسحور، وكأن عالما آخر يختفي وراء عالم الواقع اليومي، هنا يعيد القاص مثيولوجيا الحياة الشعبية المفترضة في حكايات "ألف ليلة وليلة "، التي ما ان تفتح بابا في مكان مجهول، حتى تظهر لك مدينة جديدة،واناس يدينون بدين آخر وعادات مختلفة.. ولما تقفل الحكاية، يعود البطل ثانية الى ارض واقعه وقد اشبع بالمتغير. هل لحانت مدينة كركوك، ومحلتها جفور، سكنا للبشر فقط ؟ ان الرواية لا تقيم حرصها الفني على لسان واحد، ولا على بنية اسلوبية واحدة، لقد استنطق لنا الجن والملائكة، وصير الناس ملائكة وشياطين. فطار بهم من روسيا الى العراق، وحملهم ما يمكن ان يتجاوزون به كل مخافر السلطات، حتى لأننا امام مثيولوجيا التقنية المعاصرة.. واوضح أن الفقر صديق دائم للسحر والعفاريت، وان العرب والتركمان والأنحراد واليزيديين لا تفرقهم الهوايات، بل توحدهم الاسحار والعفاريت، وكأن العالم السفلي وحده الذي يتحكم في شؤون المدينة والناس. ثم هذه المقبرة المنسية والمعلنة معا، وما ان تشرع شركة النفط، في شق شارع فيها كي تمد انبوب نفط لها، حتى ينهض الاحياء من خلال الموتى، وتصبح قضية المقبرة قضية سياسية لحبري. تطلب الامر زيارة للعلك فيصل الثاني كي يمنع الشركة من شق الطريق. ثم هذا الفعل الكوني، المطر الذي أمحلت ارض كركوك منه، طوالا، فكان نداء خفيا لاهل المدينة وشيوخها لان يقيموا صلاة الاستسقاء، فإذا بالسماء تدر مياهها، وليغطي سيلها البيوت والطرقات، وكأنه طوفان يغسل المدينة من آثامها المتزايدة، وليعلن ان الشروع تكمن في الخير ايضا. وفي الرواية عشرات الامثلة والنماذج التي يتحول المثيولوجي والشعبي والغرائبي فيها الى واقع، تتقبله الالسن وتصوغ منه لغاتها العملية اليومية وتنشىء من خلاله تصورها عن البنية اللاواعية المستحكمة بالناس وبالمصائر الكونية معا.
ان الروائي الذي اقام روايته على هذا الخراب الروحي للمدينة وللناس معا، انما كان يسعى لان يقيم على صرح هذا الخراب الشامل والمطبق رؤية واقعية جديدة لواقع قابل لان يتعايش مع المهمل والثانوي، وقابل لان يؤسس فوق رماده مدينة خالية من الشروع، لكن مسعى الروائي هذا قد انتهى. بأن الزمن واحداثه، من القوة والجبروت ماتحول الاماني التي تشرب بها برهان عبدالله الى احلام مؤجلة.. هكذا يقرر في أخر الرواية بعد ان يطبق عليه الجميع الهرب الى السماء، مصطنعا من يديه جناحين، منقذا دفتره وكلماته وقلمه وآماله، واحلامه من الموت والفناء.. ولكن هل كان الهروب، خلاصا.. ربما لا تكون الافكار دائما لصالح النوايا.
-3-
الفنية و أبعاد السرد عبر من يصلنا خطاب المؤلف ؟ عبر الراوي الكلي العلم، ام عبر الراوي- المؤلف. وهل كان الراوي صوتا واحدا ام اصواتا عدة ؟ وهل كان الراوي مجرد شاهد يتتبع مسار الحكى ام انه كان مشاركا في صياغة الحكى؟
الملائكة ليس ثمة نقاء اسلوبي، مرة نجد الراوي كلي العلم وهو نسخة من المؤلف، يتولى السرد عن كل صغيرة وكبيرة ويقدم المعلومات كما لو كان إلها.
في الحقيقة ان الهدايا الكثيرة التي كانت تقدم الى الضريح ويستلمها الملازين العابدين القادري لنفسه كانت من التنوع بحيث يصعب حصرها: ليرات ذهب، وقلائد جواهر واسورة فضة وساعات نادرة من الصين، وتحف من سوريا" ص 214، وهذا النمط من السرد الموضوعي كما يقول توماتشفسكي "يكون المؤلف مطلعا على كل شيء، حتى الافكار السرية للابطال "(1). وتمدنا ثقافة المعلومات التي وردت في المقتبس، بأسلوبية التفخيم. فهناك الذهب والجواهر والفضة. وهي معادن نفيسة وغالية، وهناك الصين وسوريا وبلدان أخرى، وهي اماكن قصية بلغها اهمية قبر قرة قول.
وهناك الراوي الذاتي، الذي يتول سرد الحكاية ولكننا نتتبع الحكى من خلال عيني الراوي. فالراوي هنا عين كاميرا ليست حيادية، لا تنقل فقط وانما تختار الزاوية التي تصورها، وبالطبع ثمة مؤلف يحرك هاتين العينين للراوي:
"كان ما قاله الملازين العابدين القادري للمفوض حسين الناصري، عن عدم وجود شيوعيين في محلة جفور هو فوق كل شبهة او ريبة. فلم يكن ليوجد في هذه المحلة احد من الكاكائيين ذوي الشوارب الكثة والتي كانت العلامة الوحيدة التي تدل على الشيوعية في المدينة، خلال فترة الحرب العالمية الثانية "ص 72.
نوعية هذا السرد مختلطة، مرة مع الشخصية، ومرة خارجها. وهذا النوع من السرد يلائم الرواية ذات البطل الاشكالي. مثل "آخر الملائكة ".
المهم في نوعي السرد السابقين ان المؤلف حدد لنا زاوية رواية الراوي للاحداث، فهو مشارك : يصف بموضوعية بعض المواقف، ويتدخل متلبسا الشخصيات في مواقف أخرى، لاسيما وان المؤلف – الراوي قد استبطن شخصية الصبي "برهان عبدالله " ليصبح المؤلف – معا. وهذا ما جعل اسلوبية الرواية مختلطة بين : ثلاثة انماط من السرد: فهناك :
1- الراوي الاقدر: وهو ما يسمى باسلوب الرؤية من الخلف، وغالبا ما تعتمد الرواية الكلاسيكية مثل هذا السرد فالراوي يدرك ما يدور بخلد الابطال، ويصل الى كل المشاهد عبر جدران المنازل، كما انه يستطيع ان يدرك المواقع البعيدة والقريبة، وتداخل الازمنة، ويسير الشخصيات ويقودها ويرسم مستقبلها. وفي الرواية شيء من هذا وان لم يكن معتمدا. فهو – اي المؤلف – لم يترك كل شيء على عواهنه كما لم يحدد بالكامل مصائر الشخصيات، وهذا ما أتاح له الرؤية من خلف الشخصيات ومن امامها، ومن موقع المشارك معها.
2- الراوي الادني، وهو ما يسميه النقد بالرؤية من الخارج فالراوي لا يعرف ما تعرفه الشخصية : بل يعرف جزءا منه. لذلك يقد على الوصف الخارجي والتعليقات واحيانا الوثائق والمدونات، والاقوال وحكايات الآخرين عن.. كما لا يعرف كل ما يدور بخلد الابطال، ويقول تودروف عن هذا النوع من الرواة "ان جهل الراوي شبه التام هنا ليس الا امرا اتفاقيا. والا فان حكيا من هذا النوع لا يمكن فهمه "(2). في "آخر الملائكة " لا يعدم مثل هذا الراوي وان لم يكن حاضرا بالكامل. خاصة في المواقف التي يتحدث فيها عن الملكية، ونوديا الاحزاب، والتنظيمات، وافكار رجال السلطة.
