محمد شعير
التقيت الدكتور جابر عصفور للمرة الأولى عام 1998، كنت قد بدأت تغطية أنشطة المجلس الأعلى للثقافة لصالح جريدة «أخبار الأدب». في اللقاء الأول سألني عصفور: لمن تقرأ؟
وكأن طريقته في المعرفة لا تمر إلا بمعرفة قراءات من أمامه، وكأن شعاره «قل لي لمن تقرأ أقل لك من أنت؟». سردت أسماء عديدة من الشرق والغرب، قائمة تبدأ بنجيب محفوظ ولا تنتهي بجيل الستينيات، فضلا عن العديد من الكتّاب العرب والأجانب. وقتها قال عصفور: إذا أردت أن تكون صحفيا جيدا، لا بد أن تقرأ أحمد بهاء الدين، وضرب أمثلة لكتّاب صحفيين معاصرين لا قيمة لهم من وجهة نظره، مقارنة بما أضافه بهاء من عمق ورؤية للصحافة.
كان عصفور أكثر من مثقف نقدي، كان قيمة فكرية وأخلاقية. حفر لنفسه مكانة متميزة في تاريخ الثقافة العربية، عبر كتبه التي بلغت 43 كتابا نقديا، وعشرات الترجمات، ومئات المقالات، وعشرات المعارك الثقافية، والعديد من المناصب التي شغلها سواء كأمين عام للمجلس الأعلى للثقافة -على مدى أربعة عشر عاما-، أو مديرٍ ومؤسسٍ للمركز القومي للترجمة، أو وزيرٍ للثقافة مرتين، وقبل ذلك من خلال الجامعة التي عمل بها وتخرج على يديه أساتذة وطلاب كثر. كان نموذجه في كل ذلك، أو مثله الأعلى هو عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان يضع صورته في مكان بارز في بيته وفي مكاتبه المختلفة في المؤسسات الثقافية التي عمل بها.
عندما تخرج عصفور من كلية الآداب بجامعة القاهرة في الستينيات كان الأول على دفعته، ورغم ذلك لم يتم تعيينه معيدا بها، فكتب رسالة إلى جمال عبد الناصر، الذي أشَّر على الرسالة بالتحقيق في الأمر. وبعد أيام كان مسؤولو الجامعة يبحثون عن عصفور ليتم تعيينه معيدا بالجامعة. في تلك الفترة بدأ نشاطه الأدبي عندما بدأ في مراسلة مجلة المجلة التي كان يرأس تحريرها المبدع الراحل يحيى حقي الذي بدأ في نشر مقالات عصفور وكان أولها عن أشعار صلاح عبد الصبور. ظل عصفور أستاذا بالجامعة حتى فصله السادات عام 1981 ليسافر إلى السويد أستاذا بإحدى جامعاتها. وبعد رحيل السادات يعود عصفور مرة أخرى للجامعة التي لم يغادرها إلا لفترات قصيرة سواء للعمل في الكويت أو أمريكا أستاذا زائرا لفترات قصيرة.
ومنذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي بدأ عصفور عمله الإداري أمينا عاما بالمجلس الأعلى للثقافة الذي تحول على يديه إلى كتلة من النشاط وإشعاع حيوي، كمحاولة لاستعادة دور مصر الثقافي الذي فقدته بعد معاهدة كامب ديفيد، أو لمواجهة إرهاب التسعينيات الذي اكتسى بالخطاب الديني.
لم يكتف عصفور بعمله الإداري، والإسهام النقدي، بل سعى إلى الإسهام في معركة الدولة ضد الأصولية الدينية في كتاباته العديدة معتبرا أن الثقافة العربية هي ثقافة “اتباع عندما تتأملها ستجد أن هذه الثقافة تعاني مشكلات مزمنة تجد فيها كل جوانب التخلف المتعددة”. فذهب إلى الجذور ليؤكد أن الكوارث التي نعيشها الآن، هي نتاج لجذور قديمة. ولهذا فهي راسخة يصعب “زحزحتها”. هكذا، بدأ عصفور في تفكيك الأصول القديمة. ومؤكدا أيضا أن هذا الإسهام هو انعطافه عن مشروعه الأساسي (النقد الأدبي) لكنّها تصب فيه.
وقد واجه عصفور عبر سنوات عمله الإداري العديد من الاتهامات، تحديدا اتهامه بأنه تنويري داخل السلطة. ولكنه رد على كل هذه الاتهامات معتبرا نفسه “تنويريًّا، خارج السلطة”. ومؤكدا أنه لم يكن يعمل مع سلطة، بل مع دولة أتاحت له «منافذ» حقّق عبرها بعضًا من مشروعه الثقافي. كان بين الطرفين «اتفاق مضمر» كما يسمّيه، ما دامت هذه الدولة تسمح لك بتحقيق ما يؤدي إلى تثقيف الناس. “في كل الأحوال، ما دمت مثقفًا يجب أن تعوِّد نفسك على أنّك خارج السلطة، بل خارج الدولة، تنظر إلى ما يحدث فيها من منظور معارض أو مستقل يستطيع رؤية السلبيات». ربما كانت هذه واحدة من نقاط الالتقاء بين جابر عصفور وطه حسين الذي عمل وزيرًا للتعليم في حكومة الوفد.
وبعيدا عن معارك عصفور حول قضية التنوير، أسهم بدور بارز في تعريف الثقافة العربية بأحدث النظريات النقدية الغربية عندما تولى رئاسة تحرير مجلة فصول، كما ترجم العديد من الكتب التي قدمت البنيوية، والتفكيكية، ومن بين هذه الكتب: عصر البنيوية، الماركسية والنقد الأدبي، النظرية الأدبية المعاصرة، الخيال، الأسلوب، الحداثة، اتجاهات النقد المعاصر. وقد حاول في كتاباته النقدية البحث عن نظرية نقدية عربية لا تنفي إسهام الغرب المعاصر، كما تأخذ من التراث العربي المناسب. فقدم في كتابيه الأولين “الصورة الشعرية” و”مفهوم الشعر” التراث النقدي الشعري العربي في العصور الإسلامية.
