شفيع بالزين
ناقد وباحث تونسي
1 . المقدمة
لئن كانت السيرة الذاتية والرواية جنسين أدبيين مختلفين من حيث المقومات الفنية وعلاقة السرد بالمتخيل والمرجعي فإن العلاقة بينهما يشوبها الغموض والالتباس. فهما جنسان متشابهان متباينان، ونوعان منفصلان متصلان في آن واحد. وما يزيد العلاقة التباسا وتعقدا ظهور أجناس سردية هجينة تمزج بين السيرة الذاتية والرواية أبرزها رواية السيرة الذاتية والسيرة الذاتية الروائية. فالأولى رواية تعتمد الشكل السير ذاتي وتوهم بالواقع والثانية سيرة ذاتية تعتمد الشكل الروائي وتنفتح على المتخيل. ولئن حاول المنظرون صياغة تعريف دقيق للسيرة الذاتية وضبط حدودها ومقوماتها التي تميزها عن غيرها من الأجناس القريبة منها وخاصة الرواية، وأكدوا على اختلاف السيرة الذاتية عن الرواية1 على أساس انتماء الأولى إلى مجال الواقعي والتاريخي والحقيقي وانتماء الثانية إلى مجال المتخيل والإنشائي2.
إلا أن أغلب الباحثين المعاصرين- بما في ذلك فيليب لوجون وجورج ماي نفسهما- يشككون في وضوح الحدود الفاصلة بين السيرة الذاتية والرواية، وخاصة المقابلة بينهما على أساس الواقعي والمتخيل أو الحقيقي والإنشائي، إذ تثبت النصوص السيرذاتية انفتاحها على المتخيل الروائي، خاصة منها نصوص السيرة الذاتية الروائية التي اعتبرت جنسا سرديا هجينا يمزج بين السيرذاتي والروائي ويزاوج بين الواقعي والتخييلي.
ومهما تعددت مظاهر التهجين والمزج بين السيرة الذاتية والرواية في السيرة الروائية، فإن ما أجمع عليه الباحثون أن أهم ما يميز هذا الشكل من الكتابة السردية هو المزاوجة بين الواقعي والمتخيل. ولذلك سنهتم بدور المتخيل في إنشائية السيرة الذاتية الروائية من خلال «القطاف» لحنا مينه أنموذجا. ونظرا إلى عسر التمييز بين الواقعي من المتخيل في السيرة الروائية لما بينهما من تمازج وتداخل والتباس، سنكتفي بالوقوف على أبرز مظاهر المتخيل وهي: إعادة صياغة الأحداث وكتابتها روائيا وفنيا، والتباس الذاكرة والمخيلة، وتشكل الشخصية السيرذاتية بطلا روائيا، وإكساب الأحداث والشخصيات أبعادا رمزية، وأسطرة الزمان والمكان، واستخدام تقنيات السرد الروائي من سرد ووصف وحوار استخداما لا يختلف عما في الرواية من جهة التخييل وإنشائيته. ولا شك أن السير الروائية تختلف في مدى استخدام هذه التقنيات وفي درجة توظيف المتخيل في السرد اختلافا يجعل السيرة الروائية أقرب من السيرة الذاتية لدى البعض شأن السيرة الروائية التي كتبها محمد شكري (الخبز الحافي- الشطار) حيث يتقلص المتخيل والروائي ويطغى المرجعي والسير ذاتي، ويجعلها أقرب من الرواية لدى البعض الآخر حيث يتضخم المتخيل فيطغى الروائي على السير ذاتي، شأن السيرة الروائية الثلاثية التي كتبها حنا مينه (بقايا صور- المستنقع- القطاف). ولذلك اخترنا «القطاف» -وهو الجزء الثالث من سيرة حنا مينه الروائية- أنموذجا للنظر في مقومات هذا النوع السردي ودور التخييل في إنشائيته، دون إغفال ما يتميز به هذا النص السيرذاتي-الروائي من سمات تضفي عليه خصوصية كامنة أساسا -في نظرنا- في خاصيتين أساسيتين: الأولى هي الوظيفة المزدوجة التي ينهض بها المتخيل في سياق السرد السيرذاتي وهي تأصيل الروائي في ما هو ذاتي ومحلي من جهة وانفتاح السيرذاتي على ما هو إنساني وكوني من جهة أخرى، والثانية هي تحول المتخيل السيرذاتي من قناع للتمويه والإخفاء إلى فضاء للبوح والاعتراف والتعرية.
2 . السيرة الذاتية الروائية
وإنشائية المتخيل:
إن تعريف السيرة الروائية وتبيُّن المتخيل فيها ودوره في إنشائية هذا الشكل السردي الهجين، يقتضيان منا بدءا تحديد علاقة السيرة الذاتية بالمتخيل حتى لا يُفهم من ربطنا السيرة الروائية بالمتخيل انفرادها به دون السيرة الذاتية، إذ الاختلاف الأساسي بينهما -كما سنرى- ليس في حضور المتخيل أو غيابه وإنما في درجة حضوره ودوره في إنشائية كل جنس سردي منهما. وهذا يعني أن السيرة الذاتية -شأنها شأن السيرة الروائية- لا تخلو من المتخيل ولا يمكنها أن تغيّبه أو تستغني عنه كليا لأن ذلك من شأنه أن يخرجها من مجال السرد الأدبي الإنشائي ويدخلها في مجال السرد التاريخي الإخباري أو التسجيلي، بل إن السرد التاريخي نفسه لا يخلو من المتخيل مثلما بينته بعض الدراسات التاريخية3. وقد كان فيليب لوجون نفسه أول من اعترف بأن كل الأساليب التي تستعملها السيرة الذاتية من أجل إقناعنا بواقعية محكيّها يمكن أن تقلدها الرواية، وسمح لإمكانية أن يكون المتخيل عنصرا من عناصر السيرة الذاتية. فالمتخيل في حد ذاته -كما يرى فيليب لوجون- لا يفصل بشكل حاسم بين الرواية والسيرة الذاتية إذ يمكن أن يقرأ القارئ الرواية على أنها تحيل على الحقيقة كما يمكنه أن يقرأ السيرة الذاتية على أنها تحيل على المتخيل. إن المسألة ليست أن نعرف أيهما أصدق: الرواية أم السيرة الذاتية؟ لا أحد منهما. إن درجة الصدق أو المتخيل تتحدد في إحداهما مقارنة بالأخرى وفي علاقة بها4. إن المتن الحكائي السيرذاتي لا يمكنه الاحتفاظ بسمة الحقيقة عند سردها لأنها ما إن تصبح موضوعا للسرد حتى يعاد إنتاجها لتطابق الشكل الفني، لذلك نجدها تختلف عن شروط تكوينها قبل السرد. ثم إن الصدق المفترض في السيرة الذاتية يجب أن يفهم على أنه صدق فني همه الأساسي الإمساك بالهوية الذاتية5. هذا فضلا عن طبيعة ذاكرة الإنسان الذي ينسى الكثير من حوادث حياته لذلك فإن المؤلف يستعين بالتخييل الذاتي اعترافا بعدم قدرته على قول الحقيقة الخالصة. إن السيرة الذاتية هي في الأصل خطاب واقعي ولكنها لكي تنجح نجاحا إبداعيا لا وثائقيا مضطرة إلى توظيف التخييل6، هذا بغض النظر عن كون الواقع ذاته أكثر وهما وغرابة وتخييلا من الخيال في بعض السير الذاتية شأن سيرة حنا مينه نفسها. ثم إن السيرة الذاتية بسبب اعتمادها على التذكر لا يمكن أن تكون شاملة ومفصلة للأحداث ومن ثم لا بد من أن يكون التخييل رديفا لاسترجاع الذاكرة في إعادة كتابة أية سيرة ذاتية إبداعية، وهو ما يجعل الاسترجاع في السيرة الذاتية مشوبا بالتخييل بالضرورة. وإذا أضفنا إلى ذلك كله أن كاتب السيرة الذاتية كاتب مبدع يتميز بوعي جمالي أي وعي سردي روائي يفترض أنه اكتسبه من تجربته الروائية الطويلة7، وهذا الوعي الجمالي يمنعه من أن يكون مجرد مؤرخ أو كاتب تسجيلي. بل إن هذا الوعي الجمالي والمنزع السردي الإبداعي التخييلي صار مطلوبا ومحبذا في السرد السيرذاتي، وفي هذا الإطار يقول ليون إيدل: «لكاتب السيرة الذاتية أن يطلق لخياله العنان كما يحلو له وكلما أمعن في خياله كان ذلك أفضل وذلك في طريقة ربطه لمواده بعضها ببعض. ولكن عليه ألا يختلق مواده ويتحرى الصدق والصراحة فيما يكتبه8». وفي هذا الإطار كذلك يتحدث محمد صابر عيد عن «التشكيل السيرذاتي» باعتبار أن الخطاب السردي السيرذاتي يقوم على تشكيل مزدوج يجمع بين سياقين ومجالين وفضاءين: سياق السيرة الذاتية ومجالها وفضائها وهي تحيل على واقع وتجربة في الحياة وسياق الكتابة الإبداعية ومجالها وفضائها وهي تنهل من معين الصنعة الكتابية. وهذا الازدواج التشكيلي ينعكس انعكاسا إيجابيا على تخصيب الكتابة وخروجها إلى فضاء آخر جامع ومختلف وغني مشحون بكثافة الجنسين معا. بمعنى أن التشكيل السيرذاتي يجمع بين التشكيل الواقعي في مظانه الذاتية الشخصية والتشكيل التخييلي بمرجعياته الفنية الجمالية، فيقود إلى إنجاز مواضعات وقواعد كتابة جديدة مهجنة من روافد التشكيلين معا. وهكذا يسهم التشكيل التخييلي في نقل الحادثة السيرذاتية من تشكيلها السيرذاتي الصرف ذي المرجعية الواقعية إلى المجال الفني الجمالي. وهذا التداخل بين التشكيلين يفضي إلى صيغة تشكيلية تتنازل عن جزء من تشكيلية الواقع وجزء من تشكيلية التخييل9.