3- الراوي – الشخصية. وتسمى نقديا الرؤية مع. وتكوين معرفة الراوي على قدر معرفة الشخصية الحكائية. وفي آخر الملائكة شيء من هذا الراوي. توافق المؤلف مع برهان عبدالله.
في ضوء ذلك يمكننا القول، ان رواية آخر الملائكة تمتلك خصوصيتها الاسلوبية، وهي بتعدد وواتها وتنوع اشكالهم واساليبهم، انما كان الاسلوب الاكثر ملاءمة للكشف عن احداث اجتماعية، عشنا بعضها تعرفنا ما يتصل منها بنا. وجهلنا بعضها فرواه لنا غيرنا. وقرأنا عمن عاشها بنفسه، فروى لنا ما لم نعرفه او نجهله. ان طبيعة الاحداث في المجتمع العراقي، اذا ما وظفت في رواية ما، لا تستوعبها ضمائر الراوي المفردة، ولعل هذه الميزة الآتية الى الرواية من المجتمع واحداثه تستحق من النقد تأملا خاصا. ففيها نرى وجها آخر من وجوه السرد لم توفره لنا لحب النقد الادبي التي اقامت قوانين السرد فيها وفق نتاج مجتمع آخر. لعل النصوص الابداعية الحديثة شأنها مثل الحكايات لدى الشعوب التي لم تستوعبها وظائف
فلاديمير بروي فراح نقاده يقترحون وظائف جديدة او يتصلون الوظائف السابقة، هذا ما فعله بارت وجريماس وبر يمون وغيرهم. فالنصوص الابداعية، ومنها "آخر الملائكة " تؤسس ارضية اسلوبية لمثل هذا النوع من التواصل بين الرواة.
وكان الكثيرون منهم يعولون في الحقيقة على ما يمكن ان يقوم به خضر موسى الذي راح بعضهم يلقبه بالباشا اعتبأطا (هذا حديث الراوي عن الناس الذين اعتمدوا على خضر موسى في حل مشكلاتهم ). وهو لقب استنكره خضر موسى بشدة، مؤكدا لابناء محلته ان الناس سواسية كأسنان المشط، وانه لا فضل لعربي عل اعجمي الا بالتقوي. (هذا الحديث للراوي، هو استبطان لشخصية خضر موسى فاستعار لسانه )، وكان خضر موسى يدرك هو ايضا ان ثمة امتحانا ينتظره، وان عليه ان يجتاز هذا الامتحان بنجاح (يعود الراوي ليتحدث عن خضر موسى من الخارج ) فاذا كان الله قد من عليه بفضله ومنحه هذ0 الرتبة العالية بين ابناء مدينته، فعليه ان يثبت لهم الأن، انه جدير بكل ذلك، ولكن موضوع الاتصال بالملك كان يقلقه. (هنا يصبح الراوي هو الشخصية تارة ومنفصلا عنها تارة اخرى).(3)
يعطينا اسلوب فاضل العزاوي انطباعا اوليا، بأن تناوب الرواة وتداخلهم، مسألة اجتماعية – فكرية قبل ان تكون اسلوبية مجردة من الدلالة. فالتداخل بين الراوي والشخصية يمنح النص افقا تناوبيا يوسع من دائرة التأويل. ولذلك لا نجد رواة عدة منفصلين يروون لنا الحدث من وجهات نظر عدة، وانما هناك شخصية محورية للراوي تتوزع حسب درجات شدة وانخفاض الحدث.
نخلص من هذا كله للقول على ماذا تشيد الرواية بيتها الفني؟ على ائؤلف – الراوي الذي يبلغنا كل صغيرة وكبيرة وكأنه إله صغير يدس انفه في كل صفحة من صفحات حياتنا الاجتماعية ؟ ام على اكتشافها لنمط من الشخصيات، مختلفي المواقع والافكار، وجدوا صدفة في مرحلة تاريخية، متعددة الافكار والحالات. فكان وجودهم اشكالية بحد ذاتها مما يعني ان الكتابة عنهم طريقة فنية لاحياء تلك الاشكالية، وفي رأيي ان الرواية لا غرض آخر لها الا تنبيهنا الى ان للحياة المعاشة حقيقة لا ترى من خلال كتب التراث والتاريخ والمدونات الدينية والسياسية. فتاريخها المعلن ليس الا نافذة لتاريخ اوسع كامن في اعماق المدينة والناس، وانه يستعمل كيانات لا مرئية تمارس دور القمع والتسلط بلفة الحياة اليومية.. وان هذه الحياة لها شرائعها وقوانينها وسلطتها وهيئاتها، ولذلك لا يكشف عن هذا التاريخ بالأدوات الفنية العادية، وانما بأدوات جديدة قادرة على المزج بين المفترقات، مستخدمة المفارقة اسلوبا للوقوف على جانبي الحدث المعاش والمخفي، هذه الادوات لا تستعار ايضا ولا تستحدث وانما هي جزء من هذا التكوين الكلامي المعاش الذي يمارسه الناس ويمتلك تراثا وعمقا ايديولوجيا. فهي وحدها – اي الادوات – القادرة فعلا على التنقيب عن الآثار الحقيقية التي تراكمت عليها الاحداث والايام واصبحت رأسية في أعماقها، بحيث لا يمكن رؤيتها واستنهاضها الا باستعمال الغرائبي والفريد، والخاص والنادر لاعادة تركيب ما اختلف وما اتفق عليه الناس بطريقة يقول الروائي من خلالها ان ما مر واندثر ما يزال يتحكم في حياة وسلوك الناس وان لهذا الذي مضى مدونات وآثار غير مكتوبة، وانما هو جزء من لا وعي جمعي يتحكم بحصائرنا المقبلة. لذلك لا تفصح الرواية عن الصوت المتكامل بالاضافة الى ان لكل فصل روايته، او صوته الخاص، الفصل الاول حميد نايلون، وهو شخصية ستبطنة، الفصل الثاني كان الراوي فيها المؤلف، روى لنا محلة جفور وما يحدث فيها، عن غرائبها وخصائصها، الفصل الثالث كان الراوي المؤلف – الشخوص، وكان عن لصوص جفور ودورهم في جفور.. تداخل بين فصلين، في الفصل الرابع كانت الرواية عن خضر موسى، والاسطورة والسفر، وجمع الاموال. والغياب الدائم، والبحث عما هو مستقبلي ولكن من داخل السلطة. الفصل الخامس عن المقبرة والمحلة عن الصراعات الخفية والمعلنة بين الدين والسلطة، وبين الناس والشرطة. عن انتهاك النفط لحرمة الموتى والاحياء.. وهكذا بقية الفصول ويمثل هذا التناوب مسك الروائي خيوط لعبته الروائية، وشدها جميعها الى بقعة مكانية واقعية واحتمالية، ومكتفية بذاتها بوصفها حملة في مدينة، ومنفتحة على بلد تشابهت احداثه. وكأن الاحداث التي تجري في هذه البقعة المكانية قد صنعتها قوى عمياه، وسيرتها ايد غاشمة كونية وبشرية، وثمة قدرية مبطنة تتحكم بمسار الاحداث. ولم يقف الامر عند التناوب بين الرواة في الفصول، بل ان لكل فصل ثمة خصوصية اسلوبية، فعندما يكون الراوي مفردا يغلب مناخ الحاضر وأفعاله اليومية. فيكون السود لسانيا معاشا، ورؤية عيانية مشخصة، وعندما يكون الفصل بمحورية مكانية يغلب على السرد فعل الماضي المشبع بحركة الزمان، وقد تداخلت فيه افعال فاوجية ضاغطة وافعال آنية مستحدثة. وعندما يكون الفصل اخيرا، الفصل الثاني عشر.. يصبح كل شي ء مستقبليا، ثمة عماه كوني قد اطبق على المدينة