على مدى سنوات طويلة أتيح لي أن أتحاور مع د. جابر، نشرت الكثير من الحوارات، وظلت بعض الحوارات مجرد ملاحظات مكتوبة لم تكتمل، ومن بين الحوارات التي أجريتها معه لأخبار الأدب حوار جرى عام 1998، وقتها كان كتاب “المرايا المحدبة” للدكتور عبد العزيز حمودة قد صدر، وفيه نقد حاد للحداثة العربية، ولجابر عصفور نفسه. نصحني أصدقاء بتجنب الحديث عن هذا الموضوع لحساسيته الشديدة كما تصوروا. ومن جانبي ترددت طويلا هل أطرح عليه أسئلة حول هذه القضية الشائكة. فضَّلت أن أضع الأسئلة الخاصة بكتاب المرايا في نهاية حواري، بحيث لو غضب عصفور وأنهى الحوار لن أخسر شيئا.
تحدث وقتها عن علاقته بشعراء جيله، ولأول مرة عن أمل دنقل الذي ربطتهما صداقة عميقة، ولكن كان يتجنب الحديث عنه حتى لا تتجدد الأحزان. ولكن لأن قديم الجرح يغري بالتأسي استعاد عصفور تفاصيل علاقتهما، كما تحدث طويلا عن كتاب المرايا المحدبة، وأزمة الحداثة في المجتمعات العربية، ووجه نقدا لاذعا لصاحب الكتاب.
بعد نشر الحوار حدث ما لم يكن متوقعا، إذ ردّ حمودة على ما جاء في الحوار، ورد عصفور، ثم تداخل نقاد مصريون وعرب فيما عرف وقتها باسم معركة الحداثة، أو “معركة القرن” كما وصفها الراحل جمال الغيطاني، وكان من بين المشاركين أسماء مثل فؤاد زكريا، محمود أمين العالم، محمد شاهين، شوقي بغدادي، يمنى العيد، سعيد علوش، عبد الرزاق عيد، محمد بدوي، جمال شحيد، محمد لطفي اليوسفي، حاتم الصكر، حلمي سالم، حازم شحاتة.. وآخرين. واستمرت حواراتنا في كل شيء تقريبا حتى أيام قليلة من رحيله. وقد اخترت هنا مقاطع من بعض الحوارات التي بدأت عام 1998… وحتى رحيله، ونشرت في أماكن عديدة ربما تقدم صورة شبه مكتملة لأفكار عصفور عن التنوير والحداثة والسلطة وعلاقتها بالمثقف، وتكشف أيضا عن موقعه داخل السلطة كتنويري خارج السلطة، ولكنه يسعى إلى إيجاد جسور معها.
نحن الآن على أبواب القرن الحادي والعشرين، فكيف لنا أن نتخيل صورة النقد في القرن الجديد؟
– أظنُّ أن أهم متغير سوف يدخل في إيقاع المشهد النقدي والأدبي هو المتغير العلمي، وأظن أن علاماته بدأت تظهر على مستوى النقد الأدبي، فالناقد أصبحت علاقاته المعرفية مختلفة عما كانت عليه منذ سنوات؛ ذلك لأن تكنولوجيا الاتصال العالمي أتاحت وتتيح لهذا الناقد يومًا بعد يوم سُبل الاتصال بأقرانه من النقاد في كل مكان في العالم بيُسر شديد في أنحاء العالم بواسطة الإنترنت والبريد الإلكتروني.
كما يستطيع بذلك أن يحاور زملاءه من النقاد بسهولة ويُسْر، وإذا كان لديه مشكلة في الحصول على كتاب لناقد فسيتصل بهذا الناقد أينما وُجِد ليحصل منه على الكتاب، بالإضافة إلى تلك التسهيلات المذهلة في مصادر المعرفة، كل شيء الآن أصبح على شبكات الإنترنت، المعلومات مُيسَّرة بطريقة مذهلة تدعو إلى الإرباك، أضف إلى ذلك أن الموسوعات الضخمة التي نتحدث عنها الآن أصبحت موجودة على أُسطوانات (CD) وتستطيع بـ (زِرٍّ) أن تعرفَ أي معلومة أو فكرة في أي وقت وفي أي مكان، هذا هو أهم مُتغير بالنسبة للنقد، وهذا سيؤدى إلى أن الحديث عما يُسمى بالنقد الإنجليزي والفرنسي والروسي والأمريكي سوف يتساقط، ويصبح الناقد العربي طرفًا في شبكة من العلاقات الكونية.
وهذا ليس معناه أن يفقد الناقد هويته، بل سيتمسك بهوية قابلة للحوار المستمر مع كل التيارات الموجودة في العالم، وهذا أيضًا سيؤدى إلى أن الناقد لا بد أن يكون مُزوَّدًا بدرجة معرفية فيما يسمى بـ «العلوم البينية»؛ لأن بكثرة العلوم لا بد من أن تظهر بينها علوم رابطة تُسمَّى «العلوم البينية» هذا متغير مهم أيضًا، وهذا معناه أن مهام الناقد في المرحلة القادمة مَهَامّ صعبةٌ؛ لأنه لن يكتفى بقراءة أدبه فقط، ولكن سيقرأ أدب العالم، ولن يكتفى بمعرفة كُتب قليلة يُرددها ويعيش بها، فلابد أن يكون مفتوحًا على العالم كله، وعندئذ فلا عذر لمتكاسلٍ ولا عذر لمقصِّر.
ولكن هذا المتغير سيستلزم شيئًا مهمًّا جدًّا وهو الثراء، فبِقَدْر ثراء المجتمع وقدرته على دعم هذه الوسائط التكنولوجية الجديدة تمامًا في تحصيل المعرفة، يتيحُ لنقاده التميز، المجتمع الفقير لن يستطيع أن يُتيحَ لنقاده هذا التفوق، وهذا هو أهم متغير في النقد الأدبي.
ذكرتَ أن المجتمعات الفقيرة لن تستطيع أن تواكب هذه التطورات، فهل تعتقد أنه بإمكاننا في مصر مواكبتها؟
– أظن أننا نستطيع؛ لأننا لسنا مجتمعًا فقيرًا إلى هذا الحد، المسألة كلها تحتاج إلى تنظيم وتخطيط.
ولكن مع دخول القرن الحادي والعشرين هل من الممكن أن تُعلَن وفاة النقد الأدبي، ويستبدل بنقد ثقافي؟
– النقد الثقافي هو آخر تطور للنقد الأدبي، فهو ليس شيئًا بعيدًا، بل هو الشكل الجديد من النقد الذي لا ينغلق فيه الناقد على دراسة الأبعاد الجمالية فقط، وإنما يصنع الأبعاد الجمالية في علاقة متعددة المستويات مع الثقافة التي تتيح العمل، مع الثقافة التي تستهلك العمل.