أما السيرة الروائية فنزّلها جورج ماي بين السيرة الذاتية والرواية ورأى أنها تنتسب إلى السيرة الذاتية لا إلى الرواية وإن استعارت بعض تقنياتها ومقوماتها ومنها المتخيل. ويعرفها عبدالله إبراهيم بأنها «كتابة سردية مهجنة من نوعين سرديين معروفين هما: السيرة والرواية […] في السيرة الروائية يدمج الخطاب بين الروائي والراوي فهما مكونان متلازمان لعلامة جديدة هي «السيرة الروائية»10. ويعرفها صالح الغامدي من خلال مقارنتها برواية السيرة الروائية فيرى أن هناك فرقا بين السيرة الذاتية المصوغة صياغة روائية (السيرة الذاتية الروائية) والرواية المصوغة بتقنيات السيرة الذاتية (الرواية السيرذاتية)، فالأولى سيرة ذاتية من حيث الجنس الأدبي ورواية من حيث الصيغة أما الثانية فرواية من حيث الجنس الأدبي وسيرة ذاتية من حيث الصيغة. الأولى تحيل على عالم حقيقي أو على الأقل توهم بالإحالة عليه على الرغم من أنها تتوسل إلى ذلك بتوظيف العديد من أساليب الرواية بما في ذلك الخيال أما الثانية فتحيل على عالم متخيل حتى وإن استثمرت بعض جوانب حياة كاتبها وبدت في بعض الأحيان أشد واقعية من الواقع ذاته. وتذهب يمنى العيد إلى أن السيرة الروائية «سيرة ذاتية تأخذ شكل رواية وتتميز بوجود نوع من التداخل وربما من الالتباس بين السيرة الذاتية والرواية التي تروي سيرة ذاتية أو تضمر سيرة مؤلفها» ومن هنا فإن «مقاربة السيرة الذاتية في عمل روائي هو سيرة ذاتية روائية»11.
وما نخلص إليه من هذه المقاربات والتعريفات أن السيرة الذاتية الروائية هي سيرة ذاتية كتبت في قالب روائي واستعارت تقنياتها، وأنها تزاوج بين الواقعي والمتخيل. ومن هنا كان التأكيد على أهمية المتخيل في السيرة الروائية ودوره في إنشائيتها. وبغض النظر عن اختلاف الدوافع والأسباب التي تجعل الكتاب «يختارون» هذا الشكل السردي الهجين لكتابة سيرهم، فإن السيرة الروائية تستثمر أساليب الرواية بما فيها الخيال. فهل يعني ذلك أن السيرة الذاتية لا تحقق نجاحها الفعلي جماليا ولا تنهض إنشائيتها السردية إلا باستنادها إلى تقنيات الرواية وأبرزها المتخيل من خلال الانزياح عن تقريرية الواقع وتسجيلية التاريخ إلى جمالية المتخيل وإنشائية «التشكيل السيرذاتي»، وذلك بالنظر إلى نزوع السيرة الذاتية عموما من التقريرية التاريخية إلى الإنشائية الأدبية أي الروائية وما يعتريها من متخيل، وحرص كاتبها على أن تتحول سيرته من سردية تاريخية إلى سردية روائية. ولئن تعددت مظاهر روائية السيرة الذاتية (درامية الكتابة وأدبية العبارة وشاعرية اللغة وتهجين اللعبة السردية وأسطرة الزمان والمكان والأشخاص والترميز…) فإن التخييل يبقى عاملا حاسما في بناء السيرة الذاتية روائيا وتمييزها عن السيرة الذاتية المألوفة.
ويتشكل المتخيل في السيرة الروائية حسب عبدالله إبراهيم من كون الروائي مصدرا لتخيلات الراوي فالتجربة الذاتية تشحن بالتخيل الذي يوفر حرية غير محدودة في تقليب التجربة الشخصية للروائي وإعادة صياغة الوقائع واحتمالاتها دون خوف من الوصف المحايد والبارد للتجربة ولا الانقطاع التخيلي عنها. ويتشكل المتخيل كذلك من خلال التجربة الذاتية المستعادة والمصوغة صوغا فنيا مخصوصا يناسب متطلبات السرد والتخيل ومقتضياتهما، ذلك أن المادة التي يفترض أن تكون حقيقية وأصلية لا يمكن أن تحتفظ بذلك، فما إن تصبح موضوعا للسرد حتى يعاد إنتاجها طبقا لشروط تختلف عن شروط تكونها قبل أن تندرج في سياق التشكيل الفني. وعليه لا يمكن الحديث عن مطابقة حرفية ومباشرة بين الوقائع التاريخية المتصلة بسيرة المؤلف الذاتية والوقائع الفنية المتصلة بسيرة الشخصية الرئيسة في النص، فالوسيط وهو السرد في هذه الحالة يعيد ترتيب العلاقة بما يوافق العالم الفني الجديد. ولذلك فإن تأكيد أمر المطابقة الكاملة بين الوقائع التاريخية والوقائع النصية في السيرة الروائية مستبعد ولا يؤدي إلى نتيجة مفيدة لكل من التاريخ والسيرة والرواية. وينشأ المتخيل كذلك عن توظيف الأسلوب الروائي وتقنيات السرد الحديثة وخاصة المشاهد السردية-الحوارية التي تساهم في إضفاء بعد روائي تخييلي. إلا أن التخييل في السيرة الروائية -خلافا للرواية- يمارس وظيفة تقريرية أو على الأقل يوحي بواقعية الأحداث ووقائعية السرد، لأن المؤلف يبدي حرصا لا يخفى على البعد التاريخي لتجربته دون أن يقع ضحية إغواء التوثيق. إن الطابع المتخيل للنص لا يلغي العنصر السيري الذي هو المدار الأساسي فيه، والكاتب يستعين بالتخيل لتقريب صورة الماضي المستعاد تذكرا وسردا.
وتحيلنا علاقة السيرة الروائية بالمتخيل كذلك على مفهوم التخييل الذاتي (Autofiction) الذي نظّر له دوبروفسكي (Doubrovsky) وهو يعني به تخييل الأحداث والوقائع الحقيقية، ذلك أن «التخييل الذاتي يفضي إلى الانتقال من لغة المغامرة إلى مغامرة اللغة»12. إن كتَّابَ السيرة الذاتية إذ يكتبون بأسلوب جميل فإنهم يكذبون وهم يريدون أن يقولوا الحقيقة. فالخيال الذاتي يجمع بين نقيضين هما ثنائية الخيال والحقيقة، وهو ما يؤدي إلى التشكيك في مفهوم الحقيقة أو الصدق في السيرة الذاتية، فبدل أن يكتب الكتاب سيرا ذاتية حقيقية أو صادقة يكتبون تخييلات ذاتية. التخييل الذاتي جنس محرف عن السيرة الذاتية أو مهجَّن، يستخدم أدواتها ويموِّهها في آن. إن الخيال الذاتي يلطف العلاقة مع الواقع بدلا من أن يؤكد عليها، وهذا التلطيف يحقق وظيفة جمالية. ومن هنا فإن التخييل الذاتي يلجأ إليه كاتب السيرة الذاتية حين يريد تغليب البرنامج التخييلي الإنشائي على البرنامج السير ذاتي التأريخي.
وحين نروم الانتقال من هذا المستوى النظري العام إلى المستوى التطبيقي الخاص بسيرة حنا مينه الروائية تواجهنا تساؤلات أساسية من قبيل: ما هي السمات والخصائص التي تسوغ لنا إنماء «القطاف» إلى جنس السيرة الروائية لا إلى جنس السيرة الذاتية بمفهومها الشائع، ولا إلى الرواية أو الرواية السيرذاتية؟ وما هي مظاهر المتخيل في هذه السيرة الروائية ودوره في إنشائيتها؟ وفيم تتمثل خصوصياتها وكيف ساهم المتخيل في هذه الخصوصيات؟
3 . «القطاف» باعتباره سيرةً روائيةً:
القطاف هو الجزء الأخير من ثلاثية حنا مينه السيرذاتية (بقايا صور- المستنقع- القطاف). وقد احتار النقاد في تجنيسها واختلفوا في تصنيفها: أهي سيرة ذاتية أم رواية أم سيرة روائية أم رواية سير ذاتية؟ وما زاد هويتها السردية أو الأجناسية التباسا وغموضا أن الناشر وضع على غلاف الكتاب عبارة «رواية» بينما تحدث عنها حنا مينه أحيانا على أنها رواية وأحيانا أخرى على أنها سيرة ذاتية، بل إنه يصفها وصفا لا يخلو من التباس وتناقض حين يقول عنها إنها «ترجمة ذاتية وغير ذاتية في آن»13. أما النقاد فاختلفت مواقفهم وقراءاتهم لثلاثية حنا مينه أو لجزء من أجزائها فمنهم من تعامل معها على أنها رواية ومنهم من تعامل معها على أنها سيرة ذاتية، ومنهم من تعامل معها على أنها سيرة روائية، بل إن يمنى العيد قاربتها بوصفها رواية السيرة الذاتية وسيرة ذاتية روائية في آن واحد. وقد لخص محمد الباردي إشكاليات تجنيس ثلاثية حنا مينه وما أحدثته لدى النقاد من حيرة واختلاف في قوله: «النقاد تعثروا في استعمال المصطلح المناسب وهو يقرؤون هذه الثلاثية ولم يحسموا مواقفهم ولذلك تراهم يترددون بين مفاهيم عديدة فهذه الثلاثية هي تارة رواية وطورا سيرة ذاتية وتارة أخرى بين الرواية والسيرة الذاتية14».
