حسن المودن
أكاديمي وناقد مغربي
– ملاحظاتٌ وأسئلة وافتراضات
قد أقتنع بأنَّ الحِجاجَ موجودٌ خارج الأدب: فالخطاب الحجاجيّ، أكان مكتوبًا أم شفاهيًّا، له هدفٌ حجاجيٌّ، واضحٌ ومباشر، بخصوصِ موضوعٍ معيّن. ويتجلّى هذا الهدف في الدفاع عن رأيٍ أو وجهةِ نظرٍ (أطروحة) جوابًا عن إشكاليةٍ معينة. فالأمر يتعلّق بإقناعِ مُستَقبِلٍ للخطاب بالانخراط: بأن يغيّر معارفه أو قناعاته أو آراءه، بأن يكون متحمِّسًا لِفعلٍ ما أو تصرّفٍ ما، بأن يشارك في المشاورات والمحاورات المتعلقة بالإشكالية المطروحة.
أمّا الخطاب الأدبيّ، فهو قد يُتَصَوَّرُ بوصفه تسليّةً أو مصدرَ لذّةٍ بالنسبة إلى القارئ: فللأدب قدرةٌ على الهروب والانفلات من قبضة الواقع المعيش، إذ يسمح للقارئ بمغادرة العالَم الواقعيّ نحو عالَمٍ من الوهم. وهنا تلك الحاجة إلى الحُلم، إلى التطلّع، إلى التحليق بعيدًا، وذاك شيءٌ جوهريٌّ بالنسبة إلى إنسانٍ يريد أن يتحرّر، ولو مؤقّتًا، من مهامّه ومسؤولياته الواقعية المعيشة. ولهذا، هناك أعمال أدبية لا تُعدُّ ولا تُحصى لها هذه القدرة على نَقل القارئ نحو أزمنة أخرى، ولها القدرة على السفر به إلى أمكنة مختلفة وفضاءات اجتماعية أخرى، ولها القدرة على جعله يتعرّف إلى أناس آخرين من خلال شخصيات تخييليّة يكون من السّهل أن يتماهى معها.
لكنّ الخطاب الأدبيّ بإمكانه أن يؤدّي وظيفة أخرى طوّرها أهل الأدب على مرِّ العصور: وظيفة التعليم والتثقيف. فهو يسمح للقارئ بإغناء معجمه وتغذية قدراته التعبيريّة، وفوق ذلك، فهو مصدرٌ للتفكير والتأمّل بالنسبة إلى القارئ، ذلك لأنه يسمح له بأن يتعرّف إلى ذاته بطريقة أفضل، بأن يسائل ذاته، بأن يضع الأشياء موضع سؤال. وقد أزعم أن المؤلّفين الكلاسيكيين، في الشرق كما في الغرب، كانوا يتحدّثون عن الأدب بكلمتين: الإمتاع والتثقيف. وكان الجميع، بالأمس وربّما حتى اليوم، يعترف بفضل الأدب في القيام بمَهَمَّةٍ مضاعفة: أن يكون مصدرًا للذّة والإمتاع، وأن يكون في الوقت نفسه مصدرًا للتفكير والتأمّل. ولكن الأدب يبقى أوسع ممّا تقدّم، وبإمكانه أن يخدم الحجاج بأشكال أخرى، وخاصّة عندما يكون الخطاب الأدبيّ حاملا لأفكارٍ هدفها تغيير الإنسان والمجتمع، وهنا نتحدّث عن: «أدب الأفكار Littérature d’idées» وهو الأدب الذي يسمح للأدباء بأن يصارعوا من أجل القيم التي يرونها أهلا لذلك (أخلاقية، سياسيّة، اجتماعية، دينيّة،..). وهذا النوع من الأدب هو الذي تطوّر ليكون له مصطلح خاصّ في القرن العشرين: الأدب الملتزم (Littérature engagée). وهنا أدبٌ غايته الانخراط في تطوير المجتمع، جماعاتٍ وطبقات وأفرادًا. فالأدب سلاحٌ للصراع: يَستخدم الأديب الملتزم إمكانياته اللغوية والأدبية من أجل إثارة انتباه جمهور واسع إلى مشاكل المجتمع وقضاياه مع اقتراح الحلول التي يراها مناسبة. وقد وظّف أدبُ الالتزام كلَّ الأجناس الأدبية الحديثة: وعلى سبيل التمثيل، يمكن أن نستحضر كيف وظّف الأدب المغربيّ الحديث مختلف الأجناس الأدبية الحديثة (شعر، سيرة ذاتية، قصة قصيرة، مسرحية، رواية..)، منخرطًا في الصراع الذي خاضته الحركة الوطنية ضدّ المستعمر الفرنسيّ، أو منخرطًا في الصراع الذي خاضته القوى السياسية والثقافية المغربيّة المعارضة من أجل التقدّم بالمجتمع نحو الأمام، وخاصّة في العقود الأولى بعد الحصول على الاستقلال. والأمثلة عن أدب الالتزام متوفّرة في الآداب العربية والأجنبية.
