يحمل منير بشير عوده ويمضي متنقلا بين مدن العالم في رحلة شاقة للتعريف بالوجه المشرق من تراثنا الموسيقي ، فمن نجاح منقطع النظير في “الكندي سينتر” الى الاحتفاء الكبير به في امستردام وبين هذا وذاك تقع محطات هامة من رحلة منير بشير التي امتدت لعقود طويلة ، خلالها كان يبحث دائما عن الجاد ويعلن حربا شرسة على كل ما هو مبتذل ورخيص في موسيقانا المعاصرة لذلك فهو صريح وجارح احيانا في تشخيص الداء الذي اصاب الموسيقى العربية فهو يلقي عليك مجموعة من الاسئلة المفاجئة ولا يدع لك مجالا كي تلتقط انقاسك فيقول لك اذا كان عدوية وشكوكو معروفين في كل العالم العربي ومنتشرين انتشار ام كلثوم واسمهان فما هو معيار النجاح والرقي وما الذي يجمع بين موسيقى بتهوفن وموسيقى الديسكو لذلك تسيطر على منير بشير فكرة تأسيس وخلق جيل موسيقي جديد يطلع من الاجواء الموبوءة السائدة في عالمنا العربي في نفس الوقت الذي يسعى لتعليم الناس فن الاصغاء شأنه في ذلك شأن الصوفيين حينما يستثير أقصى درجة للاستماع والادراك لدى المستمع لذلك فمنير بشير ليس عازفا مبدعا فحسب بل هو مفكر حضاري يضرب بأفكاره اوتار عوده في أغرار التاريخ الفني والحضاري لبلاده وامته ليميط اللثام عن جذور الموسيقى العالمية واصول العديد من الآلات الموسيقية التي بدأت رحلة التاريخ وعبر القارات انطلاقا من بلاد الرافدين .
لذلك وانطلاقا من حرصنا على معرفة المزيد من آرا، منير بشير في الموسيقى العربية والحلول التي يدعو لها للخروج هن جو الرداءة الحال كان لنا معه هذا الحوار .
– بعد هذه الرحلة الطويلة مع ا لموسيقى العربية ، التي تكاد تكون أشبه بمعركة بائسة في جو الرداءة المستشري حاليا ، والسؤال هنا اين يجد منير بشير نفسه ؟
* في جو الرداءة الذي وصفته يجد الفنان الحقيقي نفسه في معركة مع الرداءة والتفاهة التي تفزر الاغنية والموسيقى العربية الواهنة هذه الاغنية التي يطلق عليها الاغنية الخفيفة في حقيقة الأمر ما هي الا فقاعات لا تدوم وليس لها اي مغزى ثقافي وتهدف لتخريب التذوق السمعي لدى الانسان العربي ، لذلك فاني اقول بدون تربية موسيقية لا يمكننا ان نخلق شيئا . والتي هي ليست حكرا على المدرسة فقط بل يجب ان تكون عملية شمولية ضمن خطة تهدف لتطوير قدرتنا على التذوق الموسيقي تمهيدا لتطوير ثقافة موسيقية تسهم في احداث التواصل المطلوب بين حاضرنا وتراثنا الموسيقي العظيم الذي أسس له عباقرة مثل الفارابي والكندي وابن سينا وزرياب .
لذلك فالمعركة التي نخوضها مع كل ما هو هابط في الموسيقى العربية هي معركة لن تتوقف طالما بقيت اصابعي مشدودة على اوتار عودي ، من هنا فانا لا اتوقف عند حد في تطوير قدراتي المعرفية صعودا بشجرة حياتي الى القمة ، هذه الشجرة الضاربة جذورها بالتراث صعودا بجذعها الذي يمثل بالنسبة لي الثقافة الموسيقية الانسانية المتفرعة الى موسيقى آسيوية وهندية وموسيقى أوروبية خصوصا الموسيقى الاسبانية المتأثرة بشكل كبير بالموسيقى العربية .
هذه المعرفة الموسيقية العالمية جعلتها في خد~ التراث لذلك فانا اعزف بعودي موسيقى بيزنطية وهندية واسبانية وموسيقى الجاز ، اعزف موسيقى عالمية كلاسيكية وشعبية وكل هذه المعرفة الموسيقية في خدمة مشروعي الموسيقي الذي اول ما يهدف الى تحرير الاذن العربية من سطوة الاغنية التافهة والموسيقى الرخيصة والتهريج والتطبيل والتزمير .