أما مقاربة الثلاثية باعتبارها رواية فتظهر مثلا في دراسة نجاح العطار حيث تقول عن «بقايا صور» -وهو الجزء الأول من الثلاثية-: «هذا هو الهيكل العامّ لهذه الرّواية الّتي تتّخذ من التّسجيل مادّة ابتكار وتتداخل تسجيليتها في ابتكاريتها، فلا تعرف وأنت تتوغّل فيها أهي محض حقيقة أم إبداع خيال15». ورغم أن يمنى العيد قد صنفت هذه الثلاثية ضمن السيرة الروائية إلا أننا نجدها تتساءل إذا ما كانت الثلاثية رواية بين الروايات، فتقول: «إذا كانت هذه الثلاثية سيرة ذاتية بأكثر من دليل فما معنى أن تكون رواية أي جنسا أدبيا هو قناع تخييلي تلتبس صدقيته16. وأما مقاربة الثلاثية باعتبارها سيرة ذاتية فنجدها على نحو واضح في دراسة محمد الباردي «حين تتكلم الذات». ومع أنه قد اعتبر الثلاثية سيرة ذاتية وحللها كما حلل غيرها من السير الذاتية بالوقوف على مقوماتها ودلالاتها، فإنه قد انتبه إلى ما تتميز به هذه السيرة الذاتية من طاقة إبداعيّة فائقة لم يلتزم فيها المؤلّف بسرد الأحداث الّتي عاشها بل عمد إلى سرد أحداث لسنا متأكّدين أنّها تتعلّق بحياته وشخصيّته. ومن هنا ينشأ الالتباس القائم بين الموضوعيّ والذّاتي وبين العام والخاص وبين الإبداعي والتسجيلي وبين الخيال والحقيقة، نتيجة توظيف التّقنيات الرّوائيّة واستعارة بعض عناصر إنشائيّة الرّواية لفائدة السّيرة الذّاتيّة. فمتطلّبات الإبداع تقتضي أن يتحوّل الواقعيّ والحقيقي إلى بناء فنّي قوامه التّوليف والابتكار. وما يميّز الشّكل الرّوائي في كتابة السّيرة الذّاتيّة هو أنّه شكل سرديّ بامتياز يقتبس إنشائيّته من إنشائيّة الرّواية17. وأما مقاربة هذه الثلاثية أو جزء منها باعتبارها سيرة ذاتية روائية فنجدها أساسا لدى يمنى العيد في «فن الرواية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب» وعبدالله إبراهيم في «موسوعة السرد العربي». أما يمنى العيد فرغم وسمها الفصل الخاص بثلاثية حنا مينه بعنوان «الذات في رواية السيرة18»، إلا أنها حللت الثلاثية على أنها سيرة ذاتية روائية ولم تكتف بإثبات روائية هذه السيرة الذاتية وإنما سعت إلى إثبات ما لها من خصوصيات تميزها عن السيرة الروائية عامة. وأبرز ما ينمي ثلاثية حنا مينه إلى هذا الجنس السردي المهجن -في نظرها- هو غياب الميثاق السيرذاتي الصريح والصياغة الشكلية الروائية وحضور المتخيل. وأما عبدالله إبراهيم فقد اقتصر على الجزء الأول من الثلاثية -أي «بقايا صور»- ضمن فصل من موسوعته وسمه بعنوان «السيرة الروائية إشكالية النوع والتهجين السردي19» وتوصل إلى أن «بقايا صور» والثلاثية عامة سيرة روائية تعتمد المخيلة أكثر مما تعتمد الذاكرة لأن السارد وإن كان يوهمنا بأنه يسترجع أحداثا عايشها طفلا في شكل «بقايا صور» فإن ذاكرة الطفل لا يمكنها أن تختزن كل هذه الذكريات بتفاصيلها وعمقها ودلالاتها ولذلك لا بد أن ما أسقطته ذاكرة الطفل تكفلت مخيلة الكهل بسرده واستكماله وتنظيمه وهو ما جعل المروي في «بقايا صور» «وقائع تنضد متسلسلة وتنظم في إطار الارتحال الدائم للأسرة، ويبدو الجانب الوقائعي فيها واضحا، إنها توثيق للتجربة الكلية للأسرة وإعطاء تلك التجربة بعدا واقعيا وحقيقيا20». ويخلص من ذلك إلى أن «السيرة الروائية [توظف] الإمكانات المتنوعة واللانهائية التي تقدمها أحيانا السيرة والرواية21». إن سمات «التنظيم» و«الكلي» و«الواقعية» لا يمكن أن تكون من عمل الذاكرة بقدر ما هي من اشتغال المخيلة. ولعل ما يميز «بقايا صور» والثلاثية عامة أن مجال اشتغال المتخيل أوسع وأهم من اشتغال الذاكرة، ومن هنا اعتبارها سيرة روائية لا سيرة ذاتية، بل إن درجة حضور المتخيل فيها أكبر من حضوره في السيرالذاتية وحتى الروائية الأخرى، لأن الأجزاء الثلاثة تتعلق بمرحلة الطفولة ولا تكاد تتجاوزها إلا قليلا.
وإذا كان النقاد قد اختلفوا في تجنيس ثلاثية حنا مينه وتباينت آراؤهم في تحديد هويتها الأدبية فما الذي يسوغ لنا في هذا البحث أن ندرج «القطاف» -وهو الجزء الأخير من الثلاثية- ضمن جنس السيرة الروائية دون غيرها من الأجناس السردية رغم ما في هويته السردية من التباس؟ وما هي المبررات التي جعلتنا نختار «القطاف» ذاتها أنموذجا لدراسة إنشائية المتخيل في السيرة الروائية العربية عامة دون ما عداها من أجزاء الثلاثية أو من سير روائية عربية؟
أما تجنيس «القطاف» في اتجاه إنمائه إلى جنس السيرة الذاتية الروائية فيستند إلى مبررين أساسيين: مبرر داخلي يعود إلى ما يقوم عليه الخطاب السردي في «القطاف» من مقومات فنية وخصائص أجناسية تستجيب لمفهوم السيرة الروائية وتتوافق مع إنشائيتها وهو ما سنسعى إلى بيانه في هذا البحث. ومبرر خارجي يعود من جهة أولى فيما هو غالب على الدراسات النقدية من التعامل مع ثلاثية حنا مينه على أنها سيرة روائية ويكفي أن نحيل هنا على قراءتَيْ يمنى العيد وعبدالله إبراهيم اللتين ذكرناهما أعلاه. ويعود من جهة ثانية إلى ما ذكره حنا مينه من تعاليق وتحاليل لثلاثيته في سياق حواراته مع النقاد. ففي هذه التعاليق والتحاليل من المواقف والآراء ما يدل على أن الثلاثية عامة والقطاف خاصة أقرب إلى السيرة الروائية منها إلى السيرة الذاتية أو إلى الرواية، مع أنه لم يستعمل مصطلح «السيرة الروائية» استعمالا صريحا وواضحا22 .
وأما اختيار «القطاف» أنموذجا للسيرة الذاتية الروائية من بين السير الروائية العربية الأخرى فمبرر بعلاقة هذا الأنموذج المعتمد بموضوع البحث، إذ اهتمامنا لا يتعلق بالسيرة الروائية عامة وإنما يتعلق أساسا بالمتخيل ودوره في إنشائيتها، وقد وجدنا أن «القطاف» أقرب الكتابات من مفهوم السيرة الروائية وأكثرها تخييلا وتوظيفا للتقنيات الروائية وجمالياتها، سواء بمقارنتها بالجزأين السابقين، أو بمقارنتها بالسير الروائية الأخرى وخاصة منها سيرة محمد شكري الروائية. هذا إضافة إلى قلة السير الروائية العربية، وهو ما يجعل مجال الاختيار محدودا.
4 . مظاهر التخييل في «القطاف»:
«القطاف» سيرة ذاتية روائية أي سيرة ذاتية اعتمد فيها حنا مينه الشّكل الرّوائي حيث تتّسع مساحة الإبداع ويسمح للمخيّلة بأن تلعب لعبتها الفنيّة، فتتحوّل السّيرة الذّاتيّة إلى كتابة أدبيّة صرفة يلعب فيها الخيال دورا خاصّا فلا تختلف عندئذ السيرة الذاتيّة عن الرّواية إلّا بموضوعها وميثاقها السيرذاتي. ولئن تعددت السمات والمقومات الفنية والدلالية التي تجعل من الثلاثية عامة و«القطاف» خاصة سيرة روائية أي كتابة سردية تمزج بين التقنيات الروائية والمرجعية السيرذاتية، فإن السمة الأساسية التي تخرج هذا العمل الأدبي من جنس السيرة الذاتية إلى جنس السيرة الروائية هي سمة المتخيل. ولذلك سنسعى في حدود ما يسمح به هذا البحث إلى إجلاء مظاهر المتخيل وبيان دوره في روائية السيرة الذاتية وإكسابها إنشائية أو جمالية خاصة هي إنشائية السيرة الروائية.