والناس، وتحولوا الى اشرار بعدما كانوا بسطاء. لقد سلحتهم الممارسات السياسية بمدي عمياه لا تقتل الضحية الا بعد تعذيب.. عندئذ لا مناص من الهروب – الطيران – كما فعلت ريميديوس الجميلة في مائة عام من العزلة، تاركة البشر وسكان القرية بمستوى ارتفاع الاعشاب طائرة وهي ترفرف بثوبها الابيض الجميل كجزء من بناء كوني جمالي، ان هيمنة البنية الشعرية على بنية الصوت الواحد للراوي، كانت سببا فنيا شد الروائي به اوصال عمله هويات لأمكنة وفضاءات أخر. فاذا كانت الاحداث تتصل بمعارضة الحكومة وشركة النفط والسلطات المحلية،اختط له مكانا داخل وخارج المدينة دلل من خلاله على هوية هذه الاحداث واهدافها، واذا اراد المؤلف ان ينشىء مقاومة او ثورة لجأ الى التلال والجبال المحيطة بالمدينة، وكأنها كل جبال العراق وتلاله وكهوفه. واذا احب ان يعطي للمدينة بعدا مثيولوجيا قديما، فرش له الوديان والسهول والروابي، وحاول من خلالها تضمين معنى المدى والخلاء الواسعين كعمق لامكنته. واذا اراد ان تكون احداثا بأفعال دالة وعمودية اختار لها امكنة علامات، وامكنة مختصرة ومكثفة. منة المقهى، الزور خانة، الجامع، المقبرة، البيت، الخربة ´، الكهف… الخ. وفضاء من هذا النوع يحلق سرده وهذا ما جعل فعل القص فيها ينطلق من الفضاء وامكنته الكلية الى الداخل. ان المؤلف لا يقودنا الى مكان ليقول لنا عنه شيئا، وصفا له او حادثة فيا، وانما يقودنا الى امكنة تولد سردها. وتفعل حدثها، وتوسع من دائرة القول فيها، فغرفة الصبي برهان عبدالله، – العلية – او وادي الاشباح او الصندوق السحري. او خربة الشيوخ الثلاثة، ما كان للروائي ان يصفها أو ان يقدمها لنا بتفاصيلها، وانما جعلها تسثنطق ذاتها من خلال ان ما يحدث فيها يمتلك عموميته، وليست خصوصية، ان فاعلية الامكنة – الفضاء – تكمن في دقة تسميتها وليس فيما تعني اشكالها.
اما تعامله مع امكنة الرواية، ونعني بها "محلة جفور" ومتفرعاتها فكان هو الفعل بعينه، ففي هذه المحلة، اختلط المكان بالناس، والناس والمكان بالاسماء وحمل كل اسم منها هويتها. ما يميز الامكنة في الرواية، ان الفعل كان يؤسس فيها ثم يخرج بعد ذلك الى فضاء المدينة.
الا ان هذا الفضاء، وهذه الامكنة تدخل في علاقات متشابكة بحيث لا تستطيع ان تنسب أي فعل بالكامل الى مكان ما دون فضائه، فشركة النفط، وبالرغم من ان المؤلف لم يجر فيها اي حدث مباشر، الا ان ثقلها كبير على فضاء الرواية وامكنتها، فهو مكان ذو سلطة فاعلة ومؤثرة، وفيه يتم مسك خيوط اللعبة من طرفها الآخر، فما كان من كركوك – فضاء – ومحلة جفن – مكانا – الا الاطراف المتسعة لافعال الشركة الخفية. وقل ذلك بشأن القصر الملكي في بغداد، فهو لم يكن مكانا مؤثرا في سرد الرواية،ولكنه ومن خلال متعلقاته بما منحه لخضر موسى من جاه وسلطة معنوية، كان مكانا مؤثرا في تحريك احداث الرواية وتفعيلها، كذلك هو شأن الجبال التي لجأ اليها حميد نايلون ومجندوه. الامكنة المرتبطة بالفضاء – المدينة – كانت ممولا لسياقات السرد، وفاعلة في تحريك المناخ العام للنص. فلا ترى لوحدها وانما من خلال امتداداتها واستقبالها لافعال الامكنة الاخري، ان فاعلية مراكز الشرطة في المدينة، لم تكن الا فاعلية البنى الوسطية بين قطبي الناس والسلطة. فكانت عرضة لان تكون محورا متأرجحا بين فضاء المدينة وقواها الكبرى، وامكنة المدينة وما يحدث فيها يوميا.
– 5 –
إلا أن المكان في الرواية، بفضائه الواسع وامكنته المنتقدة، لم يكن
مجرد جغرافية أجرى عليها الروائي احداث روايته، وانما كانت جغرافية حية ومولدة، بل واجدها البؤرة التي ولدت السرد كله، ولنبدأ بمعاينة المكان كله من خلال هوياته :
واول ما نلاحظه، ان مكان الرواية، كان ذا طبيعتين جغرافيتين :
الطبيعة الاول هي: المواقع الافقية المسطحة والواسعة.
الطبيعة الثانية هي: المواقع العمودية، العميقة والضيقة.
امثلة المواقع الأولى : فضاء المدينة، وفضاء محلة جفور، وما حدث في الشوارع والمقاهي، وعلى مشارف المدينة من مظاهرات ومصادمات، وما حدث في البقع المنزوية المعلنة، بيت ارملة قرة قول، وبيت ملا زين العابدين، وبعض مواقع المدينة الاخري، كمخفر الشرطة، ومجلس الادارة المحلية، والطريق الموصل الى بغداد، وحديقة قصر الزهور وكل مكان له هوية تصميمية.
وامثلة المواقع الثانية : البئر، الزورخانة، السرداب، الصندوق العجيب الحمام، المقهى، الجامع، القلعة، الدكان، الخربة، بيوت الدعارة، المخزن المهجور، بيت حميد نايلون، علية برهان عبدالله، الوادي المسحور، وادي الاشباح، المقبرة، بيوت الجن، مخفر الشرطة، الكهف، ممر الجبال، المزار، اضرحة الاولياء، المغارة، الامكنة الفراغ، الحفرة، القبر…الخ
فرضت هذه الامكنة افكارها، فأمكنة السطح، الفضاءات، كانت مسرحا لافعال التدمير. كل احداث الرواية التدميرية حدثت في الامكنة المكشوفة. – معركة كاورباغي – معركة المقبرة – فصل حميد نايلون من الشركة – اضراب العمال – المطر الذي غسل المدينة من ادرانها ثم دمرها بسيوله، هيمنة القوى العمياء على ممارسات الجنس والسياسة معا، الوعي الناقص مشكلات المجتمع الآنية، اللاا بالية التي يواجه الناس بها ما يحدث لهم القدرية المطبقة على الناس في ارجاع كل الحوادث الى مشيئة الله، هيمنة الجامع على وعي الناس، العمل اليدوي البسيط الذي كان رزقا للبعض، بينما يفترش الشوارع والمقاهي العاطلون عن العمل، العودة الى المطلقات الكونية في قياس افعال الناس اليومية، الايمان بالسحر والنسخ والحلول، الايمان باقتسام الارض بين الانس والجن، التصور الساذج عند الناس عن التاريخ وكيفية صناعته من قبل قوى مجهولة. التداخل بين الناس واشيائها بحيث تتحول قضية ملهى الهناء الليلي الى مظاهرة ضد الشيوعية، استقبال الناس لبعض الشعارات بدون وعي، اعتماد ثقافة القطيع في تبليغ رسالة الدين او السياسة، تحويل الوهم بالاولياء الى حقيقة… الخ.