د. جابر: لو أردنا أن نضع مشروعًا جديدًا للنهضة، ما هي الأولويات التي يمكن أن نضعها لإنجاز هذا المشروع، خاصة وأن أغلب مشاريع النهضة سواء أكان مشروع محمد على أو عبدالناصر باءت بالفشل؟
– بالفعل لدينا مشروع للنهضة، ولكنه يُجهض ويُحبط لعوامل متعددة من أهمها: الاستعمار، وديكتاتورية الحُكم، وبسبب غلبة الثقافة التقليدية المقاوِمة للجديد، هذه العوامل أعاقت مشروع النهضة العربي عن الاكتمال، وهذا المشروع اشترك في تأسيسه “الأفندية” والمشايخ، مثلًا عندما نرجع سنجد فرح أنطون، وسنجد بجواره محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعلى مبارك، وقاسم أمين..، وكلما يقترب المشروع من تقدمه يُجهض، وهذه العوامل الثلاثة عندما تتشارك تحدث الكارثة، أما لو كان عاملا واحدا فيمكن التغلب عليه.
وهل سيظل هذا المشروع يُجهض دائمًا؟!
– سيظل يُجهض طالما كانت قوى المقاوَمة الداخلية ضعيفة، لا بد من أن تصبح قوى المعارَضة الداخلية قوية.
كيف يحدث ذلك؟!
– بإشاعة الديمقراطية، وروح التسامح، وحق الاختلاف، والأساس المدني في المجتمع، بمعنى أن نقيم حكومة مدنية أو دولة مدنية بكل معنى الكلمة، وأن تستبدل بالديكتاتورية الديمقراطية، وتعمل على إشاعة ثقافة التقدم وثقافة العلم والانفتاح بحيث تواجه الثقافة التقليدية، وفي نفس الوقت تؤكد استقلالك القومي والوطني، ويجب أن تدرك أن ذلك لن يحدث بمفردك ولكن بالتعاون مع السوري والفلسطيني والسعودي… عندما تقوم بذلك فأنت تدعم قدراتك على المقاومة، وبالتالي تستطيع أن تنتصر على الأعداء الخارجيين.
ربما يكون ذلك هو دور الحكام، فماذا عن دور المثقفين أنفسهم؟
– بالعكس هذا الدور هو دور المثقفين قبل أن يكون دور الحُكّام؛ لأن هذه الأشياء لا تأتي بقرارات فوقية من الحُكّام، ولكنها تأتي من المثقفين بالدرجة الأولى؛ لأن المثقف بواسطة الكلمة وبواسطة الصورة واللوحة والإبداع والفكر يستطيع أن يُشيعَ حوله الوعي، هذا الوعي نستطيع أن نُسمِّيه «وعي الاستنارة» أو «وعي الدولة المدنية» فمثلًا رجال مثل: طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، أشاعوا حولهم في المجتمع مناخًا كان يحدد القيم، وليت هذه الأجيال من المثقفين تحارب بلا هوادة حتى تشيع في المجتمع روحًا مضادة لروح الإظلام الموجودة الآن.
وما السبب الرئيس الذي يُجهض المثقفين أنفسهم أو يحوِّلهم إلى أدوات غير فاعلة؟
– هناك أسباب داخلية ترجع إلى المثقف نفسه، وهناك أسباب خارجية مرتبطة بالقمع الذي تمارسه الدولة، والقمع الذي تمارسه الجماعات الموازية للدولة، وفي حالات كثيرة المثقف العربي يبقى واقعًا بين المطرقة والسندان؛ مطرقة حكومات مستبدة لا تسمح له بحرية الاجتهاد أو حرية الكلمة أو الكتابة والإبداع، وسندان الجماعة الموازية لسُلطة الدولة التي تقمعه بتهمة الكفر والإلحاد، وهناك أزمات اقتصادية في بعض الدول يضطر فيها المثقف أن يصمت، وهناك عائق داخلي يرتبط بتذبذب المثقف أحيانًا، وتردده إزاء سلطة الدولة والخوف من القمع، فيُضطر المثقف إلى اللجوء إلى النظريات الجديدة مثل (ما بعد الحداثة) لـ (ليوتار) وأشباهه، فيعلن أن عصر المثقف قد انتهى، وأن دور المثقف البطل قد انتهى، وهذا كلام فارغ؛ لأن دور المثقف قائم وموجود، والدليل البسيط على أهمية دور المثقف ما تقوم به الجماعات الأصولية من إرهاب للمثقفين سواء بالاغتيال أو بمحاولات الإيذاء الجسدي أو الإيذاء المعنوي أو الاغتيال المعنوي…؛ لأنه لو لم تكن الجماعات الأصولية ترى خطرًا في المثقفين لأنهم ينشرون الاستنارة المضادة لها لما هاجمتهم، وهذا يؤكد أن المثقف له دور مهم جدًّا يُمارسه رغم كل الأشياء.
يصمت الدكتور جابر لحظة وكأنه يستجمع شيئًا ما ثم يقول:
– الـمثقف الحقيقي هو الذي يقول كلمته في مواجهة أي شيء حتى الدولة، وتَقَدُّم أي دولة يقاس بذلك؛ لأن الدولة تُمثِّل الواقع، والمثقف يُمثِّل الحلم، والحلم دائمًا يتمرد على الواقع، ويريد أن يصبح أفضل منه، ويحلم بأفق آخر.
وهل تعتقد أن المثقفين في مصر يمارسون هذا الدور؟
– نعم، هناك مجموعة شريفة من المثقفين المصريين تستحق الاحترام والتقدير، وتؤدي دورها وتتحمل في سبيل تأدية هذا الدور أشياء كثيرة جدًّا، وكل الذي أرجوه أن يتزايد عدد هؤلاء المثقفين، وألا تستغرقهم مشاكلهم الصغيرة، ويغرقون في “خناقات” بسيطة؛ لأن هناك ما هو أهم من ذلك بكثير.
ولكن أشعر أحيانًا أنه لا توجد وحدة تجمع المثقفين أنفسهم.
– أنا شخصيًّا لا أميلُ إلى مسألة الوحدة، وإن كنت أحترم ما يسمى بـ «وحدة التنوع»، دع المثقفين يتحاورون، ودع اتجاهاتهم تتعدد وتختلف؛ لأن الاختلاف هنا سيكون مظهر صحة، والتعدد سيكون مظهر ثراء، المهم أن هذا النقد والاختلاف يرتبط بحوار راقٍ بين أكْفاءٍ ويسهم في تعميق وعي المجتمع.