4 . 1. تخييل الإطار الزماني والفضاء المكاني:
لا يعني تخييل الأزمنة والأمكنة في «القطاف» انفصالها عن الواقع أو اتسامها بالعجائبية -فالشخصيات والأحداث تنتمي إلى إطار زماني ومكاني لهما وجود مرجعي وتاريخي سابق على وجودهما في السيرة الروائية (أحداث تاريخية، أسماء أماكن أعلام..)- وإنما ينشأ التخييل مما وسمه بهما الراوي من سمات وأوصاف وما حمله إياهما من دلالات إيحائية وأبعاد رمزية. فمن حيث الوسم والوصف يلفت انتباهنا إطناب الراوي في وصف عالم الريف أو «البورة» وتفصيل مشاهده الطبيعية وتدقيق تفاصيل الحياة في هذا العالم بكل جزئياتها وتقلباتها حتى تكاد السيرة الذاتية تتحول إلى شكل اليوميات بل أكثر تفصيلا وتوسعا في السرد والوصف. وهذا الوصف التسجيلي المسهب لا يمكن لذاكرة الراوي مهما كانت قوية وحية أن تستحضره وتعيد كتابته تذكرا وإنما كان للمخيلة والاستعانة بالخبرة السردية الروائية دور أساسي في تشكيل هذه المشاهد واللوحات الوصفية لا باعتبارها «بقايا صور» كما يوهمنا الكاتب في الجزء الأول وإنما باعتبارها عالما روائيا كاملا وواضحا أشد الوضوح. ولئن فسرت يمنى العيد هذا الحضور المكثف للمشاهد الطبيعية أو الريفية في بعديها الزماني والمكاني بانتظام زمن الخطاب الروائي للسيرة الذاتية وفق الزمن الطبيعي وتَحَدُّدِ سرعته بعلاقة مع الخصائص الطبيعية لفصول السنة التي تتحكم بعيش الراوي وعائلته، حيث تقفر الطبيعة فيمر الزمن في إيقاع رتيب سكوني لا يتقدم نحو غاية -وهو ما يجعل الطبيعة سيدة والإنسان رهن رحمتها خاضعا لسلطتها- فإن وصف المكان أو الطبيعة على هذا النحو من التفصيل والإسهاب يدل على أن هذا الفضاء ليس مجرد إطار للمحكي أو خلفية للحكاية بل هو عنصر من ديناميكية فعل الشخصيات والفعل الروائي. وهذا ما توصلت إليه هذه الناقدة نفسها في قولها إن «الريف ومختلف الأماكن ليست مجرد أمكنة موصوفة بل هي مجالات عيش وطريق حياة بها يرتبط رزق العائلة في الثلاثية. إن ما نراه من وصف للطبيعة ليس موتيفة تزيينية23». بل إن الزمان والمكان في هذه السيرة الروائية ليتجاوز الدلالة الخاصة على «مجالات عيش وطريق حياة» الراوي وأسرته إلى الدلالة العامة على عدم الاستقرار في المكان وانعدام الانتماء إليه لفقدان المأوى الذي يتكرر هدمه ماديا ومعنويا من خلال تواتر الرحيل والانتقال من مكان إلى آخر والضياع والتشرد بما يفقد الإنسان معنى التجذر الطبيعي والألفة الاجتماعية.
2.4. تخييل الأحداث:
لئن اتفق الدارسون على أن السيرة الذاتية بأشكالها المختلفة بما فيها السيرة الروائية خطاب سردي مباشر يقدم نفسه باعتباره خطابا واقعيا مرجعيا وسردا لحياة الكاتب كما عاشها واسترجعها تذكرا، فإن ما يتفقون عليه كذلك هو أن التجربة الذاتية المستعادة سرديا مصوغةٌ صوغا فنيا مخصوصا يناسب متطلبات السرد والتخيل ومقتضياتها. ذلك أن المادة التي يفترض أن تكون حقيقية وأصلية لا يمكن أن تحتفظ بذلك فما إن تصبح موضوعا للسرد حتى يعاد إنتاجها طبقا لشروط تختلف عن شروط تكونها قبل أن تندرج في سياق التشكيل الفني. وعليه لا يمكن الحديث عن مطابقة حرفية ومباشرة بين الوقائع التاريخية المتصلة بسيرة المؤلف الذاتية والوقائع الفنية المتصلة بسيرة الشخصية الرئيسة في النص، فالوسيط السردي يعيد ترتيب الأحداث بما يوافق العالم السردي السيرذاتي. وبما أن السيرة الذاتية سواء اتخذت شكلا تاريخيا أو روائيا نص أدبي إنشائي -وفي الأدب لا نكون أبدا بإزاء أحداث أو وقائع خام وإنما بإزاء أحداث تقدَّم لنا على نحو فني- فإن تأكيد أمر المطابقة الكاملة بين الوقائع التاريخية والوقائع النصية في السيرة الروائية مستبعد ولا يؤدي إلى نتيجة مفيدة.
وبغض النظر عن مدى صحة التجربة الذاتية المسرودة في «القطاف» ودرجة صدقيتها ومطابقتها للواقع المعيش، فإن الأحداث التي رواها حنا مينه في هذا الجزء من ثلاثيته لا يمكننا التحقق من واقعيتها وصدقيتها. فبالإضافة إلى المسافة الفاصلة بين زمن التجربة وزمن الكتابة مما يجعل الذاكرة غير قادرة على استرجاع تلك الأحداث البعيدة وعلى ذلك النحو من الوضوح والتفصيل، يزداد ترجيح طابعها المتخيل حين نعرف أن الكاتب بدل أن يسرد الأحداث الهامة والمنعطفات الكبرى في حياته على عادة كتاب السيرة الذاتية، اقتصر على حدث واحد مركزي لم يستغرق أكثر من بضعة أشهر وهو حدث القطاف حيث بدأ السرد بانتقال الراوي وعائلته من إسكندرونة إلى اللاذقية وخروجهم إلى الريف للعمل في جمع الزيتون، وانتهى بانتهاء موسم جمع الزيتون ورجوع العائلة إلى اللاذقية. وهو ما جعل الراوي يعوض محدودية الأحداث وقصر الفترة الزمنية بالإغراق في التفاصيل والجزئيات والاستغراق في التأملات والتداعيات الفكرية والنفسية. وهذا النوع من الأحداث يفتقد بعده التاريخي المرجعي ويكتسب بعدا ذاتيا إنشائيا يعول في سرده وكتابته على الذات ومخيلتها وملكتها الأدبية الإنشائية أكثر من التعويل على الذاكرة والمراجع الخارجية التاريخية. ولهذا يذهب جل النقاد إلى أن ما يسرده حنا مينه في هذه الثلاثية عامة وفي القطاف خاصة أحداث أقرب إلى المتخيل منها إلى الواقع، وذات مرجعية إنشائية روائية أكثر منها ذات مرجعية تاريخية سيرذاتية. من ذلك أن نجاح العطّار تعتبرها أحداثا خياليّة وترى أنها «تتّخذ من التّسجيل مادّة ابتكار وتتداخل تسجيليتها في ابتكاريتها، فلا تعرف وأنت تتوغّل فيها أهي محض حقيقة أم إبداع خيال24». وهذا ما ذهب إليه محمد الباردي كذلك حين رأى أن حنا مينه لم يلتزم «بسرد الأحداث الّتي عاشها بل عمد إلى سرد أحداث لسنا متأكّدين أنّها تتعلّق بحياته وشخصيّته. ومن هنا ينشأ الالتباس القائم بين الموضوعيّ والذّاتي وبين العام والخاص وبين الإبداعي والتسجيلي وبين الخيال والحقيقة25».
3.4. تخييل الشخصيات:
لا ينكر أحد أن الشخصيات في السيرة الذاتية بما في ذلك السيرة الروائية هي شخصيات حقيقية مرجعية لا مجال فيها للتخيل والاختلاق، فمن شروطها الصدق والتطابق بين المؤلف والراوي والشخصية، ومن المفترض تبعا لذلك أن تكون الشخصيات المذكورة في السرد كذلك حقيقية ذات مرجعية واقعية نظرا إلى صلتها بالراوي -الشخصية وتحركها في عالمه الواقعي التاريخي. وما يزيد في تأكيد السمة المرجعية للشخصيات هو أسماؤها العَلَمية وشهرتها وربطها بأعمال وإنجازات يمكن التأكد من حصولها في الواقع. غير أن شأن الشخصيات في السيرة الروائية عامة، وفي «القطاف» خاصة مختلف عما هو في السيرة الذاتية المألوفة، ذلك لأن السيرة الروائية تحرر الكاتب من سلطة المرجعي ومقتضيات التأريخ والتوثيق، وتتيح له مجالا أوسع للتصرف والتحرر في الحديث عن الشخصيات بما في ذلك شخصيته ذاتها. ولذلك يذهب عبدالله إبراهيم إلى أن «في السيرة الروائية يكون الروائي مصدرا لتخيلات الراوي فالتجربة الذاتية تشحن بالتخيل وتوفر هذه الممارسة الإبداعية حرية غير محدودة في تقليب التجربة الشخصية للروائي وإعادة صياغة الوقائع واحتمالاتها دون خوف من الوصف المحايد والبارد للتجربة ولا الانقطاع التخيلي عنها26». ومن هنا فإن أهمية السيرة الروائية لا تتجه إلى البحث المباشر عن المطابقة بين الشخصية الواقعية وسيرتها والشخصية وقد أصبحت عنصرا في تكوين فني آخر.