كل هذا الافعال التدميرية حدثت في فضاء المدينة. ويعطينا هذا البعد المكاني للفضاء. ان الامكنة غير المعلمة، وغير المحسومة الهوية الاسمية، لا تمنحك الا افقا لا حدود له للافعال، بحيث يمكنها ان تقترن بالاحداث المبهمة والاولية والنواة وغالبا ما تتفق هذا الثيمات الكلية مع الفضاء بوصفهما معا غير مسميين بدقة.
الفني بطريقة فنية جديدة، هي اختفاء فاعلية الصوت المفرد للشخصية في فاعلية الصوت الشعري للاحداث. فالشخصية عند فاضل العزاوي تبقى ناقصة مهما ألحفها بدثار المعلومات والممارسة اليومية. وان مسار الاحداث هو الذي يولد ميزات جديدة لهذه الشخصيات، كما ان هيمنة الغرائبي والمثيولوجي، لا يجعل من اي شخصية مكتفية ومستقرة، ان سلطة اللاوعي الجمعي تمارس حضورا غير مرئي على افعال وتصرف كل الشخوص، فبدوا لنا حاضرين وغائبين ومهمين وثانويين.
لا شك ان نسبية الحقيقة هنا، تكشف عن نسبية البناء الفني، فثمة فصول متماسكة البناء الفصل السابع، وثمة فصول طويلة على احداث صغيرة. الفصل الحادي عشر مثلا، فالرواية لا تسير بوحدة بناء متماسكة، لكنها تكشف عن روح مهندس يستخدم ادواته بدقة بحيث لا تضيع منه خيوط اللعبة الروائية. وهذا ما يجعل المؤلف يبتعد عن اعتماد احداث مسبقة، او شخصيات مهيأة، كل احداثه تتم خارج الرواية، وما ان تدخلها حتى تحدث هزة غير اعتيادية في سلوك وافكار الناس : احزاب العمال والمجزرة والمقبرة ووصول اخوة خضر موسى بعد غيابهم 40 عاما في روسيا، والبحث عن الدراويش، والمظاهرات، وقبر قرة قول، والسفر الى بغداد لمقابلة الملك، او مد الثوار بالأهوال التي جناها الملازين القادري بعد موته. او المطر الغامض، او الظلام الذي عم القرية والمدينة، او تحول عزرائيل الى درويش يرافق الاحياء في رحلاتهم اليومية. او السجل المعدم الذي دونت فيه كل التواريخ. او مسعى برهان عبدالله لان يكون "عرفة " جديد. وطريقة فاضل العزاوي في الكشف عن السياسي من داخل السياق العام للمجتمع، وليس من داخل بنى ايديولوجية مفترضة او مقحمة. لذلك جاء السياسي عنده هو مشبع بالغرائبي والساذج احيانا، والساخر في كل الاحيان، حتى لتحسب ان رؤية المؤلف لاحداث مجتمعنا العراقي، لا تخلو من السخرية والمرارة، فالايديولوجيا تولد من الفطرة، وليست من الوعي، والا كيف يكون اللص ثائرا، واهوال قرة قول، تمويلا للثوار، وافكار حميد نايلون، وبعض الشبيبة من رياضيي الزورخانة، نجاة سليم، وفاروق شامل وقادة للثورة المرتقبة.
-4-
البنية المكانية للرواية لم يكن اختيار الروائي لمدينة كركوك،فضاء مكانيا واسعا، وزمنا متراكما ثقيلا، مجرد اختيار لحنين طفولي، بوصفها مدينة الروائي، وانما يجيء اختيارها بوصفها فضاء جغرافيا للمدينة الاشكالية، فهي المدينة التي لا تنتمي لوسط العراق او شماله او جنوبه، مدينة فرض موقعها الجغرافي – الاقتصادي ان تكون حلقة وصل مع بحل المواقع. مما حدا بها أن تكون مدينة تختلط فيها كل القوميات، وكل الديانات، وقد منحها النفط الذي اكتشف مبكرا شيئا من الاستقلالية، مما جعل سكانها عراقيين وغير عراقيين : بعضهم من الارمن، وبعضهم الاتراك، ولانها المدينة التي تقع على حافة الدولة العثمانية بعد ان ضمت هذه الدولة ولاية الموصل لها، فقد منحها هذا الموقع هوية المدينة المواجهة. وما تزال كركون المدينة الاكثر اشكالية في البنية الديموغرافية والجغرافية للعراق.
يمثل هذا الفضاء الواسع والمشتبك، امام العزاوي بيته الروائي فيه ليتغذى من كل موروثه وافكاره والتباساته، وكي يجعل من هذا الفضاء محسوسا ومعاشا. اختار مكانا معينا، ومحددا، هو محلة جفور ليقيم عليها هذا البيت. وقد اتاح له المكان والفضاء ان يترك في التواريخ وفي الامكنة والازمنة، فاختط لنفسه رؤية ينهض بها كل اجزاء الفضاء من خلال اي حدث يحدث في جفور – المكان – وهذا ما حدث عام 1952 عندما اضرب عمال كاور باغي ضد شركات النفط، وسقط منهم من سقط قتيلا برصاص الشرطة والشركة.. لحما هو الموقف نفسه الذي شمل به كل كركوك عندما عمدت الشركة الى شق طريق وسط المقبرة.. ان فاعلية المكان الجزئي الذي يحرك فضاء واسعا، هو الذي جعل الرواية تعمم ما هو خاص وشعبي ومثيولوجي، وتجعله عاما. ومقبولا من قبل الجميع، وهذه الفاعلية جعلت الانتماءات الدينية والقومية والاثينية ثانوية وغير فعالة برغم مما عزف على هذه الاوتار من موسيقى الدم والطائفية.
بدءا يمكن تقسيم المكان في الرواية الى قسمين كبيرين :
1- فضاء الرواية. ونعني به مدينة كركوك كلها، بجغرافيتها وسكانها.
2- مكان الرواية،ونعني به محلة جفور والامكنة الفرعية المنتقاة من فضاء المدينة.
يعطينا فضاء الرواية احساسا ما بالوطن، سواء أكان هذا الوطن مدينة ام بلدا، ومبعث الاحساس من ان هذا الفضاء احتوى احداثا اعم من مساحته، وان ما جرى فيه جرى في مدن أخرى، كما ان هذا الفضا؟ المحدد – كركوك – لا يستخدم لغة خاصة بسكانه، انما لغته لغة تعميمية وبعيدة عن الاحالة لاي ذات، حتى ذات المؤلف نفسه.