– منير بشير يجد نفسه بعد هذه الرحلة الطويلة قد وصل الى القمة اذن وماذا بعد ؟
* عندما شعرت بأن شجرة حياتي قد وصلت الى القمة راودني شعور معاكس بانني اعود الى مرحلة الصفر انني اريد ان اجدد نفسي باستمرار، القمة بالنسبة لي حالة يجب تجاوزها انني ابحث عن الحرية لذلك فانني كل يوم أرى شيئا جديدا احاول ان ابدع شيئا جديدا وهذه الرغبة العارمة بالحرية قادتني الى البحث في ثقافات الشعوب وصلت حتى الى ثقافة الهنود الحمر ودرست موسيقاهم ، الشجرة التي اتحدث عنها لا نهاية لها ، لذلك كم اشعر اليوم بانني بحاجة الى محاكاة والتفاعل مع العقل المنتج للثقافة الموسيقية في مختلف انحاء العالم كل ذلك خلق لدي شعورا "انني انا الحرية" الحرية التي تجعلني اعيش في ذوات الآخرين دون ان يفرض علي مزاج المتلقي ، ومن خلال الموسيقى اصل الى الحرية التي اتجاوز فيها نفسي بحيث افقد وجودي واصحو الى الحالة الطبيعية البيئية التي توصلني الى خلق القطعة الموسيقية التي هي نتاج حالة صوفية تدعونا الى التأمل في وجودنا .
وهذه الموسيقى التي ادعو لها مع الاسف الشديد لم تنل قيمة نشرية في العالم الآن . ولكن ما يسعدني خلال هذه الحقبة المظلمة بالذات انني احمل عودي من بغداد العالم حاملا مشعلا بنقل اشعاع حضاري يمتد بجذوته الى آلاف السنين والفنان غير المرتبط ارتباطا عضويا في تربته وتراث ووجدان امته يصبح تائها في المحيطات .
– اذن انت تدعو الى ارتباط الفنان بتراثه والى احداث نهضة موسيقية على الصعيد العملي . ما هو دور الفنان والموسيقي اليوم في هذه النهضة المطلوبة ؟ هل يبدأ ببعث التراث الموسيقي ام يقوم بالتجرؤ على تطويره وحسب أية معايير ؟
* عندما اتحدث عن التراث لا أقصد ان ندخل في قوقعة وانا اعتقد بأن التراث تقدمي الى الابد اذا ما احسنا التعامل معه فالمسألة كلها تعتمد على طريقة تناولنا للتراث وللاختيارات التي نختارها من التراث فالتراث حاضر فينا ، وليس هناك تراث قديم وتراث جديد هناك الانسان . انت عمرك آلاف السنين ومن الظلم التعامل مع تراثنا العظيم على انه شيء متخلف ومنحط وزائل هذه النظريات متخلفة ورجعية خارج التاريخ لانك اذا حاولت قتل التراث فانك تقتل التاريخ .
والتراث هو ثمرة عمل جماعي وتراكم الاجيال والتجارب رمهما كنت عبقريا تبقى انت فرد بينما يختزن التراث تجارب الامة .
اننا مطالبون اليوم قبل كل شيء ان نعيد الثقة الى الذات العربية ونعيد احترام فنوننا وتراثنا : كما تفعل كل شعوب الارض فمثلا اليابان لا تزال تختزن “مسرح الكابوكي" الذي يزيد عمره على (300) عام رغم ذلك لم يغيروا اي شيء على هذا المسرح رغم كل التطور التكنولوجي الذي حققته اليابان وحتى اليوم لا يزال الرجل يمثل دور المرأة في مسرح الكابوكي وهذا التقليد منذ (300) سنة هل يعني هذا ان اليابان دولة متخلفة.
المانيا لا ترمي بتهوفن او باخ ان الامم تحتفي بتراثها الا امتنا العربية للاسف الشديد التي غزاها التشويش الاستعماري الذي امتد لمئات السنين مما اثر على شخصيتها وجعلها مسارات ضائعة تائهة .
_ برأي منير بشير هل يمكن اعادة التواصل الى العصر الذهبي للموسيقى العربية ؟ وما هي اسباب القطيعة مع ذاك العصر واين تكمن اسباب الانحطاط ؟
* الحضارات مهما تعرضت للكوارث لا تموت نحن الآن في العراق نعيد بناء بابل مع العلم ان حضارة بابل عمرها اكثر من اربعة آلاف سنة .