عن التنوير
هل ترى أن هناك «تنويرًا» عربيًا؟
– بالتأكيد هناك تنوير عربي، بدأ منذ القرن التاسع عشر، ولا يزال مستمرا حتى الآن، لأنه عبارة عن موجات تنقطع لأسباب خارجه، ثم تعود للانطلاق مرة أخرى، وبرغم كل الانقطاعات إلا أنها لاتزال متواصلة ويربط بينها خط واحد. هذا الخط الواحد الذي يجمع بين خصائص حركة التنوير العربية، طبعا في اختلافها عن حركة التنوير الغربية، لأننا لا نستطيع أن نقيم نوعا من الاتحاد أو التطابق بين الاثنين.
البعض يرى أنه لم تكن هناك حركة تنوير، وإنما محاولات إصلاحية فردية وهذا سبب عدم تأثيرها وصدقيتها في المجتمع، لم تكن حركة جماعية، كانت مجرد اجتهادات فردية؟
– أولا، حركة التنوير كانت جماعية، ولم تكن فردية، إذ ليس من الضروري أن يعلن التنويريون أننا في حزب واحد اسمه حزب التنوير، ولكن الأهم أنه تبقى منطلقة من مجموعة من الأسس الثابتة مثلا الإيمان بالعقل، وبالحرية في كل معانيها ومجالاتها، الالتزام بما لا يقبله إلا العقل بعد اختباره، الإيمان بالتجريب والمغامرة، الإيمان بالمنهج العلمي وتطوره، النظر إلى الدين في حدوده الطبيعية بوصفه ظاهرة إنسانية، هذا يعني أن هناك مجموعة من المبادئ الأساسية ستجدها موجودة لدى كل التنويريين على اختلاف مذاهبهم، أو علي اختلاف المسميات التي كانوا يتحركون تحتها.
ولكن ألم يحدث “نكوص” لدى مثقفي التنوير عن هذه المبادئ، مثلا.. طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وغيرهم، وخاصة في تحليل الظواهر الدينية؟
– هذا الأمر ليس صحيحا بالمرة، لم يكن نكوصا أو انتكاسة، وأعتقد أن صاحب هذه الفكرة هو الناقد الراحل لويس عوض الذي رأى أن العقاد وطه حسين وحسين هيكل، حدث لهم نكوص بعد معاهدة 36 وتراجعوا كثيرا عن أفكارهم ولم يتقدموا إلى الأمام. هذا غير صحيح، بل هو نوع من التكتيك أو المرونة لأنهم أدركوا طبيعة الواقع أكثر فأصبحوا أكثر عمقا وفهما له، أدركوا أنهم لكي يستطيعوا تغيير الواقع، فلا بد من أن يفهموا ويندمجوا فيه، ومن هنا كتب العقاد “العبقريات” وكتب طه حسين “على هامش السيرة”، وكتب هيكل “حياة محمد”، و”الفاروق عمر”، ولم يكن هذا تراجعا وإنما توسيع للقاعدة، لكي تصبح القاعدة مبسوطة على أكبر مساحة من القراء، خصوصا، أنهم في تلك الفترة واجهوا حملات ظلامية هائلة، وقتها كانت حركة الإخوان المسلمين قد تأسست … وبدأت تنتقل بنشاطها من منطقة قناة السويس -حيث تأسست- إلى القاهرة لتصبح قوة ضاربة تهدد قوى الفكر التحررية. وقد هوجم طه حسين والعقاد بضراوة في صحفها ومجلاتها.
البعض يرى أن مشكلة التنوير العربي تكمن في عدم حدوث قطيعة كاملة مع التراث لأن التنوير الغربي كان يدعو إلى قطيعة كاملة مع التراث ومسألته؟
– لا تناقض بين التنوير والتراث، لأن التنوير يمكن أن يبدأ من التراث، ويمكن أن ينقلب عليه، لأن التنوير يمكن أن يعيد التراتب بين عناصر التراث، أي أن يدفع إلى صدارة الصورة العناصر العقلية، ويرجع إلى الوراء بالعناصر غير العقلانية، التراث ليس كتلة واحدة، ولا كيانا واحدا ولا زمنا واحدا، التراث عبارة عن تيارات متضاربة متعارضة، وأزمنة مختلفة فيها الهزائم والانكسارات، وفيها الصعود والهبوط، ينبغي أن تحدد أولا عن أي تراث تتحدث؟ وسوف أنشر قريبا مقالا بعنوان “تراثنا الذي لا نعرفه”. التراث ليس كتلة واحدة إطلاقا، هو عبارة عن مجموعة من الكيانات المتصارعة، إذا بحثت فيه عن عقلانية ستجدها، صوفية أيضا ستجد، وإذا بحثت عن تفكير غير عقلاني، نقل واتباع، عداء للعقل ستجد، تماما كما ستجد استبدادا حتى النخاع، تحالفا بين رجال الدين والسلطة الاستبدادية ستجد أيضا، طاعة للحاكم إلى أبعد حد، تجد الشعار السني “طاعة الحاكم وإن كان جائرا” على عكس ما يقول المعتزلة بـ “ضرورة الثورة على الحاكم إن كان جائرا”. التراث ليس كيانا واحدا، المهم أي تراث ذلك الذي ترجع إليه. طه حسين عندما كتب كتابه الشهير “الشعر الجاهلي” كان يرجع إلى التراث، واعتمد اعتمادا فكريا كبيرا على أفكار المعتزلة وخاصة إبراهيم بن سيار النظام، الذي كان يقول بضرورة الشك، وأنه لا يقين يبنى إلا على الشك، ولا يجب أن تقبل أي شيء إلا بعد أن تشك فيه، حتى تصل إلى ما يشبه اليقين.
ولكن الكثير من النقاد يرى أن طه حسين كان متأثرا بشكل كبير في أفكار حول الشك بتراث ديكارت الفرنسي، وليس السيّار؟
– لماذا لا تقول إن الاثنين تجاوبا في ذهنه، وبقدر ما تأثر بديكارت تأثر بالمعتزلة أيضا، بقدر ما عرف التراث الفرنسي، عرف أيضا الميراث العقلاني الاعتزالي وفيه السيار وتلميذه الشهير جدا “الجاحظ”. طه حسين قرأ التراث جيدا، وقرأ أيضا الغرب، ومن الطبيعي جدا أن يحدث نوع من تجاوب الأفكار وتراسلها. وإنه يقرأ هنا وهنا ويتأثر بالاثنين.