لكن قد أعود لأتساءل: أغلب هذه التصورات تأخذ الأدب في مضامينه ومحتوياته، والحال أن ما يميّز الأدب هو ما يتعلق بأشكاله وطرائقه ووسائله، فالخاصية الجوهرية للأدب هي أدبيّته، أي طريقته في القول والكتابة. وإذا أردنا أن نتحدّث عن الأدب والحجاج، فلا يمكن أن نغفل البعد الجوهريّ في الأدب: أدبيّته. فهل هناك من علاقة بين هاتين الخاصّيتين: حجاجية الخطاب الحجاجي من جهة، وأدبية الخطاب الأدبي من جهة أخرى؟
بخصوص هذا السؤال الإشكالي الذي لا تخفى أهميته، أستحضر دراسة بعنوان: ” الأدب والبلاغة” لمؤلِّفها جان بيسيير Jean Bessière 1: ينطلق الباحث من أن بيرلمان كان يعيد بناء حقوق الحجاج ضد هيمنة الخطابات الصورية والعقلانية، وفي الوقت نفسه كان ينتقد اختزال البلاغة في الصور الشعرية، مسجلًا أن كل شعرنة للبلاغة إلا ويجعلها تتصادم مع الأسلوبية. ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الخطاب الأدبي إرسالية تركز على ذاتها، وأن طرائقها وألعابها الحجاجية هي غاية في حدّ ذاتها، فإنّ أعمال شاييم بيرلمان (من: البلاغة والفلسفة سنة 1952 إلى: إمبراطورية البلاغة سنة 2002) يمكن أن تكون مفيدة، مع العلم أن هذا الأخير لم يعالج الأدب أبدًا، ولا الروابط بين البلاغة والأدب؛ ذلك لأنه انشغل بنظرية الحجاج الذي يفترض وجود سياق، فلكلّ مقام مقال، والحال أن الأدب، عند قراءته، لا يفترض سياقًا ظاهرًا أو ملموسًا مرتبطًا بمقاصد المؤلِّف. لكن بيرلمان يسجّل، مع ذلك، بعض الملاحظات المهمة: فيلاحظ في مؤلَّفه المشترك مع تاتيتكاه: البلاغة الجديدة، مصنف في الحجاج (1958) أن الطرائق الحجاجية عندما تظهر في الأدب، فهي تبدو متضخّمة. وهذه الملاحظات تكشف خاصية مضمرة ومفارقة في الأدب: فالأدب هو هذا الخطاب الذي يحاجج خارج السياق، والأدب هو هذا الخطاب الذي يجعل من الوسيلة غاية، وحجاجه لا يستهدف سياقا ما؛ أي ذلك السياق المرتبط بمتكلم ما وبمستمع ما؛ ولأنه يجعل من الوسيلة غاية، فهو يختار نفسه، ويمنح القيمة لنفسه بوصفه اختبارًا خِطابيًا؛ ولأنه يعتبر نفسه اختبارًا خِطابيا، ويحتفظ في الوقت نفسه بخصائص من اللعبة الحجاجية، فلا بدّ له، مثل هذه اللعبة، من أن يقدِّم خطابا إلى وعي القارئ. ويخلص جان بيسيير إلى أن البلاغة الجديدة عند شاييم بيرلمان لا تهمّ الأدب بالضرورة، لكنها تسمح، مع ذلك، بأن نحاجج، ونقدم الحجّة، بخصوص موضوع الأدب: فهي تسمح بتمييز الأدب، ولو أن هذا الأخير لا يتضمّن الحجاج داخل السياق. وهذا الدرس من البلاغة الجديدة يحمل خلاصته الخاصة: إذا كان الأدب هو هذا الخطاب الذي يجعل من الوسيلة غاية، فإنّه يتعيّن علينا أن نفهم بأن الأدب لا يكفّ عن الحجاج لصالح ذاته، لصالحه هو نفسه. لكن الأدب عندما يقوم بالحجاج لصالحه فليس بالمعنى الذي يفهمه النقد المعاصر، بما ورثه من الشعريات البنيوية وما بعد البنيوية: أي أن الأدب يحدّد نفسه بنفسه تبعًا للعبة تقوم على المرجعية الذاتية، بمعنى أن الأدب يحيل على ذاته بنفسه، استنادًا إلى تصورات تقول بالأدب الخالص أو أدب الدالّ أو أدب الكتابة أو أدب الأدبية. ذلك لأن الأدب، على عكس ذلك، عندما يجعل من الوسيلة غاية، فإنه لا يكفّ عن الحجاج لذاته ولصالحه بالمعنى الذي يفيد أنه يَعرِض وسائل الحجاج. فالأدب لا يعرض حسابات الحجاج، ولا صلاحية هذه الحسابات بالنظر إلى غاياتها، بل إنه يَعرض وسائل الحجاج باعتبار أنها هي نفسها، في حدّ ذاتها، يمكن أن تُقدَّم إلى الوعي. ومن أجل أن نستعيد مجموع التراث البلاغي والتصورات الحجاجية التي يقترحها شاييم بيرلمان، هناك طريقة بسيطة: توزيع أنواع الوسائل الحجاجية، كما تعرضها البلاغة الجديدة، تبعًا للأجناس الأدبية الكبرى (الرواية، المسرحية، القصة القصيرة، القصيدة الشعرية..) من دون أن نفترض أن لهذه الأجناس غائيات حجاجية. وباختزال شديد، فالأدب يمنح القيمة للوسائل الحجاجية، ويقدمها كما هي للوعي. وبهذا المعنى، فالأدب لا يمكنه إلا أن يكون بلاغيا، وإذا كان من الضروري أن ننتقد شعرنة البلاغة، وأن نرفض اختزال البلاغة إلى شعرية شكلانية، فإن البلاغة، بلاغة الحجاج، يمكنها أن تعيد تحديد الشعرية الأدبية، يمكنها أن تقول أشياء كثيرة للشعرية الأدبية.
وهكذا، فمن كلّ ما ذكرته، يمكن أن أفترض أن للأدب ما يميّزه: فإذا أخذنا بالتصورات السوسيولوجية والتاريخية والنفسية التي تركّز على مضامين الأعمال الأدبية، قد أزعم أن للأدب طرائق خاصّة من خلالها يشعر القارئ بأنّه معنيّ ومتأثّر بالنظر إلى مشاكل المجتمع وقضايا الإنسان التي يطرحها العمل الأدبيّ، وغالبا ما يتجاوز ذلك قضاياه المحلّيّة إلى قضايا الإنسان في كلّ زمان ومكان. فالأدب هو هذا القادر على تمرير الأفكار والمشاعر، الآراء والأحاسيس، القناعات والانفعالات، المعتقدات والعواطف، بطرائق تبدو غامضة، سرّيّة، غير مباشرة، غير بارزة، وقد لا يشعر بها القارئ. وبهذا الخصوص، فالأدب أفضل من تلك الخطابات الحجاجيّة ذات الطرائق المباشرة التي قد لا تخلو من عنف ورغبة في الإخضاع بأيّ وسيلة. وإذا نظرنا إلى الأدب من خلال تصورات شكلانية وبنيوية تركز على أشكاله ودوالّه، فإني قد أفترض أن أهمّ شيء في العمل الأدبي أنه يعرض على قارئه المفترض وسائل للحجاج هي مستهدفة في حدّ ذاتها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بأعمال أدبية تضع الأشياء والوقائع موضع سؤال، وكل شيء عندها لا بدّ أن يكون موضوع نقاش وحوار، وهي بذلك تدعو القارئ المفترض إلى أن يتبنّى السؤال والتفكير والتأمل وإعادة النظر وسائل ضروريّة في خطاباته ومحاوراته وحجاجاته.
وانطلاقا من هذا الافتراض بأن للأدب ما يميّزه، أقترح أن تنطلق هذه الدراسة من التمييز بين خطابين: الأول هو خطاب ذو هدف حجاجيّ، أي أنّه مدعّم بقصديّة واعيّة وباستراتيجيات مهيّأة لهذا الغرض2، والثاني، من مثل الخطاب الأدبيّ، يمكن أن يكون له بُعدٌ حِجاجيٌّ من دون أن تكون هناك إرادةٌ مباشرةٌ في الحجاج3.