ولعل من أبرز المظاهر الدالة على رغبة الكاتب في التحرر من المطابقة المباشرة والصريحة بين شخصيته في الواقع وشخصيته في سيرته الروائية تعمده عدم التصريح باسم الشخصية الرئيسة وتعويض الاسم العلم بضمير المتكلم الذي يكون بقدرته الإيهامية العالية في السرد الواسطة بين الوقائع النصية والتاريخية. إذ ينوب هذا الضمير عن لسان المؤلف، والحديث بالنيابة مظهر أساسي من مظاهر السرد في السيرة الروائية. وحين جرد الكاتب شخصيته من العَلَمية حولها من ذات تاريخية مرجعية إلى ذات نصية أو «أنموذج أدبي» كما يقول هو، وبالتالي سمح للمخيلة بأن تمارس فعلها التحويلي ولعبتها الإنشائية لتتشكل أنا أخرى في السرد مختلفة عن الأنا التاريخية بما أضفاه عليها الكاتب-الراوي من تخيل وترميز وتجريد ونمذجة وأسطرة. وهذا ما فعله كذلك مع الشخصيات الأخرى القريبة منه والدالة على هويته التاريخية إذ اكتفى الراوي بالحديث عن أفراد أسرته في صيغة عامة (والدي، والدتي، أختي الصغيرة، أختي الكبيرة..) دون أن يسمي أحدا باسمه العَلَمي. أما بعض الشخصيات المعروفة التي يمكن أن تدل على الراوي وتحدده تحديدا مرجعيا فاكتفى بالإشارة إلى أسمائها أو أسماء أسرها في شكل رموز حرفية (ن، ق…). ولم يسم بأسماء صريحة إلا تلك الشخصيات الهامشية المغمورة التي لا يؤدي تعريفها وعلاقتها بالراوي إلى إثبات هويته إثباتا مرجعيا (المختار، المطعون، الشوباصي، رئيفة، بدّور…). وبالإضافة إلى حضور المتخيل من خلال تجريد الشخصيات الأساسية والمعروفة من أسمائها وتحويلها إلى نماذج أدبية، يظهر المتخيل كذلك في تعمق الكاتب في وصف ملامح الشخصيات خارجيا وداخليا والنفاذ إلى عوالمها الذهنية والنفسية على نحو يحولها من شخصيات عادية هامشية إلى شخصيات روائية تكتسب خصوصيتها وأهميتها ومعناها من خلال الوظائف والأدوار التي تضطلع بها في سياق السرد وفي علاقتها بمحور الصراع الأساسي الذي طرفاه الأساسيان الراوي وعائلته من جهة والشخصيات المعادية من جهة أخرى (المطعون، الشوباصي، الوكيل، السلطة، الإقطاعيون…). وهذا الصراع يتجاوز في «القطاف» بعده الذاتي أو العائلي الضيق ومضمونه الواقعي المعيشي (الصراع من أجل توفير لقمة العيش والمأوى والكرامة) ليأخذ بعدا اجتماعيا أو جماعيا يتداخل فيه المضمون الاجتماعي الاقتصادي (الصراع الطبقي بين الفلاحين والإقطاعيين من أجل العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية) والمضمون السياسي (الصراع ضد القمع والاستعمار من أجل الكرامة والحرية). ولذلك يتجرد الراوي من فرديته ويتنكر لذاتيته ويظل طوال السرد مندمجا في المجموعة لا ينفصل مساره عن مسارها. بل إن القطاف تتحول من سيرة ذاتية خاصة إلى سيرة جماعية عامة، ومثلما يتحول الراوي إلى «أنموذج أدبي» تتحول العائلة كذلك إلى أنموذج اجتماعي وإنساني. ومفهوم «الأنموذج» أو «البطل» يتخذ في «القطاف» دلالة خاصة شكلتها نزعتان بارزتان في نحت ملامح «البطل» في «القطاف»: الأولى تتمثل في تحويل البطولة من الفردي إلى الجماعي بما يجعل من السيرة الذاتية سيرة جماعية عامة. والثانية أن الخيال الذاتي يتخلى عن إبراز قيمة تاريخية مثالية للحياة، حيث ينتزع السيرة الذاتية من أسطورة العظماء ويعلن عاديتها وواقعيتها، ومن هنا فإن روائية السيرة الذاتية التي قد يكون واقعها نفسه أكثر ثراء من جهة الدراما والغرائبية والأسطرة والتخييل من أي خيال في أية رواية أحيانا.
4.4. تخييل الخطاب السير-روائي:
تقوم السيرة الروائية في القطاف على مزاوجة إبداعية بين الواقعي والتخييلي وتؤدي الصياغات الأسلوبية وتقنيات السرد الروائي دورا أساسيا في إضفاء طابع فني متخيل على السيرة الذاتية المسرودة روائيا. ولعل أبرز ما يتميز به «القطاف» هو توظيف التقنيات السردية الروائية من سرد ووصف وحوار توظيفا فنيا يضفي على المسرود طابعا متخيلا يكاد يخرجه من السيرة الذاتية إلى الرواية.
أما السرد فقد جاء على درجة من التفصيل والتدقيق والاحتفاء بكل ما حدث للبطل وأسرته في الفترة التي يحكي فيها سيرته بحيث يستحيل أن يكون التعويل في سردها على الذاكرة وإنما لعبت المخيلة دورا أساسيا في «استعادة» هذه المرحلة البعيدة عن حاضر الراوي الذي عول أكثر على ما يمتلكه من تقنيات الكتابة السردية الروائية. ويكفي أن نقارن بين «القطاف» وأية رواية تنتمي إلى هذه المرحلة (رواية الياطر مثلا) لنلاحظ التشابه الكبير في أسلوب السرد وتقنيات الكتابة.
وأما الوصف الذي تواتر استخدامه بشكل لافت وتكثفت المقاطع الوصفية التي تتفاوت طولا وقصرا، وتتعلق أغلبها بمشاهد الطبيعة وعالم الريف، فقد رأى محمد الباردي أن هذه المقاطع الوصفية التي تتضمنها ثلاثية حنّا مينه مقاطع روائية بالدّرجة الأولى لعب فيها الخيال لعبته الفنية. وينشأ المتخيل -إضافة إلى كون الذاكرة لا تسترجع مشاهد موصوفة وصفا دقيقا على نحو ما نجده في القطاف وإنما تسترجع أحداثا وشخصيات وأماكن- أولًا عن ذاتية الرؤية في الوصف وكون المشاهد الموصوفة هي انعكاس للذات وإسقاط للداخل على الخارج. من ذلك وصف الراوي للطبيعة وهو ينظر إليها من منظور عاشق منتشٍ بابتسامة «رئيفة»: «ابتسمت رئيفة. خلت الدنيا من حولي ابتسمت بدورها. صفقت أوراق الزيتون، اخضرت أكثر، ارتسمت عليها حلاوة سكر، ذاب السكر، اجتمع الكرم بكل من فيه من حولنا27». ومنه وصفه كذلك للطبيعة متناغمة ومتفاعلة مع الراوي وأسرته نتيجة ما اعتراهم من حماس وتفاؤل: «اخضر العشب من حولها. الشوك لم يعد شوكا. الأفاعي لم تظهر، الأرض تملست. حبات الزيتون أسلست لنا قيادها وصارت تقفز إلى أيدينا. الأشجار مالت باتجاه الأرض لنستطيع أن نمرشها بسهولة28.». وما يدل على أن مثل هذه المقاطع الوصفية –وهي متواترة في «القطاف» على نحو لافت للانتباه- تنتمي إلى المتخيل الروائي لا إلى التذكر السيرذاتي هو استخدام هذه الطريقة في الوصف في روايات حنا مينه، من ذلك وصفه للبحر في «الشراع والعاصفة» حيث يشكل السارد صورة البحر حسب وظيفته السردية ودلالته على عالم الشخصية النفسي، فعندما كان الطروسي بطل الرواية يهرب الأسلحة إلى الثوار يتحول البحر -شأن غابة الزيتون في القطاف- من الهيجان والتهديد إلى الهدوء والطواعية، من بحر عاصف إلى بحر رومنسي29.
وينشأ المتخيل ثانيا لأن الوصف شكله حنا مينه في هذه السيرة الروائية لغويا وأسلوبيا بنفس الأدوات والفنيات التي شكل بها الوصف في رواياته ومن هنا فهو وصف إنشائي يتكئ على المتخيل الروائي والمراجع الأدبية الفنية لا وصف واقعي يتكئ على الذاكرة والمراجع الخارجية. وينشأ ثالثا مما في هذه المقاطع الوصفيّة من «شفافية شعرية» تميّز نصوص حنّا مينه الرّوائيّة. إن الطابع المتخيل للنص لا يلغي العنصر السيري الذي هو المدار الأساسي فيه. والكاتب يستعين بالتخيل لتقريب الصورة التي كان قد رآها30. الناقد يبحث عن المطابقة فيما الكاتب لا يحرص كثيرا على ذلك فهو يعيد إنتاج حياته وتجاربه ومشاهداته كما يعتقد أنها كانت عليه في لحظة تشكلها.