والموسيقى العربية ضاربة في اعماق التاريخ فمثلا في العصر العباسي كان الفارابي حكيما وفلكيا وفيلسوفا وموسيقيا عظيما عندما كان يبكي ويضحك مستمعيه الفارابي نفسه قال ان حكمته اكتملت في الموسيقى واليوم يتحدثون عن آخر صيحات الطب وهو العلاج بالموسيقى .. الفارابي سبقهم بأكثر من ألف عام عندما كان يعالج المرضى بالموسيقى والابداعات التي ادخلها الفارابي والرازي وغيرهما من عبا قرتنا على الموسيقى معروفة ويقف الواحد منا عاجزا عن وصف عظمتها نحن لسنا مطالبين باعادة تكرار نفس اللحظة الماضية ، هذا ليس ما ادعو اليه فالتواصل المطلوب هو تواصل من لحظتنا الواهنة التواصل مع “الآنا” و:عادة الثقة بتراثنا واحترام ما انجزه عبا قرتنا وان نتعلم روح الانتصار ، روح احترام الابداع الذي كان يتحلى به العباقرة الذين صنعوا هو سيقانا العربية وهل يجوز احتقار الماضي العظيم هذا بحجة “المعاصرة “ ودعاة المعا هوة نفسهم لا يفهمون ما هي المعا هوة هل ما نسمعه من اغان هابطة ، رخيصة هو معاصرة ، فالموسيقي اذا لم ترتبط بذاكرة الناس واذا لم توزع حسب اصنافها في مجتمعها تبقى خطرا لانه يجب أن تصنف الموسيقى حسب وضعها البيئوي والاجتماعي من الرفيه الى اليدوية من الشعبية الى الكلاسيكية والامة العربية اكثر الامم لديها كلاسيكية في الموسيقى لان عندهم آلات موسيقية مبدعة فإذا ذهبت الى العراق وفيه كل الاديان السماوية وقعت على غنى التراث الموسيقي وتنوعه منذ آلاف السنين.
وفي حقيقة الامر نحن العرب تعرضنا لنوع من التخلف نتيجة الاحتلال الاجنبي الذي ادى بنا للضياع لمئات السنين منذ عصور الانحطاط كل ذلك ادى الى قطيعة مع تراثنا الموسيقي الذي تجد آثاره في كل المتاحف الاوروبية من حضارات بابلية ، سومرية ، أشورية ، فينيقية ، اكادية .، سريانية ، عربية ، عربية اسلامية . والمطلوب منا قبل كل شيء لاعادة التواصل مع هذا التراث العظيم واعادة بعثه من جديد هو اعادة الثقة "للأنا العربية قبل كل شيء".
– لا شك ان الاعلام له دور هام في نشر الثقافة الموسيقية فما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الاعلام في بعث التراث الموسيقي ونشر الثقافة الموسيقية اليوم ؟
* أول ما يلفت الانتباه في قضية الاعلام والموسيقى بأنه قلما نجد متخصصين في الاعلام الموسيقي والمسألة في كثير من الاحيان تترك للصدفة او لمزاج المسؤول عن الاستماع الموسيقي بحيث يكاد ينعدم التخطيط المنهجي للاستماع للموسيقى والغناء حسب ساعات اليوم الواحد فمثلا موسيقى يفترض انها موسيقى تصلح لل ستماع في الصباح يتم بثها في المساء والعكس صحيح .
فالمفروض ان يكون هناك “هيئة فنية تضع خططا ودراسات لتنظيم هذه العملية واعادة النظر في عملية الاعلام الموسيقي برمته مما يؤدي الى تطوير التذوق الحسي والسماعي لدى المجتمع العربي في كل مكان وهذا على المدى الطويل اما في المدى المنظور فمطلوب اعداد خطط مرحلية تعالج الواقع الذي نعيش فيه بحيث يتم تشكيل لجان استشارية تتابع تنفيذ القرارات التي عادة ما تذهب الى سلة المهملات بسبب الجهل والبيروقراطية في اجهزتنا الاعلامية .
والاهم من كل ذلك هو اعداد دراسة وافية لحل هذه المعضلة يشترك فيها الى جانب الموسيقى عالم في الجغرافيا وعالم في التاريخ وعالم في الآداب والشعر وعالم في الدين وعالم في علم الاجتماع والبيئة هؤلاء كلهم يشكلون فريق بحث تتم من خلاله دراسة الحالة التي نحن فيها ويقدمون مشورتهم للمسؤولين ويعكس ذلك سوف لا يكون هناك مستقبل للموسيقى العربية وسنبقى اسرى للموسيقى المنحطة المبتذلة التي نسمعها كل يوم وتصم أذاننا والتي ادخلت قصرا وطوعا الى مجتمعاتنا بحجة الشبابية والمعاصرة والتبادل الحضاري .