وخلال تعامله سرديا مع فضاء المدينة منحنا افقا اشكاليا عاما، وان اختصت به، ذلك هو توصيفاتها الجغرافية والديموغرافية، فاستخلصنا نتيجة مفادها ان المدينة – الفضاء – مدينة الهويات المتعددة، والاصوات المتجاورة، والافكار الرأسية في أعماقها. ولما تم له تحديد هويتها العامة والخاصة، جعل منها فضاء كليا. فضمنها يمنح فضاء المدينة احساسا عاما بأن ما يجري فيه، يمتلك خصوصية وطنية، وهوية عراقية عامة، لعل هذا الثيمة الكلية، هي التي تمنحنا قربا مع فضاءات عالمية اخري، بإمكانك ان تستعير اجواء القاهرة، او بيروت او باريس او اي مدينة اخري، فتجد فيها ما يتلاءم وفضاءات المدن العراقية، لكنك لا تستطيع استعارة امكنة قرية ماكاندو، ولا خان الخليلي،ولا حارة الزعفران.، ولا ازقة دمشق او بيروت، ولا بيوت الخرطوم او الجزائر، ان مثل هذا الامكنة تلتصق بالمحلية لتحمل الهوية الانسانية، فالأمكنة الضيقة، المسمدة، او حاملة العلاقات المحلية، وحدها التي تصون ما تدمره الامكنة – الفضادات -. لذلك نجد كل افعال الصيانة في آخر الملائكة، فت من داخل الامكنة وليس من فضاداتها، اي من المواقع العمودية، والعميقة والضيقة، والفائرة في اعماق المدينة وحوافها.
اذن يمكننا القول ان السطح، والاماكن الفضاء، لا تحدث فيها الا الافعال التدميرية، تلك التي بها يكتشف الروائي المدينة ومجتمعها، وهل بإمكانهم ان يواجهوا قوى التدمير الكبرى، الاماكن الفضاء تثير الاسئلة، لان السؤال نفسا لا يتكون الا في التعميم. في العلن بينما الاجوبة باطنية، ومتعددة، ومن اختصاص المواقع الدالة والمعلمة.
من داخل العلية، بدأت خطوات برهان عبدالله، بالمسير باتجاه الكشف عما يحيطه من اوبئة فكرية، وتشكيل السؤال تم من الملاحظة والمعايشة، لكن تكوين الاجابة استغرق الرواية كلها، فالنص باطن ايضا، ومحلته جفور التي تفتح وعيا فيها كلها باطن ايضا. فبالأضافة الى العلية التي يطر منها على الوادي السحري وعلى الاشباح، هناك جفر المحلة، وكراها الخفية، وابوابها التي تقود الى الدراويش، ومخبئها التي تكشف عن النويات الأولى في تشكيل التنظيمات السياسية، – الزورخانة مثلا – وخلال فعل القص نجد ان المحلة تلد اشخاصا كانوا مجهولين لتقذف بهم في مسار الرواية ليؤدوا دورا صغيرا ثم يختفون، بهذه الاحتفالية العميقة يكشف الروائي ان الفعل الصياني يبدأ من الاماكن المختفية والعميقة.
واذا ما تمثلنا دور الجامع، وهو الآخر معلن ومخفي في أن واحد، نتلمس تأثيره من خلال ما يحركه في الشارع، وابتدأ الجامع ممثلا اول الامر بملازين العابدين القادري وهو يدافع عن اهالي جفور امام البوليس بأنه لا يوجد بينهم من هو شيوعي، بحجة ان لا وجود لذوي الشوارب الكثة من الكاكائيين،حتى انتهاشه بموقفه الحيادي غير المعلن بمساندة ثروة حميد نايلون، هذه النتيجة الملتصقة بالجامع، الرمز الديني، واحدة من دواخل المدينة واسرارها.
يمثل الجامع بؤرة المدينة، فهو بالاضافة الى انه مكان لتجمع الناس واداء فرائض الدين، يتحول الى بؤرة توعية، وفاعلية مباشرة مع الاحداث. سواء أكانت تلك الاحداث لصالحه ام ضده. لان تركيبة الجامع المكانية نفسها توحي بالعلو والارتفاع والقدم الديني، والسلطة المرتبطة بالله، وبقوة القول والحديث، وبقدرته على توازن المواقع بين السلطة والناس، بوصفه المكان المشترك. وخلال تاريخ
الادب نجد تأثير الجامع كبيرا. سواء برسم ما سوف يحدث او بالتعليق على ما حدث، وفي آخر الملائكة، يبدأ الجامع من الفصل الاول وحتى الفصل الاخير.أحضورا وفاعلية، وجودا مكانيا يرسم خطوط المظاهرات، ومعنى فكريا يحدد مسارات القول والممارسة، ولما تنبهت السلطات الى اهميته استدعت ملازين القادري لتحدد فاعليته الجماهيرية، ولما ضعف دور الجامع، بفعل ما تجاذبته الارادات المختلفة : السلطة والناس، اخترق الروائي حجابه الشعبي بصنع قبر لاحد الزنوج، وهو قرة قول، الذي اصبح موته قتلا في مظاهرة ضد السلطة والانجليز بمثابة منحة السماء الى المدينة، أسس الناس له فكرة الولي لتترسخ في وعيهم وفي ممارساتهم، ثم بنوا له قبرا. فرض وجوده على السلطات من خلال اتساع علاقته بالناس، مما اضطر هذه السلطات الى الحاقه بالجامع من خلال تعيين ملازين القادرق أمام الجامع قيما على القبر، ليتحول لاحقا الى مزار يفوق حضوره حضور الجامع نفسه بعدما بدأ الناس يقصدونه ويقدمون له الهدايا والعطايا. هذا التحول المكاني تحول فكري، إذ كيف يصبح القبر بما يحتويه من أسرار غامضة قوة محركة وجماهيرية، فالدين في مدن قلقة وغير مستقرة معرفيا سرعان ما يصبح قوة فاعلة تتحول العلاقة به الى علاقة ما بباطنية الناس فتصبح الأعماق – والقبور منها – أماكن صيانة لهم وتحولا في رتيهم. وهذا ما نجده في الزور خانة عندما يقترن الفعل الريا ضي – فعل الجسد – بالفكر، كلاهما يتحرر من قيودا: الجسد والفكر، فقد تحولت الزورخانة – ليس في رواية آخر الملائكة فقط، وانما في القربان " أيضا رواية غائب طعمة فرحان، الى مكان اجتماعات وتأسيس للفكر التقدمي، فالتجمع الشيوعي في المدينة هو الذي كان يسير خفاء حركة الناس في اضراباتهم وفي مطالبهم وهذا ما جعل حميد نايلون وهو يبدأ ثورته واللجوء الى الجبال ان يستشيرهم بالأمر فكان ردهم رفضا مبدئيا للأفكار الطفولية ويعني ذلك ضمنا أن الزورخانة مكان شعبي وخاصة بالمدينة أكثر استعيابا من أماكن أخرى خارج المدينة لوضع الناس وأفكارهم.