ثمة إشكالية أخرى خاصة بالتنوير إذ يرى الكثير أن معظم رموز التنوير.. كان لهم علاقة بالغرب سواء من حيث الدراسة والسفر، والإقامة.. كما أن حركة التنوير المصرية بدأت مع نابليون والحملة الفرنسية.. قد تكون عيوب حركة التنوير استقدامها من بيئة أخرى، وقد يكون ذلك قد أثر سلبا عليها.. هل ترى أنه لولا الاحتكاك بالغرب لم تكن ستحدث حركة تنوير عربية؟
– سواء حدث الاحتكاك بالغرب أو لم يحدث كان لا بد من أن تحدث حركة تنوير عربية، لأن كل ما كان يحدث في المجتمع العربي قبل الحملة الفرنسية وخلال المرحلة المملوكية التجارية كان سيؤدي إلى ما كان يمكن أن تؤدي إليه الحملة الفرنسية. وهذه النظرية التي بقيت ثابتة نتيجة جهود المفكر الشهير بيتر جران وخصوصا في كتابيه (ما بعد المركزية الأوربية: نظرة جديدة في تاريخ العالم الحديث)، و (الجذور الإسلامية للرأسمالية)، فالمجتمع المصري العربي في العصر المملوكي كان قد وصل إلى العلاقات الرأسمالية إلى درجة من النضج كانت كفيلة بالتطور الطبيعي الذاتي، إلا أن الاستعمار جاء وقام بتغيير للمسار وتغيير للعلاقات ومن هنا جاء الكتاب البديع لتيموثي ميتشل “استعمار مصر”، الذي يرصد فيه قيام الاستعمار بتغيير النظم المعرفية والتعليمية لكي تتحول مصر إلى دولة مستعمرة، وليس دولة مستقلة. وإنه لولا الغزو الغربي، كان يمكن لهذا التطور الذاتي أن يؤدي إلى التنوير. الذي حدث تطور داخلي وفي اللحظة ذاتها حدث غزو غربي، هذا الغزو الغربي له فوائد متعددة دون أدنى شك، من بين هذه الفوائد أنه فتح عين “الأنا” على الآخر، وجعل الأنا ترى نفسها في مرايا الآخر. فتزداد وعيا بحضورها الذاتي، ومن ثم تستطيع أن تعيد النظر في نفسها، وفيما هي عليه، فتبدأ من هنا من حركة الوعي، اللحظة الأولى للاستنارة، أي أن الاستنارة هنا هي معرفة للأنا عن طريق احتكاكها بـ”آخر” يجعلها تعي نفسها مرة أخرى، وتضع نفسها موضع المساءلة، في علاقتها بذاتها وعلاقتها بالتراث، والحاضر وقوى العالم الأخرى، ومن هنا تتوالد لحظة التنوير، هذه اللحظة تتخذ بعد ذلك أبعادا متعددة فكرية وسياسية ودينية. لا شك أن هذه الأبعاد فيها بُعد الإعجاب بالآخر، لكن هناك فرقا بين الإعجاب بـ”الآخر الفكري، و”الآخر العسكري”، في بعض الأحيان يختلط الاثنان أو يتماسان، ولكن في أغلب الأحوال كان هناك وعي بالفارق بينهما. ولهذا استمر التنوير، متأثرا بالآخر، لا أحد ينكر ذلك، ومتأثرا بالغرب، وظل هذا التأثير عن طريق البعثات وعن طريق الترجمات والتعليم، وعن طريق تقديم النموذج، بمعنى عندما تتحدث عن الديمقراطية لديك نموذج ديمقراطي تقدمه، وكذلك الأمر عندما تتحدث عن الليبرالية والعقلانية، أو ضرورة اللجوء إلى العقل واحترامه وجعله هو السلطة الأعلى من أي سلطة، ستجد نماذج لكل هذه الأشياء.
كل هذه النماذج غربية؟
– بالتأكيد، ولكن النظر إلى هذه النماذج يجعلك تنظر إلى تراثك وتكتشف أن لديك ما يوازي هذه النماذج الغربية وفي هذه الحالة يحدث نوع من التجاوب بين النموذج الغربي وبين الأصول التراثية المتجاوبة معها، ولهذا السبب على سبيل المثال، عندما ذهب رفاعة الطهطاوي إلى باريس، لم يكن يرى الأشياء بعين ساذجة أو بوعي خال تماما وإنما كان في ذهنه المعتزلة، وأفكار الفلاسفة المسلمين، لهذا لم يكن “متعجبا” تماما من الأفكار التي يقرؤها أو الأشياء التي كان يراها. ولهذا يتوقف عند كتاب مونتسكيو مثلا، وليؤكد أن هذا الكتاب ليس جديدا تماما، وإنما أشبه بما عند المعتزلة من “التحسين والتقبيح العقليين”، بغض النظر عن دقة هذه العبارة أو عدم دقتها، إنما كان لديه على الأقل من تراثه ما يمكنه من الفهم المقارب لهذه الأشياء الجديدة: لفكرة الأمة القائمة على الفصل بين السلطات، أو الأمة التي يملك فيها الملك ولا يحكم… وغيرها من أفكار.
هل يمكن أن تعتبر أن أحد أخطاء التنوير أيضا أننا تجاهلنا الشرق.. وكانت وجهتنا الغرب دائما؟
– عندما بدأ التنوير لم يكن هناك شرق ناهض، الشرق كان يماثلك في التخلف، الهند، لم يكن وضعها أفضل حالا عما كنت عليه، وكذلك باكستان أو إيران أو الصين. يجب ملاحظة أن الصين واليابان بدأتا النهضة بعد عصر محمد علي، يعني نحن عمليا بدأنا النهضة قبلهما.
ولكن هناك كتابا للمفكر البريطاني جي. جي كلارك بعنوان “التنوير الآتي من الشرق” يتحدث عن نماذج شرقية تأثر بها الغرب في حركة تنويره، بل إن ما حدث من الغرب لم يكن فقط غزوا فكريا وإنما سطو فكري أيضا؟
– هذا نوع من الكتابات التي أرى أن فيها تبسيطا ونظرة أحادية أكثر مما ينبغي، الإنجازات الغربية ليست غربية خالصة، في حقيقة الأمر إنسانية، ثم إن النهضة الأوروبية، قامت على ترجمات ابن سينا وابن رشد، هي إنجازات أسهمنا فيها نحن. هذه هي سنة الحضارة. الحضارة عبارة عن كيان يسير، وتضيف إليه كل أمة ما تستطيع أن تضيف وفي آخر الأمر لا تصبح الحضارة ملكا لأمة ولا لشعب، وإنما ملك للشعوب كلها، وعلى هذا الأساس نحن نتحدث عن حضارة إنسانية، وليس حضارة غربية أو حضارة أوروبية.