– اذن كيف تصف لنا واقع الموسيقى العربية اليوم؟ وكيف تنظر كمؤلف موسيقي الى ما ينتجه الملحنون العرب الآن؟
* الحالة الموسيقية في العالم العربي اليوم حالة مأساوية والساحة الموسيقية العربية حافلة بالادعاء والاحقاد الشخصية والمعارك الصغيرة وفقدان المزاج الجميل وآداب الاصغاء الذي سبق ان نبه اليه قبل ألف عام الامام الغزالي حينما وضع قوانين للاصغاء.
ما يسمى بالموسيقى اليوم اشبه بحالة من الهيستيريا والهرج والتطبيل والتزمير والتصفير موسيقى عابثة تسمع من الارجل وليس لها اي قيمة اخلاقية او حضارية ولا علاقة لها بتراثنا ماذا نقول عن اغاني أحمد عدوية او شكوكو ورغم ذلك فانهما معروفان تقريبا في كل بيت عربي .
طبعا هذا الانحطاط الموسيقي الذي نحن فيه اليوم لم يأت صدفة او عبثا انما جاء نتيجة تخطيط منذ عشرات السنين لتدمير الحس والذوق والاخلاق بحيث اصبحت الموسيقى العربية في نوعها الغنائي الراهن “خلطة “ عجيبة غير متجانسة من الوان عدة واشكال مختلفة لا يمكن ان نقول انها تعود لهذا البلد او ذاك ، دون المذاق العربي فالأغنية العربية اليوم بكل اختصار لا تاريخ لها ولا لون ولا ذوق والجمهور الذي يقبل بكل شي ء رخيص هو جمهور متخلف يسعد بكل شيء يتلاعب بحسه ، اما الملحن العربي فهو ابن الصدفة ويحاول ان يقلد الملحن الغربي رغم اننا نمتلك اشكالنا الموسيقية المتعارف عليها عالميا ولكننا نهملها فمن يلحن اليوم الموشح ؟! وهناك مثلا الملحون المغربي والمقام المغربي والمألوف التونسي والدور المصري والموال اللبناني ولكننا رغم ذلك لا ننتج حاليا الا الاغنيات الرديئة بحجة مواكبة العصر واغنيات الشباب والاغنية الخفيفة وما يشابه هذه التسميات التي تصنع مطربا او مطربة خلال “24" ساعة .
– ولكن الا تعتقد معي ان الاغنية الرائجة هي ما يطلق عليها الشبابية ؟
* هذا قد يكون صحيحا في اغلب الاحيان ولكنه لا يمكن ان يكون في كل الاحيان ، هناك فئات عديدة تمقت هذه الاغنيات في المجتمع العربي وتفضل عليها القدود والموشحات ، والجمهور المثقف يرمي الملحن او المغني الفاشل في “الزبالة “
وفي النهاية المسألة كلها متعلقة بالتربية الموسيقية وبالحالة الوجدانية للامة لان رواج نوع معين من الثقافة الهابطة سواء كان ذلك في الموسيقى او الآداب انما يعود للوضع المزري الذي تعيشه امتنا العربية ، فهل يعقل ان الموسيقى اليوم لا يفهم الشعر والشاعر لا يفهم الموسيقي والمسرحي لا يفهم الآداب .
انا اتحدث بهذه الصراحة التي تخلق لي احيانا كثيرا من المشاكل لانني انتمي الى العائلة العربية التي احرص على مستقبلها ومستقبلها يكمن في وحدتها فهل يعقل ان بلدانا اوروبية مختلفة القوميات تتوحد ونحن العرب نبتعد عن بعضنا البعض ونتمزق . هل هي عقدتنا نحن العرب الاتجاه الأجنبي وبالخصوص الغربي، انهم يحاصرون حتى أوتار عودي ويحاصرون ورق المجلات والكتب هل تعلم باننا توقفنا عن اصدار مجلات “القيثارة “ و ”موسيقى الطفل" و”الموسيقى العربية “ التي كنت اصدرها واترأس تحريرها.
ربحي شتات (كاتب فلسطيني يقيم في امستردام)