ولا تدّعي هذه الدراسة القدرة على الإحاطة بالعلاقة الإشكالية بين الأدب، في مختلف أجناسه، والحجاج، بمختلف وسائله وطرائقه، وبكلّ ما تطرحه على جميع المستويات، بل إنها تقترح التقرّب من عنصر واحدٍ: حِجاج المؤلِّف، مؤلِّف الأدب. فإذا كانت للخطيب مكانة مركزية في الدراسات الحجاجية التقليدية، فإني أفترض أن للمؤلِّف المكانة نفسها عندما يتعلق الأمر بالأدب، بل أزعم أن هذا الأخير يثير أسئلة إشكالية، هي جديدة ومختلفة، وخاصّة عندما يتعلّق الأمر بمؤلِّف جنس الرواية، هذا الجنس الأدبي الحديث الذي يحتلّ اليوم موقع الصدارة بين أجناس الأدب. ومن هنا السؤال الإشكاليّ الأساسُ في هذه الدراسة: ماذا عن حجاج الرواية، وخاصة حجاج المؤلِّف: أي الرّوائيّ؟
وعلى عكس الدراسات الشكلانية والبنيوية التي كانت تقول بموت المؤلِّف، فإنّ هذه الدراسة تحاول أن تعيد المؤلِّف إلى الحياة، وأن تتساءل: هل يمكن الحديث عن حجاج المؤلِّف؟ وبأيّ معنى؟
وإذا كان صحيحًا أنه أواخر الستينيات من القرن المنصرم، كان هناك مَن يقول بـ: موت المؤلِّف (رولان بارت)4، أي كانت هناك دعوة إلى قتل المؤلِّف بصفته فكرةً أو قيمةً، لا بوصفه وجودًا ماديًا ملموسا في المجتمع والتاريخ؛ فإنّه في أواخر القرن نفسه، تعود المسألة من جديد لتفرض نفسها: مَسألة المؤلِّف، أي أنه ستقوم الدعوة من جديد إلى عودة المؤلِّف5– على أن تتحقق عودة المؤلِّف، لا بصفته فكرةً أو قيمةً، بل بصفته حقيقةً تاريخيةً: قد نرفض أفكار النقد البيوغرافيّ التقليدي وأحكامه، لكن هل من الممكن أن ننكر أن هناك كاتبا له وجوده المادي الملموس في مكان وزمان محدّدين؟ وفوق ذلك كلّه، فإن ما يقع في الأدب هو ما يقع في كلّ تواصل: أقولُ شيئًا ما لأحدٍ ما؛ والمشكلة كلّها تتعلّق بهذه الأنا (المؤلِّف) التي لم يَعدْ لها من وجودٍ هنا في الوقت نفسه الذي يوجد فيه شيءٌ ما (النصّ) يُكلِّم أحدًا ما (القارئ).
2 – حِجاج المؤلِّف: الروائيّ
هل يمكن الحديث عن حِجاج المؤلِّف داخل نصٍّ تخييليٍّ؟ هل يمكن الحديث عن حِجاج الروائيّ داخل نصّه الرّوائيّ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نميّزه عن الأصوات السرديّة التي يبقى عالقًا بداخلها: هناك من جهة أولى، صوت الشخصية المحورية وأصوات الشخصيات التخييلية الأخرى؛ وهناك من جهة ثانية، صوت السارد وأصوات الرواة الآخرين الذين قد يشاركون السارد مَهَمَّتَه؟ كيف نميّز بين حجاج المؤلِّف وحجاج الشخصية وحجاج السارد؟ أهناك أصلا تمييز بين هذه الحجاجات أم أنها تتضافر جميعها وتنصهر داخل البناء الحجاجي العامّ للنص الروائيّ؟ وإذا كان هناك من تمييز، ما هو الوضع الاعتباري الذي يمكن أن يُمنَحَ للمؤلِّف وحجاجه؟
هذه أسئلةٌ إشكاليّةٌ تطرح العديد من الصعوبات، وهي صعوبات “صادرة عن ذلك الإطار من التواصل المعقّد الذي يَنشَط بداخله كلُّ حِجاج في مقام التخييل”6. فعندما يتعلّق الأمر بخطبة، سياسيّة أو دينية، أو عندما يتعلّق بمقالةٍ في جريدةٍ أو مجلة، فإنّ هناك متكلّمًا واحدًا يتوجّه إلى جمهور، وخطابه يجري على مستوى واحد. وبالعكس، ففي التخييل، تكون أطراف التلفّظ بطبيعتها متنوعة، حتّى إن المحكي يشتغل على مستويات عديدة ومتزامنة7: على مستوى أول، هناك حجاج الشخصية، وقد يتعلّق الأمر بالشخصية المحوريّة (البطل) التي تتوجّه بخطابها إلى مخاطب تخييلي، كما قد يعني الأمر شخصيات تخييلية أخرى داخل النصّ الروائيّ نفسه. وعلى مستوى ثانٍ، هناك حجاج السارد، سارد بضمير الغائب أو بضمير المتكلم، سارد تقليدي أو سارد بهوية جديدة، يتوجّه بخطابه إلى مسرود له موجود بصيغة ظاهرة أو ضمنية. وعلى مستوى ثالث، هناك حجاج المؤلِّف الذي يظهر اسمه على غلاف الرواية، وهو يتوجّه بنصّه إلى قرّائه المفترضين. وأقترح أن نتوقّف قليلا عند كلّ مستوى على حدة:
حجاج الشخصية:
قد أفترض أنّ النصّ الروائيّ يوفّر مَنفذًا سهلا إلى حجاج الشخصية، فلخطابها حضورٌ ماديٌّ ملموسٌ في النصّ الروائيّ. ويمكن أن نجد أجوبة عن أسئلتنا سواء منها ما يتعلق بالصورة التي تبنيها الشخصية التخييلية عن نفسها، أو بالصورة التي تبنيها عن الشخصيات التخييلية الأخرى (صورة المجرم، المحقّق، العادل، الظالم، الضحية، الجلاد، الأشرار، الأخيار…) وبالمثل، يمكن أن نستخرج من النصّ الوسائل البلاغية التي تجنّدها الشخصية في حجاجها وخطابها: مثلا، غالبا ما نجد هناك تركيزًا في خطاب الشخصية على إعادة تعريف بعض الكلمات: لنأخذ كلمة (الأمّ)، في رواية: لعبة النسيان (1987) للروائي المغربي محمد برادة، تعيد الشخصية التخييلية (الهادي) تعريفها أكثر من مرّة حتى يبدو كأنّ المَهَمَّة المركزيةَ لهذا النص الروائي هي إعادة تعريف هذه الكلمة الإشكاليّة: الأمّ، كما قد يتّضح من هذه الأقوال:
«أقول الآن: الأمُّ، كالموت، لا يُفكَّر فيها إلا من خلال الافتقاد..8.
«يصعب أن نتحدث عن الأمّ. كلّ أمّ تملأ فراغات متعددة. تنتصب شجرة وارفة الظلّ نلجأ إليها. نعاملها بمنطق مغاير لما نتعامل به مع الآخرين. حتى حين تقسو تظلّ في أعيننا ذلك الطائر الناذر والواحة الظليلة»9.