ما الذي جرى للتنوير إذن؟
– التنوير ظل مزدهرا، ومستمرا في مواده مع الليبرالية، سواء في مصر أو العالم العربي، حتى جاءته سكين حادة قطعت المسار الذي كان مستمرا فيه، مع قيام الحكم العسكري في 1952، هذا الحكم لم يكن يؤمن لا باستنارة، ولا ليبرالية ولا بأي شيء.
وأين المثقفون طوال هذه الفترة لكي يدافعوا عن منجز التنوير؟
– طه حسين ظل يدافع عن القيم الأصيلة التي آمن بها، ولكن كان يدرك في الوقت ذاته أن هناك قوة قامعة قادرة أن تقمعه في أي لحظة كما قمعت من هم غيره ، من تتابع الأحداث بعد يوليو 1952 سنجد أن الضباط أعدموا بعد شهور قليلة (خميس والبقري) في عنف المقصود به تعليم الآخرين الصمت، خصوصا الفئات العمالية، وفي فترة قليلة دخلنا في أزمة الديمقراطية في مارس 1954 وتم اغتيالها اغتيالا، ودخلنا في حكم استبدادي واضح، ثم حدثت مذبحة أساتذة الجامعة إذ تم فصل أكثر من 50 أستاذا جامعيا من عملهم من الجامعات المصرية التي كان عددها محدودا جدا. أصبح واضحا للقاصي والداني أن الضباط يريدون توصيل رسالة مهمة مضمونها: هذه هي حدودكم؟
ولكن التزم المثقفون الصمت؟
– ليس حقيقيا، لم يلتزم المثقفون الصمت، ظلوا يحاولون، وكانت النتيجة أكبر موجة من الاعتقالات لليسار المصري في ديسمبر 1959. وظلت أعظم عقول مصر في السجن حتى 1964. صحيح أن الثورة لم تقترب من أسماء مهمة مثل العقاد وطه حسين لأن أعمارهم كانت كبيرة، ولم يكن منهم خطر.
يعنى فشل التنوير لأسباب داخلية وليس لأسباب خارجية؟
– بالطبع، لأسباب داخلية، بسبب القوى الاستبدادية في الداخل.
البعض يرى أن كل مشروعات التنوير أو الديمقراطية ضربت من الخارج، هزيمة 1967 مثلا أعتبرها البعض نهاية حركة التنوير؟
– الهزيمة كانت نتيجة لمقدمات سابقة حدثت، لو كان لديك ديمقراطية حقيقية، لكان عبدالناصر أدرك أن جيشه غير مستعد للدخول في معركة، كانت الحكومة قد أدركت الفساد المستشري في أوصالها. 67 نتيجة طبيعية للمتراكمات الداخلية وليس سببا فيها، كل ما نقوله إن هناك تيارات من الاستنارة تسير في موادها مع الديمقراطية، كل هذا كان يتم هدمه نتيجة لعوامل داخلية وليس لعوامل خارجية.
ولكن فيما بعد.. لماذا لم يتم استدعاء لحركة التنوير العربية بعد 73 مثالا؟
– الذي حدث هو العكس تماما، حدث استدعاء للماضي بمعناه الغيبي وصارت بين الناس شائعة أن نصر أكتوبر تم بملائكة، كما حدث في معركة بدر.
أي إنه تم استبدال خطاب التنوير بخطاب فقهي؟
– بالضبط، خطاب فقهي غيبي. ولم يحدث منذ 1952 استدعاء لحركة التنوير لسبب في غاية البساطة، إذ لم يكن لديك المقومات الداخلية الكاملة التي تجعلك تحيي مشروع التنوير وتدفعه للأمام. القضية أن تبدأ من حيث انتهى السابقون، وتدفع للأمام، أن تحيل التنوير إلى خطط عملية لمواجهة الواقع، وفي هذه الخطط يمكن أن تستفيد من كل شيء، في القديم والحديث والشرق والغرب.
مَن المنوط به إحياء هذا المشروع؟
– كل المثقفين، بلا استثناء.
رغم حالة العزلة بينهم وبين الناس والشارع؟!
– العزلة شيء، والقدر الذي يجب أن يواجهونه شيء آخر، قدرهم أن يبعثوا مرة أخرى مشروع التنوير ويضيفون إليه خبرة عصرهم، بحيث يدفعون به إلى الأمام. ليس المطلوب مني أن أكرر ما قاله الشيخ محمد عبده عن المرأة، ومطلوب مني أن أستوعب ما قال وأضيف إليه ما ينطلق بنا إلى الأمام، ليست مهمتي أن أكرر ما قاله قاسم أمين، يجب أن أتجاوزه.
هل هذا دور المثقف وحده أم دور المؤسسات أيضا؟
– دائما الحركة تكون ثنائية، تبدأ كحركة أفراد، ومن تجمعات الأفراد تتشكل مؤسسات، بما لا يتناقض مع حركة الأفراد بحيث يظل العنصران موجودين، العنصر الفردي يتميز به من يسميهم طه حسين، قادة الفكر، والعنصر الجمعي الذي يكون ما يسمى بالمؤسسة التي يمكن أن تبنيها الدولة وترعاها. والعنصر المؤسسي لن يكون إلا إذا حسمت الدولة أمرها واختارت إلى أي صف ينبغي أن تقف. المشكلة أن لدينا في الدول العربية من المحيط إلى الخليج لم تحسم الدولة بعد قرارها في أي صف تقف.
ولكن هل اختيار الدولة كان حاسما عندما بدأت فكرة التنوير؟
– بالطبع، كانت منحازة للتنوير، لأنها كانت مؤمنة به وترى أنه في صالح تقدم الأمة. بغض النظر عن المعارك الحزبية، أو الخلافات السياسية بين الأحرار الدستوريين والوفديين، أو ما انقسم إليه الوفد، من طليعة وسعديين وكتلة، في آخر الأمر هناك مجموعة من المبادئ المشتركة، اتفقوا عليها مثل: مصر لا يجب أن تكون دولة دينية، يحكمها المشايخ، لا بد أن يكون هناك دستور وقانون.. ولكنهم من الطبيعي أن يختلفوا في الأمور السياسية الأخرى. حتى الأربعينيات كانت الدولة تقف في صف التنوير.