ولن تكون العين، والصندوق السحري الذي يطل من خلاله برهان عبدالله الا النافذة الغائرة في الذات الشعبية ليطل منها على مخزون الناس وأفكارهم القديمة، وعلى كل ما هو مخفي وسري في حياتهم فما كانت من هذه الأماكن الا أن تمده بكل تصور بما سوف يفعله ويقوم عليه، وكأن الأسرار الكامنة فيها لا تظهر الا لمن امتلك قدرة الفرص في أعماق المحلة ومكوناتها، ومثل الفرص لا يتأتى لأي كائن الا متى ما توافرت فيا روح النبوءة ومهمة تغيير ما حوله.. قد لا تتلاءم الأمكنة دائما مع ساكنيها فقد تتجاوز بعض الأمكنة السرية والعميقة الحياة المعاشة فيها بما فيها أشخاصها ولا تتكشف إلا لمن امتلك سرها. هكذا تكون المرافق كلما تعمقت الأماكن بوجودها، تطبت أفكارا أعمق. وهذا ما دفع فاضل العزاوي الى اعتماد شيمة الغرابة في ظهور شخصياته وأفكاره، فكلما مرت المدينة والمحلة بكارثة صعبة هيأ لها من أعماقها منفذا. وتعود بنا هذه الظاهرة الفنية الى بنية الحكاية الشعبية التي لا تترك الناس في حيرة عندما تصل الأمور الى
نقاط الحسم. فالمنقذ الصياني كامز، في عمقنا المثيولوجي، حتى ولو كنا في عصر كله تكنولوجيا. ان أشد الأمور غرابة، هي الأمور الواقعية ولكن لا يمكن معاينة الواقع بأدوات قديمة، ان فن السرد الجديد، والحديث، يمتلك آليات معرفية جديدة قادرة على البحث والكشف عما هو مستور بمرأى الواقع المياني والمعاش. والا كيف يصبح ملك الموت شخصية حية ولها اسم ملا درويش، وترافق الوفد المسافر الى بغداد لمقابلة الملك فيصل الثاني، ولا يعرفه من الوفد الا خضر موسى الموكل بادارة الوفد. وعندما يقابلهم الملك يقول له ملا درويش : ملك الموت : سنلتقي قريبا ثانية، وهي اشارة الى ما سيحل بالملك صبيحة 14 تموز 158، وبالفعل يقابل ملا درويش الملك قبيل دقائق من قتله، معلنا له نهايته أقول كيف تصبح شخصية دينية -ميثولوجية حية لو لم تكن المدينة بأعماقها الروحية مهيأة لظهور مثل هذه الشخصيات واختفائها. ومثلها الكيفية التي جاء خضر موسى بأخويه من روسيا بعد غياب أربعين عاما. وكيف نزلوا الثلاثة بمنطاد صنعته لهم المخابرات الروسية كيلا يمر بأي حدود أو قاطعي الطرق. وعندما نزلوا في كركوك نجد الوهم بوجودهم. هو الحقيقة لقد الفاهم القاص لاحقا ليركز فعله حول أفضال خضر موسى على المدينة.
إلا أن المدينة لا تبقى تحت هيمنة القوى الصيانية التي تنبثق من أعماقها منقذة إياها من قوى التدمير، وبما أن الرواية ابتدأت قوى تدميرية كبيرة وصغيرة، وساقت سر دها ببروز قواها الصيانية ذاتيا، نجد فن السرد يقودنا الى غلق الدائرة ثانية لتبرز من بين الأحداث والوقائع نفسها قوى تدميرية أخرى أكثر عنفا ودراية وفهما لما استجد في المدينة ومحلتها، ولتكون هذه المرة قوى بأيدي أجنبية ومحلية، أسهمت ليس في تدمير ما ظهر من قوى صيانية وانما في تدمير البلاد كلها.. هكذا تبدأ الرواية في بنيتها اللاحقة فنجد دمارا شاملا بقوى سوداء تعلن وجودها في مساحة المدينة، فاتحة السجون والمعتقلات، ومدمرة كل ما هو حي وقديم.. واذ يغيب الروائي شخصياته – برهان عبد الله لفترة طويلة ثم يعيده الى المدينة فيرى أن كل ما كان أصبح دمارا وخرابا، وعندما يلتقي ملا درويش، يتسلم منه دفترا، هو سجل تاريخ البشرية، ولادتها ونشوؤها ومن ثم موتها، عودة ضمنية الى فترات النمو والمحو الحضارية، وإذا بنا أمام برهان عبدالله وهو يكافح لوحده، سيلان قوى التدمير الجديدة، لتحاصره هي الأخرى بعد أن تخلى عنه دراويشه، وأصدقاؤه، ومدينته.
"ياللدرويش الماكر، لقد ترك كل شيء مفتوحا، لابد أنه احتفظ لنفسه بدفتر أخر، يتضمن تكملة القصة " كل شيء انتهى الى بياض مطبق على النفس والمدينة معا. وكأن العالم الذي خلق "فجأة " ينتهي "فجأة " وهذه هي الكلمة الوحيدة التي تركها ملا درويش مقروءة في دفتر المحو كلا، وعندما وجد برهان نفسا محاطا بقوى التدمير الجديدة، وهي تطبق عليها المكان بقتله ورأى يديه تتحولان الى جناحين هائلين، ضرب بهما الهواء فارتفع عاليا، محلقا في السماء وغاب.".
وقد لا يرمي الحل الذي لجأ اليه العزاوي بعض الثوريين، لقد أعاد أميل حبيبي بطله بعد ظهور قوى التدمير في المتشائل : أي الكهف ثانية، كهف القدس وأرض الأنبياء بانتظار اليوم الموعود، وأعاد نجيب محفوظ اسم اسماعيل في الحرا فيش مشات المرات متكررا حضورا ووجودا، وكأن الديمومة هذه تولد احساسا ما بالبقاء، كذلك فعل في عرفه.. الا أن فاضل العزاوي مايزال مشدودا الى الحس الشعبي، فبطله لا يمكن أن يدخل الأعماق فأي مهدي منتظر، يشد انظار الناس الى الأسفل – الأعماق – ولا مثل ما يقول المسيحيون عن صلب المسيح، وانه مايزال يتجول في الجلجلة، وانما جعل برهان عبدالله مسيحا بحس اسلامي، وشعبيا يحتفظ به الى يوم آخر، اذ أن كل الابطال الشعبيين لا يموتون الا خارج الحكاية.
-6-
لا تبدو الرواية عند فاضل العزاوي الا طريقة لفهم الواقع، ولكن آلية هذا الفهم هي ما يختلف بها عن غيره من الروائيين العرب، وتتركز هذه الآلية في جانبين من جوانب العملية الفنية الأسلوبية التي يعتمدها، وقد أشرنا الى بعض خصائصها في صدر هذه المقالة، وخلق الشخصيات، وهو ما نحاول توضيحا هنا. والجانبان معا يؤسسان رؤية أيديولوجية تجمع بين فن الرواية بوصفها أيديولوجية لسانية من خلال السرد، وفن القول الذاتي للروائي الذي يختفي هنا وراء مشات القائلين قبله، متبنيا ايديولوجيته من خلال احتذائه لفن هو بحد ذاته فن الايديولوجيا المعاصرة. وهذا ما نتحدث به في الفقرة الأخيرة من هذه المقالة.
والشخصيات في "آخر الملائكة " لوحدها قيمة فنية، فقد تكون بلحم ودم ومعرفة وقرابة، وتاريخ معاصر، لكنها في حقيقتها شخصيات مختلفة، جاء بها الروائي الى النص من خلال ثلاث بنى:
البنية الأولى : هي صدقها الواقعي بمعنى أن امتدادها الواقعي موجود ومعروف، لكن ما تخفيه من هذا الواقع هو ما يميزها عن سواها، فالشخوص باطنيون، ومن أولئك الذين تشبعوا بهواء الواقع ومشكلاته، ثم لما لم يجدوا سبلا لتغييره وضعوا أنفسهم داخل حلقة السؤال، وبقوا كذلك.
البنية الثانية، هي غرابة وجودها كشخصيات معاشة ولها أسماء وهنا تكفل الروائي بتأليف هذا الجانب من الشخصيات، فأزاح عنهم قشرة الوقائع اليومية، وأظهر لسانهم المختفي في الأفواه، وألفى تاريخهم العام. وانتمى الى تاريخهم الشخصي، وجعلهم يعيشون في مدينة لا تعرف الليل أو النهار، أو الضوء والظلمة، الأنا أو الآخر، وهنا بدأت هذه الشخصيات تظهر كما لو أنها نباتات خضر ومخلوقات غريبة وحقيقية تظهر وتختفي كما لو كانت ذكرى.
