في لحظات تمنع النثر والأشعار، يداهمني من حين الى حين حنين لاذع الى ورق الكتابة الذي طالما أدمنته في الثمانينات وبداية التسعينات، فتستيقظ بداخلي رواسب تلك العلاقة الورقية ببصماتها ووخزاتها النابضة. كان ورقا نهما ذا مغناطيسية يتعذر سبرها، ورقا طيعا متواطئا.. ذلك الورق الرمادي الذي لم يكن برمادي في حقيقة الأمر. كنت أخاله كذلك من الداخل، داخل عزلة الكتابة والعيش، كان محفزي على المضي "بمالك الحزين " الى ابعد مدى، كما كان في الآن نفسه الملعب الامثل لتناسل مغامرة نص "مقبرة اليهود" ذلك النص الذي لم يكن سوى استنطاق للرماد الذي منه حلقت واليه أعود: طوبى لثمار ذلك التواطؤ طوبى لدقائق مباهجه الحسية الطينة.
طوبى للفتوحات والتوترات الحبرية المنهكة التي عانقته في دارتي القديمة دارة بديع الرمادي. في هذه اللحظة بالذات أحمر برغبة عارمة في الامساك بصفحة فارغة واحدة من صفحات ذلك الورق، في امرار راحة الكف عليها بنعومة وتمهل، في جس نبض النتيئات الدقيقة على سطحها الأملس جسا ملتاعا بأنامل كلها تحسس وحدس أريد صفحة، ورقة من تلك الورقات بين يدي أسكب عليها حمى الريق الناشف على الورق الناشف اسكب بعض."شكاوى الملاح الفصيح "، تلك التي لم يسعفني أي حبر حتى اليوم بتحنيش سطورها سأصبها على عجل وبنبرة لا حد لوداعتها. وايلامها، نبرة تذيب شعيرات الورق ومسامه الحساسة وتؤرق خيول الاسطر في الصفحة أرغب في اللقاء فورا بورقي المتقشف ذلك الذي لم يكن غير ورق الجرائد العادي.. أجل ورق الجرائد.. لا أعده بأي فتح جديد إنما بالعكس أعده، بإعادة تبييض المساحات البيضاء حاملا إياها على التنكر في نفس الأزياء البالية. سأرمم اقنعتي وأسئلتي وأزج بلغاتي في أدوار بهلوانية متقشفة متبرجة وقحة متسكعة على فضاء ذلك الورق الألوف. لكم أغري انزياحاتي بسفوحه ومتاهاته، ذلك الورق المتفهم الرؤوم طالما كنت اشعر به امتدادا لصفحات الداخل الحبيسة وهي تتشوف الى ان تنكتب بلغات اكثر قوة وطزاجة كل مرة، لغات الذات العميقة المكتفية بالتفرج على ألعاب الكاتب المرآوي النافد الصبر. ذلك الورق الذي كنت آخذ منه ما يكفيني من مكتب الجريدة بالرباط الى زاوية باب البحر وأظل بصحبته شهورا استنفده ويستنفدني حتى لا يبقى منا شيء. كل يوم كنت أجلس الى طاولة الكتابة تلبية لنداء غامض، هو نداء الورق لا نداء الكتابة، لم أكن بحاجة الى منشطات ولا الى انشحان ولا حتى الى مخاض، كان حسبي أن افتح النافذة وأنا أرى وجه الصفحة القمحي اللذيذ منعكسا في مرآة الرغبة على سطح الطاولة حتى أتنسم العبير الأكيد لشعر قادم.. وسواء فتحت النافذة بالفعل أم لم افتحها إلا رمزيا هنالك في غرفة بديع الرماد فان الرمادي المحوم دوما على علية المكان مع البحر في نهاية المشهد المكلل بالوعود هو الذي كان يقتحم علي عزلتي داعيا اياي الى الانغماس في حضرة الكتابة.. بخفة تتسابق المطالع على صدر الصفحة مقودة بحماس قلم جياش مستسلم للانزلاقات المحببة على فضاء الورق الأملس.. يتضافر مفعول الرشفات المتأنية للشاي الأسود المركز مع الطقس الحميم المرهف، أحس بقوة دفقات الكتابة وانسيابها، بطزاجتها المنسكبة عبر حركة انسياب الحبر الرنانة على مساحات الرمادي المتواطئ وهو يستقبل حيوات جديدة مشتقة من موج داخلي. استمرئ إنسيابات الحبر ملتذا بالصفحات وهي تمتلئ بعوالم لم تكن في الحسبان.. أرسم مسارات وأبدل أخرى.. أشطب وأرتب مغمورا بفيض هذا الانسياب الذي نتحول فيه جميعا: ورقا وقلما وذاتا إلى أدوات، مجرد أدوات في لعبة غامضة.
هذا الورق الذي أستعيد لحظاتي الدافئة بصحبته هنا والآن من زاوية عالية في شارع الامام الاصيلي، هو الذي رباني، لقد أخضعني وأخضعته هو بدوره لاختبارات عميقة دقيقة ظفر منها كلانا بتعرف أفضل على ذاته، ويتقاسم "محاولة عيش "، دامت أكثر من عشر سنوات، وذات يوم، وكما كان متوقعا، انسحب رفيقي من فضائنا المشترك، بهدوء انفض ميثاقنا الأليف.. كنا قد جنينا كل الثمار الممكنة في علاقة من هذا الطراز، دبت الرتابة والضيف وبدت كتاباتي كما لو كانت تطالب بملعب ورقي جديد ينقذها من سجنها الرمادي.. ترهلت "مقبرة اليهود"، أنهكها اللف والدوران حول التوالدات عينها. أما "مالك الحزين " فقد اختار بطبعه الماكر الاقعاء في واحدة من أكثر مرايا المخيلة التباسا يراك ولا تراه، يراقب المشهد من وراء الورق الشاحب منتظرا سنوح فرصة استئناف حفله التنكري، بيد أن الفرصة لم تسنح بعد، أو لربما فاتت. وهكذا عدت مرغما الى البياض الاول، فاترا عدت، لا المزاج طاوعني ولا البياض أغراني.. كان علي أن أعاود استنطاق ذلك الشسوع المحايد الذي هو عليك أكثر مما هو لك، أن أعود الى ذلك البياض البغيض المحبط العاري.. أصيب منبع القول الشعري بنضوب استمر شهورا لذت أثناءها ببعض التمارين الفاترة في ترجمة الشعر بقصد التروض وتليين جليد البياض.. ولما لم أفلح في استثارة القريحة حولت الداء الى دواء، قلت للقريحة: ألا هبي بعقمك أخصبينا.. وكذلك كان.. جعل البياض يتفتق عن شهاب ومرافئ وسراديب مدهشة، استنطقه فيجيب ويستولد بدوره الأسئلة وأعاجيب الدوال.. وهكذا طوعت "كينونته " المتمنعة لفتوحات حبرية لم تكف حتى الساعة عن التناسل والتعاقب.