والآن؟
– تعاني من الارتباك الفكري، أحيانا تتصالح مع الدولة الدينية، خذ عندك مثلا “الجدل الذي حدث أيام السادات حول جعل الدستور صورة للشريعة الإسلامية. وهذا معناه أن الدولة تراجعت عن التنوير وتقهقرت عنه. ولكن عندما ظهر خطر الجماعات الإسلامية بدأت الدولة تدرك قليلا الخطر، وما يمكن أن تؤدي إليه هذه الجماعات من كوارث بالأمة. ولكن الدولة الآن لم تحدد موقفها، إن كانت مع التنوير أم ضده.
مستقبل الثقافة العربية
أمام المشهد الثقافي.. سواء التحولات الفكرية أو المجتمع الذي يسير في خط متذبذب.. كيف ترى مستقبل الثقافة العربية؟
ـ شخصيا أنا متشائم، لأن كل الظواهر التي أراها يغلب عليها السلب أكثر من الإيجاب، مثلا هناك مد ديني يقترب من التطرف يحاصر الفكر ويقمع الحرية، والنتيجة أنها المرة الأولى في تاريخنا الحديث يحكم على أدباء ومفكرين بالسجن، ويحكم بالتفريق بين زوج وزوجته كما حدث لنصر أبو زيد. والغريب أن ما حدث مع أبي زيد حدث في الخمسينيات لشيخ يدعى الشيخ (بخيت)، كتب بحثا يقول فيه إن من حق الإنسان أن يفطر في نهار رمضان، وأن يعوض صيامه بالزكاة، فقامت الدنيا عليه، وطالبوا بالتفريق بينه وبين زوجته بتهمة الإلحاد. وفي ذلك الوقت كتب الدكتور طه حسين مقالا في جريدة الجمهورية بعنوان (حق الخطأ)، قال فيه إن ما يحدث ضد الإسلام، لأن الدين يقول إن من يجتهد ويصيب له أجران، ومن يجتهد ويخطئ فله أجر واحد وأن هناك ما يسمى حق الخطأ. في الخمسينيات لم يحدث شيء للشيخ بخيت ولم يجرؤ أحد على أن يفرق بينه وبين زوجته، ولم يوجد قاض واحد يمكن أن يفكر في إصدار مثل هذا الحكم. ما الفرق بين الخمسينيات وبين ما حدث لنصر أبو زيد؟ أظن أن الفرق هو “درجة تخلف المجتمع” و……. “انحدار الوعي الثقافي” وغلبة العناصر المتطرفة في الوعي الثقافي العام والخاص، وهو ما ترتب عليه النتائج التي نراها الآن: عدم قبول الاختلاف والمغايرة. ولو استمرت هذه المؤشرات في المجتمع ستنتهي الثقافة العربية إلى (كارثة)، ويمكن أن يكون هذا ما يجعلنا نحن كمثقفين نفكر في مسؤوليتنا بشكل آخر، أكثر جذرية وأكثر شمولا، لأننا لو لم نمارس مسؤوليتنا بشكل قوي جدا، فالكارثة قادمة لا محالة.
وما هي هذه المسؤولية؟
ـ إنها مسؤولية ذات أوجه متعددة، الوجه الملح الآن هو أن يؤمن المثقف بحق الاختلاف، ويسهم في تأسيس ثقافة الحوار، وفي الوقت نفسه يؤسس ويؤكد ما يسمى بالحق المدني أو الوعي الذي يرتبط بدولة مدنية وليس بدولة دينية ومجتمع منغلق على نفسه طائفيا أو مذهبيا.
المشكلة أن ما تقوله يقوله الكثير ويكتب دائما.. ولكن ما يحدث على أرض الواقع مخالف دائما… كيف يمكن تفعيل ما تقول؟
ـ أذكر بالقانون الجدلي بأن التغيرات الكمية تؤدي إلى تغيرات كيفية، يمكن أن ترى كيف كانت مصر قبل تأسيس الجامعة المصرية عام 1903، كان حالها صعبا ومع ذلك تكاتفت مجموعة من المثقفين وأسسوا جمعية أهلية وخاضوا حروبًا لتأسيس الجامعة التي انتصرت في معارك كثيرة ضد جبهات التخلف الموجودة في ذلك الوقت. ولكن عندما تقرأ كتابا مثل (مستقبل الثقافة) لطه حسين الذي صدر منذ ما يقرب من سبعين عاما، ستجد أن الأفكار الموجودة فيه أكثر تقدمية من كثير مما يطرح الآن… وكأن شيئًا لم يحدث في المجتمع. وهذا يؤكد ما أقوله، أن مؤشرات التخلف تتزايد لأسباب متعددة منها قيام ما يسمى بالدولة التسلطية في البلاد العربية، والدولة التسلطية بحكم طبيعتها تخلق وعي التسلط، لأن العقلية التي تدار بها الدولة التسلطية هي نفسها التي تدار بها القبيلة أو الطائفة الدينية المتطرفة، سنجد نفس الآليات ونفس العناصر.
إذن المد الديني هو نتاج الدولة التسلطية؟
ـ بالتأكيد، هو رد فعل مخالف للفعل الذي سببه الاتجاه، ولكنه موافق له في الآليات.
ولكن المثقف كثيرا ما ينتقد التسلط الديني ولا يقترب من التسلط السياسي؟
ـ في هذه الحالة لا يمكن أن ندعوه مثقفا، أو يصبح مثقفا ناقص التكوين. المثقف الحقيقي هو الذي يجب أن يقف ضد التسلط في كافة صوره وأشكاله، ومجالاته.
أخيرا أنت مسؤول عن المركز القومي للترجمة، وأصدرت 1000 كتاب مترجم عندما كنت أمينا للمجلس الأعلى للثقافة… هل تراهن على الترجمة لإنقاذ الثقافة العربية؟
ـ المتخلف ليس أمامه، في هذا العالم سوى أن يبدأ بالترجمة لأنها بداية لأي نهضة حقيقية. لأنك لكي ترفع درجة التخلف التي وصلنا إليها تحتاج إلى آلة رفع حتى تحملك لمستوى العالم، وهذه الآلة هي الترجمة، وهي شديدة الأهمية. وتجارب التاريخ تقول ذلك، بداية من محمد علي باشا الذي لم يستطع القيام بالتحديث إلا بعد أن أسس مدرسة الألسن، وأصدر وقتها 191 كتابا مترجما، ورغم قلة الكتب المترجمة إلا أنها فتحت الطريق للنهضة. وهناك أيضا المأمون ومشروعه للترجمة في العصر العباسي… هكذا. وتاريخنا يقول إن بداية أي تقدم وأي نهضة يبدأ من الترجمة لأنها المقدمة المنطقية الطبيعية لأي تقدم، فهي تتيح للعقل أن يرى ما يحدث في العالم، فيبدأ المحاكاة أو التقليد، أو يدخل في منافسة فيتحرك هذا العقل من سباته، وينتقل من منطقة التقليد إلى منطقة الإنجاز.