وتزداد كلمة (الأمّ) استشكالا إذا استحضرنا شيئا مهمًّا فعله الهادي -وهو شخصية محورية وواحد من الرواة-: اقترح الهادي في اجتماع حزبي أن يكون موضوع الحديث هو: الأمّ، وكان ذلك شيئا مثيرا للاستغراب، لأن الاجتماع جاء بعد أن تعرّض الحزب لحملة شرسة من القمع!
وأحيانا، قد تستخدم هذه الوسيلة البلاغية (إعادة تعريف كلمة محورية أو أكثر) بطريقة أكثر تعقيدًا واستشكالا: ففي رواية: اللص والكلاب (1961) للروائي المصريّ نجيب محفوظ، نجد الشخصية المحورية (سعيد مهران) وشخصية أخرى لا تقلّ أهمية (رؤوف علوان) تعيدان تعريف كلمة (اللص): من المنظور الاشتراكي كما يفهمه رؤوف علوان، فاللصّ قد يكون هو من يسرق الفقراء من أمثاله، أما الفقير الذي يسرق الأغنياء، فهو ليس لصّا لأنه يستردّ ما سرقه الأغنياء من الفقراء. و(الكلاب) عند سعيد مهران لا يطلقها على الكلاب البوليسية التي تطارده، بل هو يطلقها على كل الخونة الظالمين، وعلى كل من خانه أو ظلمه أو لاحقه وطارده: ففي نهاية الرواية، كان يصرخ سعيد مهران في وجه مجتمعه كلّه: يا كلاب! ويزداد الأمر استشكالا عندما نلاحظ أن المؤلِّف نفسه قد اختار هاتين الكلمتين (اللص والكلاب) عنوانا لروايته، وكأنه يدعو هو الآخر، بطريقة غير مباشرة، إلى إعادة تعريف الكلمتين، كأنهما كلمتان مركزيتان تحتاجان إلى إعادة تحديد. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: أيتبنّى المؤلِّف تعريفات الشخصيات التخييلية لهاتين العبارتين أم أنّه يكتفي بوضعهما موضع سؤال باعتبار أنهما كلمتان إشكاليتان تحتاجان إلى إعادة تفكير وتأمّل ومساءلة؟ ففي افتراضي، أنّ المؤلِّف يريد أن يدعو القارئ إلى إعادة تحديد هاتين العبارتين: من هو اللص، أهو سعيد مهران أم عليش أم رؤوف علوان؟ وما هي الكلاب: أهي تلك الحيوانات المعروفة بالإخلاص والوفاء أم هي الكلاب البوليسية التي تطارد اللصوص والمجرمين أم هؤلاء السفلة الخونة (نبوية؛ عليش؛ رؤوف علوان)؟
أيكفي أن أستحضر هذه القولة من الرواية حجة على أن حجاج الشخصية، ومن ورائه حجاج المؤلِّف، ليس هدفه وضع تعريفات قاطعة حاسمة، بل هدفه أن يدفع القارئ إلى التأمّل وإعادة النظر وممارسة السؤال والتفكير والأخذ بعين الاعتبار أن الأشياء والكلمات ذات طابع إشكالي:
“أليس عجيبًا أن يكون علوان على وزن مهران؟! وأن يمتلك عليش تعب عمري كلّه بلعبة الكلاب؟!”10.
حجاج السّارد:
ماذا عن حجاج السارد؟ وما الذي يعطيه للمسرود له كي يلتقطه من وراء ظهر الشخصية، وربّما بطريقة تكون فوق ما تقوله كلمات الشخصية؟ وبالنظر إلى التطورات والتحولات التي عرفها هذا العنصر المهمّ من عناصر التلفظ الروائي، تظهر أسئلة جديدة: ماذا عن السارد المجهول العالم بكلّ شيء في الرواية التقليدية، وخاصّة فيما يسمى بالرواية- الأطروحة؟ ماذا عن هذا السارد التقليدي الذي يشكّل صوتًا غيرَ مُجسَّدٍ، يقول الواقع ويعرض مجرى التاريخ الاجتماعي والشخصي، وينشر معرفة أحاديّة- الصوت، وله تصورٌ شموليٌّ ونظرةٌ عامّة وتعليقاتٌ عالِمَةٌ بكلِّ شيء؟ وهنا، يمكن أن أستحضر الروايات الأولى لنجيب محفوظ من مصر، ولعبدالكريم غلاب من المغرب، ولأغلب الروايات الأولى في أدب الالتزام العربي. وإذا وصفته بالتقليديّ، فلأنّ هناك في افتراضي ساردٌ بهُويةٍ جديدة، أقترح نماذج وأمثلة على ذلك:
أولا، إذا أخذت رواية: موسم الهجرة إلى الشمال (1966) للروائي السوداني الطيب صالح، وهي من الروايات المؤسِّسة للرواية العربية الجديدة خلال الستّينيات من القرن المنصرم، فإنَّنا نجد أنفسنا أمام نصٍّ روائيٍّ، السارد فيه وإن كان مجهولَ الاسم، فهو شخصية مشاركة وفاعلة وتنتمي إلى الأرض التي تجري فيها أغلب الأحداث، وله تجربة شبيهة بتجربة الشخصية المحورية، مصطفى سعيد. لكن الجديد هنا أن الرواية مؤسَّسةٌ على بحثٍ وتحقيقٍ وحوار: فالسارد ليس عالِمًا بكلّ شيء، فهو لا يعرف أيَّ شيءٍ عن موضوع بحثه (مصطفى سعيد)، وهو يمارس البحث والتحرّي والتحقيق بحثًا عن المعرفة، معرفة حقيقة هذا الغريب الذي استقرّ ببلدته بهوية غير هويته الحقيقية. والسارد هنا لا يسعى إلى تمرير خطاب أحادي الصوت، بل هو يُسمِعنا صوتَ الشخصية المحورية في أجزاء كثيرة من النص، وفوق ذلك، ففي أكثر من زمان ومكان، يَدخلُ معه في حوارات، بل إنّ صوته الداخلي (مونولوجاته الداخلية) هو في حوار متواصل مع صوت مصطفى سعيد. وبعبارة أخرى، وعلى عكس السارد التقليديّ، ففي رواية الطيب صالح، هناك ساردٌ يرفض إعطاءَ حُكمَ قيمةٍ مسبقًا حول موضوع بحثه، وهو يستبدل اليقين القطعيَّ بقائمة من الملاحظات، والشكوك والتأملات والأسئلة والافتراضات. فالسارد هنا ليس هدفه إقناع مخاطبه بأطروحةٍ معينة، بل هدفه أن يدفعه إلى السؤال والبحث والتفكير. وأزعم أن أهمَّ ما يميّز رواية الطيب صالح الشهيرة أنّ السارد لا يُسمِعنا صوتَه فقط، ولا يسمعنا الأصوات الشبيهة بصوته فحسب، ولا يجعلنا نعتقد أنّ صوته وحده يحمل الحقيقة، بل إنه يعمل على إسماع ذلك الصوت المختلف، ذلك