وأما الحوار الذي يكثر ويطول فشأنه كذلك شأن السرد والوصف يتدخل في بنائه خيال المؤلّف الروائي. يوظف الكاتب الأسلوب الروائي وتقنيات السرد الحديثة وبخاصة المشاهد السردية-الحوارية في إضفاء بعد روائي على سيرته ودرجة التخيل تؤدي وظيفة فنية لصالح الجانب الوثائقي السيري مع أنها مستعارة لتؤدي وظيفة مضادة فالمشاهد المصوغة صوغا روائيا تعمق الإحساس لدى القارئ بواقعية الأحداث لأنها تركز على التفاصيل الجزئية والدقيقة في المشهد السردي. الحوار المباشر أو المنقول هو أكثر الأشكال السّرديّة محاكاة، وهو يؤدّي الوظائف التّقليديّة المعروفة في السّرد الرّوائي. وفي السّيرة الروائيّة لا يمكن أن يكون إلّا متخيّلا فهو إمّا أن يكون قد وقع فعلا لكنّ السّارد يخترع لـه مفردات جديدة أو أنّه لم يقع أصلا وعندئذ يتعمّد السّارد مشهدة الفكرة أو الموقف وذلك لسبب رئيس هو الإيهام بحقائقيّة الخطاب الخاصّ بالسّيرة الذّاتيّة وتعميق مصداقيّته.
5 . وظائف التخييل السير-روائي في «القطاف»:
1.5. التخييل السير-روائي بين القناع والتعرية:
لئن كان الشكل الروائي في السيرة الذاتية الروائية -في نظر جل النقاد- قناعا يمارس من خلاله المؤلف الإخفاء والتمويه31، فإن ما يميز هذا الشكل في ثلاثية حنا مينه عامة و«القطاف» خاصة أنه ليس قناعا بقدر ما هو فضاء للكشف والتعرية. وحتى إن صح اعتبار المتخيل الروائي في «القطاف» قناعا فإنه قناع لا يخفي ويموه بقدر ما يكشف ويعري بل هو أكثر مصداقية وتحررا في سرد السيرة الذاتية إذ يوفر للكاتب مزيدا من الحرية والجرأة على المكاشفة والبوح وفسح المجال أمام الذات للتكلم والاعتراف والنقد32. إن قناع الرواية لا يمارس في «القطاف» وظيفة إخفاء المكبوت وستر المقموع بل هو مسعى لإعادة الاعتبار للعامل الذاتي في الأدب العربي الحديث، بما توفره السيرة الروائية من فضاء يمكن الراوي-الشخصية من الإفصاح عن مقموع الذات والجهر بمكبوتها وكسر قيد القيم الأخلاقية التي تحول دون تحرر الذات. إن الخطاب الروائي في حكاية السيرة الذاتية ليس قناعا يختبئ خلفه صاحب السيرة أو يستر به مكبوته أو يخفي وراءه حقيقة دواخله ومشاعره بل وجدنا الكاتب خلافا لذلك يؤكد وقوفه خارج أي قناع يستر علاقته الذاتية بما يروي. وهذا ما ذهبت إليه يمنى العيد حين أكدت على أن الكاتب لا يحاول أن يختبئ خلف قناع اللغة أو الجنس الروائي لأن التجنيس كان له وظيفة أخرى غير الإخفاء والتستر بالمتخيل. كان التجنيس الروائي يؤدي دورا أوسع من دائرة الذات الضيقة: دور الهدم للمحرمات وللمسلمات وللقمع الذي تمارسه أكثر من سلطة33.
2.5. التخييل السير-روائي بين
الذاتي/المحلي والجماعي/الإنساني:
لا تقتصر وظيفة السرد السير ذاتي- الروائي في ثلاثية حنا مينه عامة و»القطاف» خاصة على وظيفة الكشف والبوح والتعرية والتحرر من إكراهات السيرة الذاتية الصريحة -كما بيناها سابقا- وإنما تتعدى ذلك إلى الاضطلاع بوظيفة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى، وهي وظيفة مزدوجة تتمثل في تجذير الخطاب الروائي ضمن مرجعية محلية من جهة أولى، وفتح السيرة الذاتية على ما هو أبعد منها حيث يسمو الذاتي والفردي إلى الإنساني والجمعي من جهة ثانية. وذلك أن السرد في «القطاف» لا يلتزم بوظائف المتخيل الروائي وتقنيات بناء الحبكة الفنية بل يمارس انزياحات متنوعة في اتجاه حكاية السيرة الذاتية وخصوصية المحكي، وهو ما يفضي إلى تجذير الخطاب الروائي في المرجعية المحلية التي تؤطر حكاية السيرة الذاتية، كما يفضي إلى تحول حكاية السيرة الذاتية نفسها إلى خطاب روائي هو ممارسة إبداعية تفتح هذه الحكاية على أفق إنساني وتعبر عن وعي جمعي عام، فتتجاوز الذات عن طريق الخطاب الروائي إلى ما هو أوسع منها، أي إلى ما هو اجتماعي عام وإنساني أعم34. وهذا الازدواج في خطاب «القطاف» والثلاثية عامة باعتبارها سيرة ذاتية روائية هو ما أكد عليه حنا مينه نفسه وعبر عنه بصيغ مختلفة فهو يصفها تارة بكونها سيرة ذاتية أخرجت في «عمل أدبي روائي» وطورا يصفها بأنها «ترجمة ذاتية وغير ذاتية في آن» وتارة أخرى يصفها بأنها حكي ذاتي استعادي يقوم على «عملية توليف وابتكار35».
3.5. التخييل السير-روائي بين السير ذاتي/التاريخي والروائي/الإنشائي:
خلافا لتقاليد الكتابة السيرذاتية التي دأب عليها جل الكتاب، بدأ حنا مينه كتابة سيرته الذاتية في مرحلة متقدمة من حياته، حيث صدر الجزء الأول من الثلاثية -أي «بقايا صور» سنة 1975 وصدر الجزء الثالث والأخير- أي «القطاف» سنة 1986. وقد صدرت أجزاء الثلاثية موزعة على فترات زمنية متباعدة تفصل بينها أعمال روائية عديدة في حركة تناوب بين الكتابة السيرذاتية والكتابة الروائية36. وهذه الملابسات التاريخية أثرت في طريقة الكتابة السيرذاتية وجعلتها ملتبسة بالكتابة الروائية متأثرة بعوالمها ومستعيرة لتقنياتها. ولعل من أبرز مظاهر هذا الالتباس والتقاطع بين السيرة الذاتية والرواية هو كتابة السيرة الذاتية كتابة روائية تضطلع بوظيفة مزدوجة ترتبط في آن واحد بحكاية الأنا وبنمط الخطاب الروائي العربي الذي عمل حنا مينه على إنضاجه. وهو خطاب يزاوج بين السير ذاتي أو التاريخي او المرجعي من جهة، والروائي أو الإنشائي أو التخييلي من جهة أخرى. وقد لعب التخييل دورا أساسيا في تحرير السرد السيرذاتي من سلطة الذاتي والمرجعي والتاريخي وانفتاحه على الروائي والأدبي وما يقوم عليه من إنشائية المتخيل. وإلى هذه المزاوجة بين المرجعي والإنشائي تشير يمنى العيد حين ترى أن الخطاب الروائي في الثلاثية يُفَسَّر بمرجعيته (السيرة الذاتية) وأن الخطاب السير الذاتي يُعَلَّل بروائيته، لتخلص من ذلك إلى أن الثلاثية «تعيد الاعتبار إلى العامل الذاتي والتجربة والمعيش المحلي لتضعه موضع المرجعي الخاص لرواية واقعية عربية غير هجينة37». يكتب المؤلف الرواية التخييلية باعتماد المرجع المحلي فيداخل بين تجربته الحياتية وتجربته الروائية، ويشتغل على قاعدتي الرواية التخييلية وحكاية السيرة الذاتية، فيحقق المفارقة والمشابهة بين المرجعي المعيش والمتخيل الروائي، بين الواقعي والمحتمل، بين الحقيقي والرمزي… خلاصة القول أنّ حنا مينه «يكتب سيرته الذاتية ليقدمها في سياق روائي واقعي منفتح على المتخيل… [وهو بذلك] لا يقدم حكاية السيرة الذاتية بل أيضا التجربة الروائية38».