البنية الثالثة : فلسفية المنحى، فالروائي هيجلي التفكير، لا يرى حدثا الا من خلال جذره وأفقه اللاحق، ومثلته متحرك، ليسر هناك أي شخصية غير جدلية، كل الشخوص ضرورة، وليس هناك أي شخصية غير متنبأ بها ولا تترك الشخصية مسرحها بدون أثر. هذه الجدلية هي التي صيرت برهان عبدالله صبيا متفتحا على الواقع والغرائب معا لتحوله الى ملاك في أخر الرواية، وهي التي جاءت بملاك الموت لتصيره درويشا يعيش بين ظهرا نينا، وهي الجدلية نفسها التي ولدت من الحرب العالمية الأولى، حربا ثانية، وحروبا موضعية عدة، وهي التي وعدت حميد نايلون لأن يكون ثوريا بلا عدة نظرية، وهي التي حولت ثروات عطايا الناس الى دهاء تسري في عروق المجندين.. فا لوجود عند فاضل العزاوي ليس على الأرض وحدها، وانما في السماء كذلك والا فما معنى أن يكون للدراويش، قاطعي الزمان والمكان والمتحولين دائما في حقل الغياب مستمرين منذ الخليقة الى اليوم، يتجولون ولا يكتشفون سرهم إلا لمن يدخل في حوزتهم كبرهان عبدالله.
تجتمع البنى الثلاث في تكوين أي شخصية حتى ولو كان دورها صغيرا لأن الرواية كلها تقع هيمنة هذه البنى، فليس في الرواية شخصية مرهوبة الجانب أو ذات سلطة آتية اليها من منصب أو جاه، حتى الملك لم يكن شخصا في السرد وليس في الرواية أي شخصية مناضلة دخلت بيت الرواية وهي ترتدي ثوب الأيديولوجيا، سواء أكانت هذه الشخصية شيوعية أم قومية أم دينية، وليس في الرواية أي شخصية لمستعمر أو وطني معلن، ثائر أو متخاذل، جاسوس أو شيوعي كبير. ولذلك تجد الروائي وهو يبني بيته الفني اعتمد على نمط من الشخصيات يؤمن بكل المؤثرات : غيبيات كانت ام ماديات ووعيها يتشكل من الممارسة، وليس لديها تصور مسبق عما سوف يحدث.
ولو دققنا في هوية الشخصيات لوجدناها ثلاثا :
شيوخ مجربون دخلوها بعد أن اكتملت عدتهم في الغرائب وأغلبهم آتون من المثيولوجيا والتراث، وكونوا هؤلاء أساسا جعل الروائي من بعض الشخصيات تحذو حذوهم : شخصية قرة قول بعد وفاته، وشخصية برهان عبدالله الذي أصبح أحدهم بعد أن تقدم العمر به وبعد أن عمت المدينة أفكار الخراب والتدمير. وشباب المدينة ومحلتها، وجل هؤلاء لا ملامح واضحة لهم، وظيفتهم يملأ ون الشوارع ساعة يريدهم الروائي. لا دور فاعلا لهم وخاصة النساء منهم لا يوجدون الا بوجود الحدث. زوجة حميد نايلون مثلا، أو زوجة قرة قول، فلسانهم مشدود الى غيرهم.
ونماذج اكتملت داخل الرواية بعدما ابتدأت خارجها فألبسهم الروائي لبوسا مهما، ليتحولوا الى صوت فاعل، منهم خضر موسى، الراعي الذي جاب البوادي والمدن، فاغتنى، جاءت الرواية بعد أن تحددت ملامحه وسماته، فهو رسول الرعي الى المدينة، فاحتل موقعا وسطا بين السلطة والناس، وكان وسيطا ذد جاه، اكتسبه بفعلته عندما جلب أخويه من روسيا بالمنطاد وكان لغة هادئة بين لغات متحاربة، ومنهم الحاج أده، الشاعر المهمل، وربيب الذكرى ونشد ان الماضي، فحوله الروائي الى صوت التراث في المدينة المتطلعة، ومنهم الشباب الشيوعي الذين كانوا يجتمعون في زورخانة المدينة وسراديبها ثم ليختفوا ثانية في السجون والمعتقلات بعد أن عم فعل التدمير المدينة وما جاورها.
ويعتمد فاضل العزاوي بنية لاواعية في اختيار محاور شخوصه، وهي البنية الثلاثية : فنجد شخوصه يتوزعون بين :
1- الهوية الدينية : وممثلها ملازين العابدين القادري، ويدور حولها شخوص عدة، أبرزهم قرة قول أو الشيوخ.
2- الهوية السياسية، ومثلها حميد نايلون ويدور حولها جمع متنوع يمينا ويسارا ووسطا خضر موسى والشباب الشيوعي.
3- الهوية الفردانية، ويمثلها برهان عبدالله.. ويدور معها وحولها جمع آخر منهم ملا درويش.
والهويات الثلاث ليست محددة بالكامل، فهناك تداخل بينها مما يمنحها حرية في الحركة والتغيير، لكن النمط الثلاثي هو السائد في تركيبة هذه الشخوص. ولا نعدم أهمية هذه البنية في جوانب أخرى من الرواية منها، ان فصول الرواية اثنا عشر فصلا، وهو عدد ثلاثي أيضا، ومنها أن العهود التي مرت بها الرواية ثلاثة، ومنها أن القوى الخارجية الضاغطة ثلاث، هي السلطات الحكومية، والسلطة الدينية، والسلطة الانجليزية المملثة بشركات النفط، ونلاحظ أيضا أن كل شخصية قد مرت بثلاث مراحل من تكوين الوعي :
حميد نايلون من عامل في شركة النفط، الى مفصول منها، ثم الى قائد ثورة..حميد موسى. من راع الى منقذ لاخوته تاركا الرعي، وسيطا بين الدولة والناس، الى انحياز الى الثورة.
ملا زين القادري، من أمام جامع، الى قيم على قبر قرة قول الى رجل مجنون قتلته هواجسه عدمية الجسد.
برهان عبدالله، من صبي متطلع كثير السؤال الى فاعل يكتشف ما تحت سطح البنية الاجتماعية السائدة الى مؤد لج لصور المدينة في الغد، ثم غيابه في فضاء زمني بعد تحوله الى ملاك.
ملا درويش، الرجل المبهم، من ملك الموت الذي لديه سجل الأحياء والأصوات الى انسان عادي يشارك المدينة أفعالها، ولا يحيق بالناس المحن يترك سجله أمانة بيد برهان عبدالله، مختفيا مخلفا صفحات بيضاء تتقدمها كلمة "فجأة " وكأن غيابه بداية لمدينة جديدة..