الصوت الغريب، صوت خصمه وغريمه مصطفى سعيد. وبذلك، فنحن أمام سارد لا يتمركز حول ذاته، بل إنّه يعمل على إدماج الآخر في قلب صوته وخطابه، فالرواية تبدو كأنها خطابٌ مزدوج، حوارٌ ثنائي بين السارد المجهول الاسم وبين الشخصية التخييلية مصطفى سعيد، يتبادلان الأدوار (قد يتحول مصطفى سعيد إلى سارد، وخاصّة عندما يتعلق الأمر بسرد حياته بلسانه)، كأنما الصوت لا يمكن أن يكون إلا ثنائيًا مزدوجًا، كأنما هوية السارد وصورته، كما هوية الشخصية وصورتها، لا يمكن أن تكون ذاتَ بُعد أحادي، بل هي مُضاعَفة بالضرورة، لأن الآخر جزءٌ لا يتجزّأ من الذات11. وهنا، يمكننا أن نتساءل: أبهذا الشكل كان الخطيبُ التقليديُّ، في الخطابة السياسية أو الدينيّة، يبني هُويتَه وصورتَه من داخل خطابه، مُوظِّفًا إياها في حجاجه وإقناعه؟ هل هناك من خصائص تميّز الإيطوس كما يتأسّس في الرواية، وخاصّة في الرواية العربية الجديدة التي حاولتُ أن أوضّحَ بعضَ ما يميّزها عن الرواية التقليدية؟
ثانيا، ماذا عن الصوت السرديّ الذي يأتي مزدوجًا ملتبسًا يحوي صوتَ السارد وصوتَ الشخصية في الوقت نفسه (وله توصيفات اصطلاحية: عندما يتعلق الأمر بكلام خارجيّ للشخصية تبنّاه السارد وأدمجه في خطابه من دون إجراء التعديلات المتّفق عليها عند نقل خطاب الشخصية، يسمّى هذا: أسلوب غير مباشر حرّ؛ وعندما يتبنّى السارد الكلام الداخلي للشخصية (المونولوج الداخلي) من دون إجراء تعديلات، يسمّى هذا: مونولوج مسرود)؟ أقترح نصًّا روائيًّا للروائي المغربي مبارك ربيع: الرّيح الشتويّة (1977) لإلقاء الضوء على هذه الخاصية في صوت السارد (الصوت المضاعف الملتبس)، على أنّ سؤالي الإشكاليّ هو: ماذا عن حجاج هذا الصوت السرديّ المزدوج الذي يحوي في الوقت نفسه: السارد والشخصية؟ لنأخذ هذا المثال حيث يجد القارئ نفسه منذ الأسطر الأولى من الرواية داخل فكر الشخصية الروائية المحورية:
«ما الذي يقع فتتحول الخواطر إلى إبر تخز الجنب؟ ويجفو الكرى فراش الشوك؟ لم ينتفض القلب فجأة حتى تملأ نبضاته السمع ثم تهن فلا يتصيّدها المتلمّس؟ … والجراح الخفية من أين مأتاها ومذهبها؟ … وتطلّع العربي الحمدوني إلى الشمس الهاربة نحو المغيب دون أن يجد جوابا، ألف خاطر سيئ ينتابه، ولا بدّ من الانتظار..»12.
وعلى عكس المألوف، لم تفتتح الرواية بكلام السارد بل بكلام الشخصية، والأكثر من ذلك بكلام الشخصية الداخلي. وليس هناك من علامات كتابية تدلّ في بداية الكلام على من هو صاحبه، ولا شيء يفصل بين كلام الشخصية وكلام السارد، هذا الأخير الذي جاء فيما بعد ليشير بطريقة غير مباشرة إلى أن الكلام السابق هو كلام العربي الحمدوني، الشخصية المحورية في الرواية. واللافت للنظر أن كلام العربي الحمدوني الداخلي قد تمّت صياغته في لغة أدبية استعارية عالية يصعب أن ننسبها إلى شخصية ذات أصول بدوية فلاحية، ولم تتلقّ من التعليم ما يسمح لها بمثل هذه اللغة الأدبية الراقية. فهل تكفّل السارد بإعادة صياغة الخطاب الداخلي للشخصية بلغته هو لا بلغة الشخصية؟ لقد كان من الأنسب ربّما أن يقدّم كلام الشخصية الداخلي باللغة العامية المغربية. لكن إذا أعدنا تأمّـل الأمر سنلاحظ أن الكلام هو كلام الشخصية الداخلي، وأن لغة الكلام هي لغة السارد، والخطاب في مجموعه مزدوج متداخل، والقصد هو الربط بين السارد والشخصية، وخلق تناغم بين الصوتين والخطابين والرؤيتين. وهذا صوتٌ سرديٌّ بخصائص جديدة، لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار عندما ندرس حجاج السارد: ماذا عن حجاج ساردٍ لا يفصل بين صوته وصوت الشخصية المحورية في الرواية؟ أيعني ذلك أن السارد يتبنّى صوت الشخصية وبالتالي حجاجها، أم أن ذلك يعني أن السارد يعيد صياغة خطاب الشخصية بالشكل الذي يخدم أهداف حجاجه؟ يمكن أن أزعم أن هذا الصوت السردي، المزدوج والمتداخل، يسمح بالحدّ من سلطة السارد بضمير الغائب وهيمنته، ويحوّله إلى سارد أكثر قربًا من الشخصية، وأكثر تعاطفًا معها، وهو ما يجعل الخطاب يأتي مزدوجا متداخلا، يجمع بين السارد والشخصية في الوقت نفسه، كأنّ الخطاب لا يمكن أن يكون إلا ثنائيا لا أحاديا، مزدوج الصوت حواريا تتداخل فيه الأصوات واللغات والرؤى وتتفاعل. ومن جهة أخرى، غالبًا ما يتميّـز هذا الصوت، الذي يتداخل فيه صوت الشخصية بصوت السارد، ببنيته الانفعالية، ولهجته الحميمية، ولغته المضطربة المتقطعةّ، فهو يقدم فيضا من الاستفهامات والتعجبات والتكرارات والبياضات والانقطاعات المفاجئة والتلميحات والإضمارات… وهو بهذا يسمح بإبراز النفس المضطربة والفكر المبلبل والشرخ الداخلي، بشكل يجعل المحكي بوضع اعتباري إشكالي، لأنه محكي يجمع بين الحدث والتعبير الداخلي، ويمزج بين ما يحدث في العالم الخارجي وما يضطرب في العالم الداخلي، ويتنقّل بين المرئي واللامرئي، ويربط بين كلام يعود إلى السارد وكلام منسوب إلى الشخصية. وهنا السؤال: ماذا عن حجاج السارد عندما يكون ببنية أسلوبية انفعالية لا تريد إقناع مخاطبها بشيء محدد قدر ما ترمي إلى أن تنقل إليه قلقًا وشكًّا وسؤالا إشكاليّا يصعب الجواب عنه بجواب حاسم ونهائيّ؟