الخاتمة:
انشغل بحثنا بعلاقة السيرة الذاتية بالرواية وما تتسم به من التباس وتداخل، وخصصنا مظهرا لافتا من هذه العلاقة تمثل في جنس سردي هجين مزج بين السير ذاتي والروائي وهو ما اصطُلح عليه بالسيرة الذاتية الروائية. وهي سيرة ذاتية تعتمد الشكل الروائي وتنفتح على المتخيل. ومع نزوع أكثر الدراسات إلى القول باختلاف السيرة الذاتية عن الرواية على أساس انتماء الأولى إلى مجال الواقعي والتاريخي والحقيقي وانتماء الثانية إلى مجال المتخيل والإنشائي، مالت دراسات أخرى نحو التشكيك في وضوح الحدود الفاصلة بينهما إذ تثبت النصوص السيرذاتية عامة ونصوص السيرة الذاتية الروائية خاصة انفتاحها على المتخيل الروائي وبناء جانب من إنشائيتها على التخييل. ومن هذا المنطلق كان اهتمامنا في هذا المبحث بالمتخيل ودوره في إنشائية السيرة الذاتية الروائية متخذين «القطاف» لحنا مينه أنموذجا. وأفضى بنا التحليل إلى أن المتخيل حاضر في مظاهر عديدة أبرزها إعادة صياغة الأحداث وكتابتها روائيا وفنيا، والتباس الذاكرة والمخيلة وتشكل الشخصية السيرذاتية بطلا روائيا وإكساب الأحداث والشخصيات أبعادا رمزية وأسطرة الزمان والمكان واستخدام تقنيات السرد الروائي من سرد ووصف وحوار. هذا فضلا عما تتميز به هذه السيرة من خصوصيات تكمن أساسا في الوظيفة المزدوجة التي ينهض بها المتخيل في سياق السرد السير ذاتي وهي تأصيل الروائي فيما هو ذاتي ومحلي من جهة وانفتاح السير ذاتي على ما هو إنساني وكوني من جهة أخرى، إضافة إلى تحول المتخيل السير ذاتي من قناع للتمويه والإخفاء إلى فضاء للبوح والاعتراف والتعرية.
ومع أن التعامل مع «القطاف» بوصفه سيرة روائية لم يفض بنا إلى نفي اعتباره سيرة ذاتية أكثر من اعتباره رواية وإن استعار بعض تقنياتها ومقوماتها ومنها المتخيل، فإن التحليل قادنا إلى تمييز الخطاب السير ذاتي في «القطاف» بروائيته وتمييز إنشائيته بمتخيله. فأبرز ما يميز هذه السيرة الذاتية ويمنحها إنشائيتها أنها مصوغة صياغة روائية إذ هي سيرة ذاتية من حيث الجنس الأدبي ورواية من حيث الصيغة. وهي من حيث المرجع أو المحكي تحيل على عالم حقيقي أو على الأقل توهم بالإحالة عليه ولكنها من حيث الخطاب أو الحكي تحيل على عالم روائي وتنفتح على الإنشائي والمتخيل، ولذلك نفذت يمنى العيد إلى حقيقة «الثلاثية» وأدركت أدبيتها حين قالت إن ما يميز الثلاثية هو أن الخطاب السردي فيها «يفسر بمرجعيته ويعلل السيرة الذاتية بروائيتها39». وبغض النظر عن اختلاف الدوافع والأسباب التي جعلت حنا مينه «يختار» هذا الشكل السردي الهجين لكتابة سيرته، فإن ما لا شك فيه أنه بكتابة هذه السيرة الروائية قد استثمر أساليب الرواية وخاصة منها التخييل السردي الذي كان له دور مهم في نجاح الثلاثية جماليا وإنشائيا، وذلك بالانزياح عن تقريرية الواقع وتسجيلية التاريخ إلى جمالية المتخيل وإنشائية «التشكيل السيرذاتي».
غير أن روائية السيرة الذاتية في القطاف لا تتوقف إنشائيتها على استخدام التقنيات السردية الروائية والانفتاح على المتخيل، إذ لو كان الأمر مقصورا على هذا المستوى «التقني» أو الفني لما كانت للثلاثية عامة والقطاف خاصة هذه القيمة الأدبية والخصوصية السيرذاتية، ذلك أن الشكل الروائي بما فيه التخييل مهما كانت أهميته يبقى مظهرا شكليا ومجرد تنويع في طريقة الكتابة السيرذاتية. هذا فضلا عن كون هذا الشكل ليس حكرا على حنا مينه وإنما عرفه كتّاب سابقون-لعل أشهرهم طه حسين في «الأيام»- واشتهر به كتاب لاحقون لعل أشهرهم محمد شكري في «الخبز الحافي» و»الشطار». إن ما يميز «القطاف» حقا بوصفه سيرة ذاتية بل بوصفه سيرة روائية هو ما ينهض به الشكل الروائي عامة والمتخيل خاصة من وظائف تضفي على السيرة الذاتية خصوصية أدبية ودلالية. ومن بين الوظائف العديدة التي يضطلع بها المتخيل السير-روائي في «القطاف» ثلاث وظائف أساسية وجدنا أنها تفسر اعتماد الشكل الروائي في السيرة الذاتية وتطبعها بطابع الخصوصية والتفرد: الأولى هي تحول الشكل الروائي من القناع إلى الكشف، والثانية هي انفتاح الذاتي على الجماعي والمحلي على الإنساني، والثالثة هي انفتاح السيرذاتي والتاريخي على الروائي والإنشائي التخييلي.
وما نخلص إليه في خاتمة هذا المبحث أن ثلاثية حنا مينه عامة و«القطاف» خاصة لئن كانت منجزا سيرذاتي كغيره من المنجزات السيرذاتية العربية التي يؤرخ فيها كتابها لجزء هام من مسيرتهم الحياتية وتجاربهم الأدبية ويبحثون فيما يكتبون عن معنى لحياتهم وينحتون هوية ذاتية مخصوصة، فإن ما يميزها ويضفي عليها قيمة أدبية وأبعادا إنسانية أنها مغامرة مزدوجة: كتابة المغامرة بما فيها من معاناة البطل-الراوي وهو يواجه الحياة بكل مصاعبها وتحدياتها ويعيش التجربة بكل قساوتها ورهاناتها من جهة، ومغامرة الكتابة بما فيها من معاناة الكاتب-الروائي وهو يبحث عن الزمن الضائع بذاكرة محدودة ورغبة في البوح والكشف، ولكن بأدوات روائية ناضجة ومشروع سردي طموح يرمي إلى جعل التجنيس الروائي يؤدي دورا مزدوجا: تجذير الخطاب الروائي بمرجعية محلية، وفتح السيرة الذاتية على ما هو أبعد منها بحيث يرفع الذاتي الفردي إلى الجماعي والإنساني. إنه مشروع سردي تتجاوز فيه الكتابة السيرذاتية باعتبارها حكي الحقيقة وكتابة الذات إلى نمط الخطاب الروائي العربي الذي عمل حنا مينه على إنضاجه وإغنائه، حين أعاد الاعتبار إلى العامل الذاتي والتجربة والمعيش المحلي مرجعا خاصا للرواية العربية من جهة، وفتح السيرة الذاتية على الرواية والمتخيل مداخلا بين تجربته الحياتية وتجربته الروائية. فهو يبني حكاية سيرته الذاتية لا ليؤرخ لها بل ليقدمها في سياق روائي واقعي منفتح على المتخيل. ولذلك فإن حنا مينه لا يقدم في «القطاف» حكاية السيرة الذاتية فحسب بل يقدم أيضا مغامرة التجربة الروائية.
الهوامش
يعتبر فيليب لوجون في كتابيه le pacte autobiographique و l’autobiographie en Franceوجورج ماي في كتابه l’autobiographie أبرز منظري السيرة الذاتية حيث سعى هذان الباحثان إلى تعريفها تعريفا جامعا مانعا وضبط حدودها ومقوماتها ووجوه التشابه والاختلاف بينها وبين الأجناس الأخرى القريبة منها مثل السيرة واليوميات والمذكرات والرواية.
يعتبر فيليب لوجون أن «السيرة الذاتية خلافا لجميع الأشكال التخييلية نص مرجعي يدعي تقديم معلومات حول واقع خارج النص» (le pacte autobiographique, Seuil, Paris, 1975, p 36). ولئن وجد جورج ماي وجوه اختلاف عديدة بين السيرة الذاتية والرواية منها الدوافع الباعثة على قراءة كل جنس (الحقيقة/المتخيل) والميثاق السردي (الميثاق السير ذاتي/ الميثاق الروائي) وطبيعة البطل (البطل السير ذاتي/ البطل الروائي) فإن الاختلاف الأساسي بينهما يكمن في انتماء السيرة الذاتية إلى الحقيقي والواقعي والمرجعي وانتماء الرواية إلى المتخيل والإنشائي (السيرة الذاتية، ترجمة محمد القاضي وعبد الله صولة، المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات، بيت الحكمة، قرطاج، 1992، صص 191- 196). ولم يخرج الدارسون العرب عن مثل هذه المقاربات التي تميز بين السيرة الذاتية والرواية على أساس المقابلة بين المرجعي/الحقيقي والإنشائي/المتخيل. من ذلك أن صالح الغامدي يفرق بين السيرة الذاتية والرواية على أساس المتخيل إذ الرواية تخيلية الأحداث والشخصيات حيث لا يتطابق فيها الراوي البطل مع المؤلف، والسيرة الذاتية واقعية الأحداث والشخصيات حيث لا يتطابق فيها المؤلف مع الراوي- البطل (كتابة الذات، دراسات في السيرة الذاتية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،2013، ص 126). ومحمد الباردي يميز كذلك بين السيرة الذاتية والرواية على أساس الميثاق السردي، فالميثاق الروائي يظهر في لبوس الخيال والميثاق السير الذّاتي يظهر في لبوس الحقيقة (عندما تتكلم الذات، دمشق، 2005، ص 10).