المسؤول الثقافي
هل شعرت بأي ندم على عملك مسؤولا ثقافيا لأكثر من عشرين عاما في وزارة الثقافة؟
– استفدت خبرات كثيرة وهائلة، وعندما أنظر إلى الوراء أنظر برضا وفخر وليس في “غضب”. ربما الشيء الوحيد الذي ندمت عليه في عملي أنني استلمت المجلس الأعلى للثقافة وكنت أكثر براءة وكنت أحسن الظن بالجميع، ولكني الآن لم أعد كذلك، أصبحت لديّ قدرة على التعامل مع كافة أنماط البشر. براءتي سببت لي مفاجآت حزينة وصدمات كبيرة، وهذا أمر طبيعي جدا بالنسبة للتعامل مع المثقفين.
هل خسرت صداقات؟
– لا، الأصدقاء يظلون أصدقاء مهما اختلفوا، وإذا كانت العلاقات علاقات معرفة عادية سطحية أو مصلحة فمن الطبيعي أن تنتهي بالتفكك. يمكنني أن أحوّر بيت أمل دنقل الشهير وأقول..: “وما الصداقة إلا معاهدة بين ندَّين في شرف القلب لا تنتقص”، الصداقة دائما بين ندين، لا يمكن أن تقوم صداقة بين شخص قوي وآخر ضعيف. والحمد لله أحتفظ بصداقاتي منذ أن كنت بلا منصب، وعندما أصبحت صاحب منصب أيضا، لأن ما يهمهم في الشخص هو جابر الإنسان.
حتى لو اختلفتم؟
– ما أكثر ما اختلفت مع أصدقائي، واختلفوا معي، هذا أمر طبيعي في الحياة، لأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
هل كان النقد يغضبك؟
– إطلاقا، كان يغضبني أمران. الأول ما كان يسميه أمل دنقل “الخسة الإنسانية”. والأمر الثاني الكذب، أما النقد فلم يكن يؤثر فيّ، وأنت شخصيا كثيرا ما كنت تنتقدني ولم تتأثر علاقتي بك.
وما الخسة الإنسانية؟
– هذا مصطلح علمني إياه أمل دنقل. ففي اليوم الذي أصدر فيه الرئيس السادات قرار فصلي من الجامعة، أبلغت رئاسة الجمهورية الجرائد بالخبر، وكادت الجرائد تنشره قبل أن يصدر لها قرار بعدم النشر، إذ يبدو أنهم كانوا يريدون أن تتم المسألة في سرية، وقد تسربت الأسماء بالنسبة لكثير من الصحفيين، وأذكر أن أمل دنقل جاءني في المساء وكان يعرف أنني طُردت من الجامعة وقال لي “وحشتنا” وكانت هذه الكلمة غريبة على أمل الذي عرف بأنه شخص جاف العواطف في الظاهر إلا لمن يعرف باطنه. المهم جلسنا وحكينا، وقال لي أنا كتبت قصيدة جديدة مهداة لك، وراح يقرأ قصيدته “الطيور”. وعندما انتهى من قراءة القصيدة قلت له: “يبدو أنني فُصلت من الجامعة” وضحكت ساخرًا. فقال لي: “لا تضحك، أنا أخاف عليك من الخسة الإنسانية”. استخففت بالكلمة.. فقال لي “خذني بجدية وإن كنت لا تصدق سأثبت لك”. وراح يطلب بالتليفون صديقا مشتركا لنا. سأله: “أليس جابر عصفور صديقك، لماذا لم تبلغه أنه فصل من الجامعة؟ فرد الصديق: “يا أمل أنت مجنون، لا ينبغي أن تكون لك علاقة بجابر في هذا الوقت..”. وقبل أن يكمل الصديق جملته أغلقت الهاتف حتى لا أسمع أكثر.. فقال لي أمل: “هذه، هي الخسة الإنسانية”. هذه الخسة رأيتها كثيرا في تلك الفترة، ولكن في الوقت ذاته الذي كان يتجنبني فيه من يدَّعون أنهم أصدقاء كان كاتب مثل يوسف إدريس يصر أن يدعوني يوميا على الغداء في الأهرام لكي يغيظ الناس ويثبت للجميع أننا لا نزال أصدقاء.. وكنت أداعبه بأنه يريد أن يثبت أنه “شرقاوي” ويدعو كل ركاب القطار إلى مأدبة غداء كما فعلت قرية شرقاوية في إحدى قصصه.
وعندما تقرأ ما يكتب عنك بأنك أسهمت في إدخال المثقفين إلى الحظيرة.. هل تغضب؟
– لا، بل أضحك ساخرا لأنه إذا كانت هناك فئة في الدنيا لا تقبل الدخول في أي حظيرة حتى لو كانت حظائر القديسين، فسوف تكون تلك الفئة هم المثقفين. من يستطيع أن يدخل المثقفين الحظيرة!
المثقف بطبعه لا يستطيع أن يدخل نفسه أي حظيرة، فهل يمكن أن يدخله أحد غيره؟!.
– الذي يقول هذا الكلام يستخف بنفسه قبل أن يستخف بعقول الآخرين، ولا يحتاج الأمر إلا للسخرية. لأن فاروق حسني ما كان يمكن أن يفكر في إدخال المثقفين إلى حظيرة الحكومة، ولم يسع إلى ذلك. وكلمته هذه فهمت خطأ، كما فهمت جملته “هات الكتاب وأنا أحرقه” عندما تحدث البعض عن وجود كتب إسرائيلية في مكتبات وزارة الثقافة. هذه الكلمة أسيء تفسيرها بالضبط كما أسيء استخدام كلمة “حظيرة” وهي لم تكن سوى كلمة “انفعالية”، ما كان يريده الوزير وما قصده ولا يزال يقصده، هو أن يقوم بدور الوسيط بين الدولة والمثقفين، وأنه يمثل المثقفين لدى الدولة، لكي ينقل صوتهم وأفكارهم واعتراضاتهم.
وهل الدولة تأخذ برأي المثقفين أو تستمع إلى صوتهم؟
– أحيانا تأخذ بكلامهم، فازدهار المجلس الأعلى للثقافة هو قبول من الدولة للمثقفين، وإنشاء المركز القومي للترجمة جاء بناء على طلب المثقفين، لتعويض تضاؤل دور مصر في الترجمة.