إن رؤية فاضل العزاوي للشخصية الروائية لا تتركب من عناصر قارة ومعلنة، ان عناصرها تتشكل خلال التجربة تاركا للحظات العفوية – كأي شاعر – ان تمارس دورها في انبثاق شخصية ما أو في تغيير مسارها، وهذه الطريقة الفنية تبعده كليا عن اختيار شخصيات نماذج للأفكار، أو للفئات، أو شخصيات منبثقة عن المؤلف مستعيرة صوته، أو شخصيات جاءت للرواية من خلال دورها الاجتماعي أو الفكري، فالشخصية عنده ليست وعاء لأي شيء خارج حدث الرواية الذي يتشكر هو الآخر بطريقة آنية، وهذا ما يمنح شخوصه حرية الوجود، وطاقة تعبيرية عما هو معروف وغير معروف، مانحا لها قدرة التحول والتبدل والتجديد، حتى تلك الشخصيات المحملة بالايديولوجيا ترك لها حرية التشكل والتبدل معلنا ضمنا أن لا شخصية مستقرة وذات توجه ثابت. فالشخصية قادرة بهذه الطريقة على استيعاب ما يحدث، وفي الوقت نفسه تقف على مسافة مما يحدث لتؤسس لنفسها أفقها الخاص وغالبا ما نجد التاريخ الشخصي أو العام بشكل عامل ضغط على تغيير أو تبديل مواقف تلك الشخصيات ومن خلال مجموع سمات هؤلاء الناس يؤلف العزاوي مدينته الروائية وبيوتها ومحلاتها ويضعهما في مرحلة زمنية تستنطق لسانهم أيضا، وتفرض على وجوههم سماتها وملامحها ولغتها وطرق سردها فكما ان الشكل الروائي لا يكتمل حتى داخل النص نفسه، كذلك هي شخصياته، لا تكتمل حتى ولو كان كل تاريخها الشخصي معلوما. ان عدم الاكتمال هذا يجعلنا نفكر مع العزاوي أن الشخصيات ليست دعاة لفكرة وهي صوت اجتماعي دال على فئة أو حزب،كما أنها ليست نكرات أتت ببيت الرواية من العدم، وانما هي الجزء المختفي من وجوهنا العلنية، والكامن خلف ترسبات الواقع وأحداثه، وهذا وحده ما يجعل فن الرواية عند العزاوي طريقة أيديولوجية.
-7-
بما أن الرواية نص،تقول جوليا كرستينا، فهي، ممارسة سيميائية يمكن أن نقرأ فيها مسارات مركبة لملفوظات عدة. والملفوظ عملية وحركة تربط و- تشكل – ما يمكن أن نسميه ببراهين العملية – كلمات أو متواليات من الكلمات"(4)، وبالضرورة فإن هذه الملفوظات لا تكون في مستوى واحد من الأداء والفعل والتفكير، فهي تخضع الى مفهوم التجاور والتبادل التي تنشيء مبدأ الحركة والترابط كما هو مفهومها في المادية الجدلية "علة الشيء ارتباطه " وبما أن النص الروائي يحتوي على عدد كبير من الخطابات متمظهرة في تلك الملفوظات فإن أي تجاور بينها أو تباعد أو اختلاف هو بالضرورة موقف ايديولوجي، حتى لو أخذنا تلك العلاقة البنيوية بين الكلام واللغة، وقد لا تظهر هذه العلاقة على شكلها الجدلي اوان اللغة وعاء لتلك الحياة. أما اذا طرحنا مفهوم تلك العلاقة بين الملفوظات والمجتمع مثلا نجد أن هذه الملفوظات تكشف عن بنية أيديولوجية شاملة يتسع لها بيت الرواية دون سواه.
"آخر الملائكة " مليئة بالملفوظات المركبة، بمعنى أنها مليئة بعدد من الخطابات وان هذه الخطابات ليست بنت رؤية المؤلف وحده، وانما هي نتاج مجتمع عريق ومتعدد. وبغض النظر عن تلك الأراء التي تجرد الموقف الأيديولوجي عن كاتبه، نقول : إن أيديولوجية العزاوي في هذا النص هي تقويم المستويات المتعددة للخطابات الاجتماعية والسياسية والأسلوبية ضمن تلك الفترة وهي خطابات ومن خلال النص فقط – نجدها تتجاوز مرحلتها، لتعلن لنا طريقة فنية في رؤية الواقع مختلفة عن الطرق الفنية السابقة التي عولج بها الواقع نفسه، ومن هنا تصبح الكتابة الفنية ايديولوجيا، بعدما كانت الايديولوجيا مفهوما مقتصرا على الممارسة السياسية والاجتماعية.
والطريقة الفنية المعنية هنا هي الوعي بالممكن المتاح من الممارسات والقيم والافكار لتكوين رؤية كلية العالم. ان االممكن في هذه الرواية هو ما ساد مجتمع مدينة شبه أمي، وغير مثقف، سكب الارادة والعقل، تقوده نوازع شخصية وتسيرا ارادات خارجية قوية ترسم له مصيره دون وعي منه، وتقوده ارادات داخلية، دينية وسلطوية مستغلة موقعه ضمن حدود سلطتها واداتها وان هذا الجماعة من الناس لا – تعامل مع الحدث الا متى ما وصل الحدث الى مرحلة الاعلان عن أبعاده لذلك تجد الناس تتفجر يقظة أو سكونا في الدرجة نفسها من الخماس، وهذا ما يفسر لنا أن المجتمع الذي اختارا الروائي يعيش تحت وطأة فاعلين القوى الغيبية والقوى الاجتماعية المتسلطة معا.
ان المؤلف لا يسعى لاجبار شخوصه أن تنبني ايديولوجيا فهو بقي طوال السرد خارج اي ايديولوجية الا ايديولوجية التأليف، أي الخطاب الجماعي المؤلف من خطابات الشخوص أما خطاب كل شخصية مفردة فبقي معبرا عن هوية تلك الشخصية، ولهذا فان المؤلف لا ينتمي لنصه ايديولوجيا، وانما ينتمي لجماعية الايديولوجيا التي انتمت اليها الشخوص،وهذه ايديولوجية عبر ذاتها. وتؤكد جوليا كرستينا على أهمية التعارض في الخطابات الروائية داخل النص الروائي الواحد. ان مبدأ التعارض نفسه يؤكد :" اللاانفصال " واللاانفصال يعني سرديا، "تضامن الخصوم " من أجل تأليف سياق عام للخطاب الروائي وما دور المؤلف الا ان يرصد هذا التضامن كي يكشف بوساطته عن العمق الاجتماعي والفكري الذي يفلق سياقات تلك المرحلة. ان تكوين برهان عبدالله من خلال ملفوظه الخاص يشكل ايديولوجية محددة علاماتها هو الانتماء الكلي لما يحدث ولكن بالامكان الانفصال عنه في الوقت نفسه، ومحور هذا الانتماء هو مركزية الذات. وبالمقابل تكون ايديولوجية حميد نايلون هي الانفصال المتدرج عما يحيطه كي يشكل لنفسه وللمجموع نواة تعيد التوازن لهذا المحيط. وايديولوجية ملا زين القادري، هي البقاء ضمن السطح الاجتماعي للظاهرة ومحاولة مركزة ما يحيط به، وايديولوجية خضر موسى، هي المرور السليم بين كل المواقع الشائكة محاولة منه البحث عما هو مشترك.. وهكذا بقية الشخوص.
ان التجاور في ملفوظ هذه الخطابات الايديولوجية هو ايديولوجية المؤلف. الذي جعل من اللاانفصال فيما بينهم قضية للتضامن من أجل انتاج سرد متنوع مشترك في تأليفه الراوي والمروق له فهي دراما لمنتوجهما الفكري معا.
المصادر
ا – بنية النص السردي ص 46، د حميد الحميداني. منشورات المركز الثقافي العربي 1993م.
2- م.ن ص 48.
3- آخر الملائكة ص127.
4- علم النص. ص 22 جوليا كرستيفا. ترجمة فريد الزاهي – دار توبقال، 1991م.
5 – م. ن ص 31.
ياسين النصير(كاتب من العراق)