ثالثا، ماذا عن الروايات التي يبدو فيها السارد غائبا، لا صوت له، يكتفي بالإدارة والتنظيم، ويكلّف شخصياته بمَهمَّة السرد؟ ماذا عن حجاج هذا النوع من السارد؟ لإلقاء المزيد من الضوء على هذا النوع، أقترح رواية أفراح القبة (1981)13 للروائي المصري نجيب محفوظ: تتكون الرواية من أربعة فصول أساس، كل فصل يحمل اسم فرد من أفراد عائلة كرم يونس، إلا فصلا واحدًا نجده يحمل اسم شخصية وإن لم تكن من العائلة، فقد كانت لها علاقة بالكثير من الوقائع في حياة هذه العائلة. وهكذا، لم نعد أمام حكاية متماسكة متسلسلة من البداية إلى النهاية كما في رواية سابقة لنجيب محفوظ: بداية ونهاية (1949)، بل نحن في أفراح القبة (1981) أمام رواية موزعة إلى فصول، كأنما التفكّك الشكلي علامة أخرى تدعم مضمون الحكاية: تفكّك العائلة، وتتلاءم مع سؤال الرواية الإشكاليّ: ماذا عن فساد العائلة وتفكّكها؟
واللافت للنظر أننا في هذه الرواية أمام “رواية عائلية” متعددة الأصوات، لا تتأسّس على حكاية واحدة متسلسلة يتحكم في خيوطها ساردٌ واحدٌ كما في روايات محفوظ السابقة، بل هي تتألّف من حكاية واحدة محكية من لدن أصوات متعددة، كل صوت سردي إلا ويحكي هذه الحكاية العائلية من منظوره الخاص، ومن داخل ذاتيته، مما يجعلنا أمام محكيات متجاورة متناظرة موضوعها واحد: الحكاية العائلية، لكنها محكية من منظورات متعددة: منظور الابن، منظور الأب، منظور الأمّ… ويمكن أن أفترض أن هذه الرواية لارتكازها على مبدأ التذويت قد تمكّنت من الخروج من مأزق الاحتوائية الذي تَـمثّـلَ في الرواية التقليدية التي كان نجيب محفوظ من مؤسِّسيها. ففي أفراح القبة يتم الاستغناء عن ذلك السارد بضمير الغائب، المجهول المهيمن، العالم بكل شيء، من جهة، لأن محكيات الرواية مسرودة بضمير المتكلم (أوتوبيوغرافيات تخييلية)، ومن جهة ثانية، لأن المونولوج الداخلي يهيمن على هذه المحكيات التي وإن كانت أوتوبيوغرافية، إلا أنها ليست مرتَّـبة ومصوغة من خلال البنى المألوفة في الأتوبيوغرافيات التقليدية، وذلك لاعتمادها على طرائق السرد النفسي وصيغه، بحيث تسرد لنا الشخصية حياتها العائلية من داخل نفسيتها، ومن باطن داخليتها، الأمر الذي يجعل هذا السرد مَـكسُـوًا بحمولاتٍ وآثارٍ نفسية لها أثر كبير على إيقاع السرد وأسلوبه. وعندما ينمحي السارد بأقصى درجةٍ ممكنةٍ تاركًا المكانَ لوعي شخصيته المكشوف، فإنه بذلك يَـحضرُ صوتُ الشخصية بقوة، هذه الأخيرة التي لم تعد تؤدي وظيفة “الفعل” فحسب، بل أضحت تأخذ مبادرة الكلام مبرزةً مواقفها وأفكارها وشكوكها واستفهاماتها وأحاسيسها وانفعالاتها…
وانطلاقا من هذه الملاحظات، يمكن أن أفترض أن “الرواية العائلية” في رواية أفراح القبة، وإن كانت تطرح مسألة التفكك على مستوى المضمون (تفكّك العائلة وتمزّقها)، فإن ذلك التفكّك قد تحوّل، على مستوى الشكل الفني، إلى إمكانية تسمح بخصائص جمالية وقيمية تستحقّ الانتباه. فنحن أمام رواية تتميّز بالتدعيم الجمالي للمبدأ الحواري، رواية بوليفونية متعددة الأصوات، فيها تتقابل وتتعارض الملفوظات، وفيها يقوم خطابُ كلّ شخصيةٍ بترجمة العلاقات المتوتّـرة والنزاعات القائمة بين عناصر العائلة الواحدة… وهناك تقابلُ الأصوات وتداخلها وتعارضها (الصوت الداخلي/ الصوت الفني/ الصوت الاجتماعي/ الصوت الفردي/ الصوت السيكولوجي/ الصوت المتزن/ الصوت المضطرب…). فصوت الشخصية يتقدم ردًّا على صوت آخر بهذا القدر أو ذاك من التكرار الجزئي والتصحيح والاستفهام والتعجّـب؛ وغالبًا ما يكون الصوت إعادة إنتاجٍ تنحو نحوَ التباعد والتنازع والتعارض (بالسخرية، والسجال، والإهانة، والاستفهام، والتعجّـب…). ويبقى السؤال الإشكاليّ في هذه الحالة: ماذا عن حجاج السارد عندما يكتفي بمهمّة الإدارة والتنظيم ولا يجعلنا نسمع له صوتًا مباشرًا؟ ماذا عن حجاج السارد عندما يتخلّى هذا الأخير عن مَهمَّة السرد ويمنحها بالتناوب لشخصياته؟ أيمرّر شيئا ما من خلال أصوات الشخصيات أم أنه من خلال تنازله عن سلطته ومن خلال عمله على أن يتعدّد الساردون والرواة يريد أن يمرّر رسالة ما؟ ماذا عن حجاج السارد عندما يتأسّس على الحواريّة وتعدّد الأصوات، لا على أحاديّة الصوت والعلم بكلّ شيء كما هو الحال عند السارد التقليدي؟