انظر على سبيل المثال: إفلين باتلاجين: تاريخ المتخيَّل، ضمن: التاريخ الجديد، إشراف جاك لوغوف، تر. محمد الطاهر المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، ط 1، بيروت، 2007، صص 481-525. ويتناول الباحث في هذا المقال «المتخيل بوصفه موضوعا تاريخيا» من جهة والمتخيل التاريخي من جهة أخرى، وذلك انطلاقا من مقولة أساسية مفادها أن «كل ثقافة لها متخيلها ومن خلالها كل مجتمع، وربما كل مستوى من مستويات مجتمع مركب له متخيله. ويبدو الحد الفاصل بين الواقع والمتخيل متغيرا ولكن يظل الفضاء الذي يمر عبره هذا الحد الفاصل دائما هو نفسه ما دام يمثل حقل التجربة الإنسانية بأكملها انطلاقا مما هو جماعي على المستوى الاجتماعي إلى ما هو شخصي» (صص 481-482).
Philippe lejeune: le pacte autobiographique, p 42.
صالح معيض الغامدي: كتابة الذات، دراسات في السيرة الذاتية، صص 176-177.
حسين المناصرة: روائية السيرة الذاتية، ضمن مجلة علامات، ج 65، مج 17، ماي 2008، ص 342.
من المعروف في تقاليد السيرة الذاتية ومواضعاتها أنها جنس أدبي لا يكتبها إلا كاتب قد بلغ من التجربة الأدبية والشهرة ما يجعل كتابته لسيرته مبررة ومقروءة. وقد شذ عن هذه القاعدة كتاب قليلون جدا لعل أشهرهم محمد شكري الذي بدأ بنشر سيرته الذاتية الروائية (الخبز الحافي) ونال شهرة وانتشارا بفضلها.
ليون إيدل: فن السيرة الأدبية، ترجمة صدقي حطاب، بيروت، 1988، ص 118.
محمد صابر عيد: التشكيل السيرذاتي، التجربة والكتابة، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2012، صص 5-6.
عبد الله إبراهيم: موسوعة السرد العربي، ج2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2008، ص 411.
يمنى العيد: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، دار الآداب، بيروت، 1998، ص 75.
Serge Doubrovsky: L’autofiction, Galilée, Paris, 1977, p 4.
حنا مينه: هواجس في التجربة الروائية، دار الآداب، بيروت، 1982، ص 12.
محمد الباردي: عندما تتكلم الذات، ص 31.
نجاح العطار: مقدمة بقايا صور، دار الآداب، بيروت، 1990، ص 40.
يمنى العيد: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، ص 57، 77.
محمد الباردي: عندما تتكلم الذات، السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005.
يمنى العيد: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، صص 71-91.
عبد الله إبراهيم، موسوعة السرد العربي، ج2، صص 411-446.
المرجع نفسه، ص 427.
المرجع نفسه، نفس الصفحة.
يقول مثلا عن «بقايا صور»: «عملت على جمع هذه الوقائع والصور في عمل أدبي روائي، هو ترجمة ذاتية وغير ذاتية في آن، لأنه يحكي عن حياة عائلة […] في عملية توليف وابتكار لا تطمس الأحداث كلها ولا تستعيد الأحداث كلها بل تنتقي منها وتبنيها بناء جديدا يقوم على أساس من الحقيقة التي كانت ولكن ليس على حرفيتها بأية حال». هواجس في التجربة الروائية، ص 12. ويقول كذلك في بعض حواراته مقارنا بين سيرته الذاتية في الثلاثية وسير غيره من الكتاب: «[السيرة الذاتية الأخرى] سيرة ضيقة الحدود تتمحور حول الحياة الذاتية للكاتب بينما سيرتي الذاتية تروي سيرة حياة عائلة وتؤرخ روائيا للعشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن». حنا مينه: حوارات وأحاديث في الحياة والكتابة الروائية، دار الفكر الجديد، بيروت، 1992، ص 159.
يمنى العيد: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، صص 84-85.
نجاح العطار: مقدمة بقايا صور، ص 40.
محمد الباردي: حين تتكلم الذات، ص 30.
عبدالله إبراهيم: موسوعة السرد العربي، مج 2، ص 411.
حنا مينه: القطاف، ص 234.
المصدر نفسه، ص 255.
يقول الراوي في وصف البحر الذي صار متناغما مع البحارة ومساعدا لهم على تنفيذ المهمة الوطنية: «وكان الجو صافيا… وكان ليل الساحل المندى بطراوة المساء، وخرير الماء المتصاعد من المؤخرة وإيقاع المجاذيف وتكسر الموج على المقدمة ورائحة البحر التي تشعل فتيل الشهوة وتبعث جنون الحب والمغامرة: كان كل هذا يضاف إليه ما أحيط بالرحلة من سر يحف بالفلوكة ويرف عليها ويعبق بالمشاعر الفوارة في صدور بحارتها حتى انتشوا وسكتوا وأصغوا إلى ترنيمة البحر والليل» (الشراع والعاصفة، دار الآداب، بيروت، ط4، 1982، ص 317).
نحيل في هذا السياق على ما قاله أحد النقاد لمحمد شكري: «في كتابك الخبز الحافي تصف هذا الصهريج وما حوله بكثير من الجمال مع أنه ليس كذلك ولا يدل على أنه كان جميلا» فرد بقوله «هذه هي مهمة الفن: أن نجمّل الحياة في أقبح صورها. إن هذا الصهريج انطبع في ذهن طفولتي جميلا ولا بد لي من أن أستعيده بنفس الانطباع حتى لو كلن بركة من الوحل ثم إنني كنت بعيد عنه زمنيا ومكانيا عندما وصفته». عبدالله إبراهيم، موسوعة السرد العربي، مج 2، ص 418.
يفهم من الفصل الذي خصصته يمنى العيد لثلاثية حنا مينه أن الشكل الروائي في السيرة الذاتية يكون عادة قناعا يتخفى وراءه الكاتب ليقول ما لا يمكنه قوله في السيرة الذاتية الصريحة، ولذلك تسمي الشكل الروائي «قناعا» ولا تنفيه عن الثلاثية ولكنها تميزه بوظيفته المخصوصة، من ذلك قولها: «قناع الرواية لا يمارس في الثلاثية وظيفة إخفاء المكبوت وستر المقموع» (فن الرواية العربية، ص 75) وقولها: «الخطاب الروائي في حكاية السيرة الذاتية ليس قناعا يختبئ خلفه صاحب هذه السيرة أو يستر مكبوته» (المرجع نفسه، ص 83).
يمنى العيد: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، ص 73.
المرجع نفسه، ص83.
المرجع نفسه، صص 83-89.
حنا مينه: هواجس في التجربة الروائية، ص 12.
صدر الجزء الأول (بقايا صور: 1975) والجزء الثاني (المستنقع: 1977) متتالين دون صدور أية رواية أثناء هذه الفترة، غير أن الجزء الثالث (القطاف: 1986) صدر بعد تسع سنوات، أي بعد صدور خمس روايات هي على التوالي: المرصد (1980)- حكاية بحار (1981)- الدقل (1982)- الربيع والخريف (1984)- مأساة ديمتريو (1985). ولهذا السبب خصصنا «القطاف» دون باقي أجزاء الثلاثية لا لكونها أنضج فنيا فحسب وإنما لتأثرها أكثر من غيرها بأسلوب الكتابة الروائية.
يمنى العيد: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، ص 78.
المرجع نفسه، صص 90-91.
يمنى العيد: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، ص 78.
قائمة المصادر والمراجع:
المصادر:
حنا مينه:
بقايا صور، دار الآداب، بيروت، 1975.
المستنقع، دار الآداب بيروت، 1977.
القطاف، دار الآداب، بيروت، ط1، 1986.
المراجع:
إبراهيم (عبدالله): موسوعة السرد العربي، ج 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2008.
إيدل (ليون): فن السيرة الأدبية، ترجمة صدقي حطاب، بيروت، 1988.
الباردي (محمد): عندما تتكلم الذات، السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005.
التاريخ الجديد، إشراف جاك لوغوف، تر. محمد الطاهر المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، ط 1، بيروت، 2007.
الدرغامي (عادل زايد): إشكالية النوع والتجنيس: السيرة الذاتية نموذجا، ضمن مجلة علامات، ج 65، مج 17، جدة، ماي 2008.
السويلم (حمد): أسلوبية السيرة الذاتية، ضمن مجلة علامات، ج 65، مج 17، جدة، ماي 2008.
العطار (نجاح): مقدمة بقايا صور، دار الآداب، بيروت، 1990.
عيد (محمد صابر): التشكيل السيرذاتي/التجربة والكتابة، دار نينوى، سوريا 2012.
العيد (يمنى):
فن الرواية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، دار الآداب، بيروت، 1998.
السيرة الروائية والوظيفة المزدوجة: دراسة في ثلاثية حنا مينه، ضمن مجلة فصول، مج 15، ع 40، 1993.
الغامدي (صالح بن معيض): كتابة الذات، دراسات في السيرة الذاتية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2013.
ماي (جورج): السيرة الذاتية، تر. محمد القاضي، محمد القاضي وعبدالله صولة. المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات بيت الحكمة قرطاج 1992.
المناصرة (حسين):
السيرة الروائية، جريدة الجزيرة، أفريل 1998.
روائية السيرة الذاتية، ضمن مجلة علامات، ج 65، مج 17، جدة، ماي 2008.
مينه (حنا):
هواجس في التجربة الروائية، دار الآداب، بيروت، 1982.
حوارات وأحاديث في الحياة والكتابة الروائية، دار الفكر الجديد، بيروت، 1992.
Doubrovsky (Serge): L’autofiction, éd. Galilée, Paris, 1977.
Lejeune (Philippe) :
l’autobiographie en France, Armand Colin, Paris, 1998.
le pacte autobiographique, éd. Seuil, Paris, 1975.