رابعا، لننظر إلى السارد في لعبة النسيان (1987)، فهذا نصّ روائيّ بهويّة إشكالية على مستويات عديدة: أولا، من حيث الانتماء الجنسي، قد نقول إن النصّ رواية باعتبار أنّها ليست سيرة ذاتية تقليدية يتطابق فيها اسم المؤلّف واسم الشخصية واسم السارد، وقد نقول إن أغلب المعطيات الشخصية والاجتماعية والثقافية والسياسية هي مستمدّة من حياة المؤلِّف، وإن غيَّرَ أسماء الشخصيات، ومنحَ التخييلَ مكانة مُهمّة في محكي يبدو أنّه أوتوبيوغرافيّ، وهذا ما دفع البعض إلى اعتبار النص تخييلا-ذاتيا. لكن اللافت في لعبة النسيان هو ما يتعلّق بالسارد وهويته التي جاءت مختلفة بطريقة جذرية عن السارد التقليدي: فالسارد هنا ليس واحدًا مُوحَّدًا، بل هو متعدّدٌ، فهناك أكثر من سارد وأكثر من راوٍ، بل وهناك راوي الرواة، وقد يتدخّل هذا أو ذاك في تذكير الآخر بما نسيه في سرده، وقد يعارضه في المعنى الذي يعطيه للوقائع، وقد يضيف إليه معلومات ومعطيات أخرى ليست في علمه. وفوق ذلك، فقد يقوم سارد واحد بتحليل ذاته ومساءلة خطابه وهويته وحدود عمله وتفكيره، وفد يكون هناك خلاف بين الرواة والسّرّاد، وقد يكون هناك خلاف أو اختلاف بين راوي الرواة والمؤلِّف، فلكلّ واحدٍ طريقته في القول وغايته منه، ولكلّ واحدٍ معطيات هي ربّما غير ما يملك الآخر؛ والشيء اللافت أن الراوي أو راوي الرواة قد يتوقف من أجل تحليل ذاته وإعادة التفكير في خطابه وهويته ومساءلة علاقاته بالآخرين والنظر في حدود عمله:
“لعلني تسرعت في الإفضاء بتأملاتي هذه حول ما حكاه لنا رواة هذا الفصل. وقد لا يكون ذلك هو ما قصد إليه الكاتب لأن التعليقات التي أثبتها على الهوامش، تلح كثيرا على أن الزمان لا يوقر أحدا، وأنه غير مطمئن إلى الطريقة التي تصور بها علاقة الطايع بالهادي. وفي رأيه -إذا جاز لي أن أغامر بالاستخلاص-أن استقصاء الحالات وتشخيصها، عملية لا تقف عند حد: فكلما توخينا الدقة، كلما اتسعت الدائرة، وبرزت عناصر أخرى لاتخلو من تأثير. فتتوالد افتراضات تتقاطع مع الأولى. من ثم، فإن الكاتب سلّمني مجموعة أوراق ملحقة، تشتمل على بلاغات وخطب وقصاصات صحف، وريبورتاجات مستنسخة عن الإذاعة…فوجدتني محتارا عند الاختيار. لذلك، آثرت أن أكتفي، هنا، بإيراد عينة فقط من تلك الأوراق الملحقة…”14.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ماذا عن حجاج السارد في رواية عربية جديدة تعمل على أن يتفكَّك السارد وأن يتعدّد على عكس الرواية التقليدية التي كانت تجعله واحدًا مُوحَّدًا، وحده العالم بكلّ شيء والمالك لكلّ الحقيقة؟ ماذا عن العلاقة بين المؤلٍّف وراوي الرواة في رواية من مثل لعبة النسيان حيث الكاتب يقدّم لراوي الرواة وثائق عديدة ليستند إليها في سرده وروايته، ولكن هذا الأخير يعترف بحيرته وعدم معرفته بالطريقة التي سيستثمر بها كل الوثائق والأوراق التي تسلّمها من المؤلِّف؟ أزعم أن الرواية الجديدة، بتفكّك السارد وتعدّده، تسعى في ذلك كلّه إلى تنسيب الحقيقة، وكأنّ هذه الأخيرة لا يملكها أيّ واحد، والحصول عليها يكون بالمقابلة بين أصوات سردية متعددة ومختلفة، فبواسطة الحوار بين صوتين سرديين أو أكثر تتأسّس الحقيقة، وبواسطة تعدّد الأصوات، لا أحادية-الصوت، تنكشف حقيقة الموضوع المطروح، جزئيًّا لا كلّيّا.
حجاج المؤلِّف:
إلى هذا الحدّ، يمكن أن أتساءل: كيف يتأسّس حجاج المؤلِّف؟ وما علاقاته بحجاج الشخصية (الشخصيات) وحجاج السارد (السرّاد والرواة)؟
وإذا حصرتُ الأمر في المؤلِّف والسارد، فإنّي أتساءل: كيف يتميّز المؤلِّف، الروائيّ هنا، عن السارد بضمير الغائب، بما أنه سارد مجهول يمكن الخلط بينه وبين المؤلِّف؟ وما الفائدة من التمييز بين صوت السارد وصوت المؤلِّف؟ وماذا عن الروايات التي تأتي بضمير المتكلّم، ألا يكون هناك نوع من الخلط أيضا، وخاصة عندما يتعلق الأمر بروايات تنتمي إلى هذا الجنس الجديد الذي أشرت إليه أعلاه: التخييل الذاتي؟
قد يكون الجواب في المرجعيّات الزمانية، أي في زمن التلفّظ الخاصّ بكلّ واحد منهما: المؤلّف/ السارد: وأقترح الوقوف هنا عند نموذجين:
– ففي رواية بضمير الغائب، من مثل: اللص والكلاب، فالرواية نشرت بداية الستينيات من القرن المنصرم (1961)، لكن ما يسرده السارد من وقائع يتعلق بمرحلة زمانية سابقة: الخمسينيات، وخاصّة بعد ثورة الضباط الأحرار سنة 1952، وبدايات التجربة الاشتراكية الناصرية في مصر. وإن كانت الرواية قد صدرت والتجربة الناصرية لا تزال قائمة، فإنّ هناك فاصلا زمانيا يسمح للمؤلّف باتّخاذ مسافة ممّا وقع، وهي مسافة تسمح له بالتأمّل والتفكير والسؤال: ولذلك، افترضت أن العبارتين الإشكاليتين اللتين تشكّلان العنوان لا تتعلّقان بلصٍّ عاديّ كان يسرق بيوت الأغنياء وتعرّض للخيانة والسجن، فقرّر الانتقام من الجميع. بل إن المؤلِّف يوسِّع النقاش ويستشكل السؤال: أيكون اللصّ هو هذا الفقير الذي كان يسرق بيوت الأغنياء بعد أن أقنعه رؤوف علوان، الطالب المقتنع بالأفكار الاشتراكية، بأن ذلك جائز ما دام الأمر يتعلق باسترداد ما سرقه الأغنياء من الفقراء، أم أن اللص هو هذا الذي يدّعي أنه اشتراكيّ في خطابه (رؤوف علوان بعد أن أصبح صحافيا ومن أعمدة النظام الجديد) لكنه عمليّا قد أصبح من الأغنياء وأصحاب السلطة والنفوذ؟ وما يسمح لي بأن أنسب هذا السؤال الإشكاليّ إلى المؤلّف الروائي هو أمر لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار عندما يتعلق الأمر بحجاج المؤلّف: مفهومه للرواية، وموقفه من داخل الحقل الأدبيّ لعصره. وقد أزعم أن نجيب محفوظ هو رائد المدرسة الواقعية الاجتماعية في الأدب الروائيّ العربيّ الحديث، وتكوينه الفلسفي والأدبي كان يمنح رواياته تلك الروح النقدية التي لا تهدف إلى الإقناع بأطروحة محددة، بل هدفها الدفع إلى السؤال والتفكير. ورواية اللص والكلاب صنّفها النقّاد على أنها مؤسِّسة جنس جديد من الرواية: رواية تيار الوعي. وأهمّ خاصيّة في رواية نجيب محفوظ من هذه الناحية أنها مسرودة بصوت مضاعف ملتبس: ففي كثير من الأحيان يصعب التمييز بين صوت السارد وصوت الشخصية، إلى حدّ يجعل القارئ يتساءل: لماذا اختار المؤلِّف هذا الصوت السرديّ الذي يتداخل فيه صوت السارد وصوت الشخصية؟ والسؤال الأكثر أهمية: لماذا اختار المؤلِّف ساردًا يتبنّى صوت شخصية تخييليّة توصف باللصوصية والإجرام؟ أيتعلّق الأمر بتعاطف ضمنيّ يمرّره المؤلِّف إلى قرّائه المفترضين من وراء هذا الصوت السردي المضاعف والمتداخل؟ أبهذا النوع من الصوت، يريد المؤلِّف من قرّائه إعادة التفكير في كلمات ومصطلحات ومفهومات (اللص/ الكلاب/..) نستخدمها بحمولات غير صحيحة أحيانا؟
– وفي رواية: لعبة النسيان يكون الأمر أشدّ تعقيدًا: الرواية صدرت أواخر الثمانينيات بعد أن بدأت الخطابات الأيديولوجية الكبرى (الأيديولوجيات الوطنية والقومية؛ الأيديولوجيات الاشتراكية واليسارية..) تنكسر وتتراجع ولم تعد بالقوة التي كانت لها في الأزمنة التي عاشها الهادي وأخوه الطايع، من الأربعينيات إلى السبعينيات من القرن المنصرم. وهكذا، فلا شك في وجود اختلاف في المرجعية الزمانية، كما في المواقف والأفكار، بين مؤلِّف نهاية الثمانينيات وبين شخصيات تخييليّة أو سرّاد ورواة عاشوا في أحضان تلك الأيديولوجيات خلال العقد الخامس والسادس والسابع من القرن المنصرم. لكن إذا كان من السهل تحديد المرجعيات الزمانية والفكرية والأيديولوجية للهادي الذي يؤدي دور السارد أيضا، فإن السؤال يبقى: ماذا عن راوي الرواة: أهو أكثر قربا من المؤلِّف، زمانيا وفكريًّا وأيديولوجيًّا، أم أنّه أقرب إلى شخصياته؟
وفي الأحوال كلّها، تبقى هناك أسئلة مهمّة تحتاج إلى المزيد من التنظيرات والتطبيقات، ومن أهمّها: كيف يتشكّل حجاج المؤلِّف على أساس كلام السارد وكلام الشخصية؟ وتبعا لأيّ طرائق يجري اندماجه داخل البناء الحجاجيّ العامّ؟ وقبل ذلك كلّه، أين يمكننا أن نجد لحجاج المؤلِّف آثارًا ملموسة؟ وكيف يمكن لصوت المؤلِّف، الذي غالبًا ما يريد لنفسه أن يبقى خفيّا غائبًا، أن يكون جزءًا من ماديّة الخطاب؟ وانطلاقًا من أيِّ شيءٍ يكون بالإمكان استخراج حجاج المؤلِّف، وما الذي ينبغي لهذا الحجاج أن يتضمّنه؟
ماذا لو أخذت بالتمييز الذي كان قد تحدّث عنه الروائي الفرنسي مارسيل بروست (1871م – 1922م)15 أن مؤلِّف العمل الأدبي مختلفٌ عن الشخص الواقعي (الكاتب) الذي قد أصادفه في الحياة اليومية؟ كيف أميّز بين حجاج كلّ واحد منهما؟ وإذا كان من الممكن أن أدرس حجاج الأول من داخل العمل الأدبي، فكيف سأدرس الثاني؟
ماذا لو أخذت بالتمييز الذي وضعه الناقد الفرنسي المعاصر بيير بيار، وخاصة في كتابه الذي صدر سنة 2010 بعنوان: ماذا لو غيّرتْ الأعمالُ الأدبيةُ مؤلِّفَها؟16: بالنسبة إلى بيير بيار، هناك ثلاثة وجوه للمؤلِّف: المؤلِّف الواقعي (بوجوده المادّي الفيزيقي)؛ المؤلِّف الداخلي (الأنا داخل العمل الأدبي، كما تَصوَّرها مارسيل بروست في نصّه المذكور أعلاه) وهو غير الشخص الواقعي؛ المؤلِّف المتخيَّل (أن أبتكر مؤلِّفا للمؤلَّف، وهو من نتاج تخييل خالص)؟ ماذا عن حجاج المؤلِّف عندما يتعلق الأمر بهذا التمييز الثلاثي؟
وعندما يتعلّق الأمر بالمؤلِّف الواقعي، هل من الضروريّ إدراج آرائه التي يُعبِّر عنها خارج نصوصه الروائيّة: في تصريحاته الصحافية ومقابلاته الإعلامية، في مذكّراته ويوميّاته، في مقالاته ورسائله..؟ وتبعًا لأيّ طرائق، سيكون من حقّنا أن نفرض على النصّ الروائيّ معطياتٍ من خارجه؟
3 – من دون استنتاجات قطعية:
أيكون من حقّي أن أفترض أنّ المؤلِّف، الروائيّ، الذي يكون حجاجه متميّزًا عن حجاج الخطيب، السياسيّ أو الدينيّ، هو هذا الذي لا يعبّر أبدًا عن أفكاره ومشاعره، ولا يتّخذ موقفًا، بل إنه يبحث عن الفهم أكثر ممّا يبحث عن الحُكم على الأشياء، فهو لا يساند قناعات معينة داخل نصوصه الروائية من دون أن يضعها داخل حوارات ومناقشات وجدالات، وهو يمنح الكلمة بشكل واسع للخصم، وغالبًا ما تنتهي الرواية من دون استنتاجات: هل يمكن أن نحسم فنقول من هو اللص وما هي الكلاب في رواية نجيب محفوظ؟ هل يمكن أن نحسم فنقول ما هو الشمال وما هو الجنوب في رواية الطيب صالح؟ هل يمكن أن نحسم، فنقول: من هي الأمّ في رواية محمد برادة؟
أيكون من حقّي أن أخلص إلى أنّ ثراء الحجاج في الرواية، وحجاج الروائي المؤلِّف بخاصّة، لا يكمن في الأجوبة الحاسمة قليلا أو كثيرًا، بل يعود ذلك الثراء إلى الاشتغال بشكل متزامن على مستويات متعدّدة (حجاج الشخصية/حجاج السارد/ حجاج المؤلِّف) بطريقة تفتح الطريق أمام قائمة من الأسئلة الإشكالية حول الموضوع تدعو إلى التفكير والتأمل وإعادة النظر؟