في ظهيرة الثالث من فبراير عام 1997، سقط الكاتب التشيكي بوهوميل هرابال (1914-1997) أثناء إطعامه للحمام من نافذة الطابق الخامس في مستشفى بولوفكا بضاحية ليبين في العاصمة التشيكية براغ؛ تُظهر الرسالة أدناه أنه كان قد تم إدخاله من قبل إلى المستشفى ذاته وخضوعه لفحوص طبية هناك. الرسالة موجهة إلى الآنسة أبريل جيفورد، والتي أعيد تسميتها دوبنكا على طاولة هرابال المعتادة في حانة “النمر الذهبي” في براغ، حيث تم استبدال اسمها بكلمة دوبن التشيكية والتي تعني أبريل. كانت أبريل الأمريكية قد جاءت إلى براغ من ستانفورد عام 1988 كطالبة تدرس اللغة التشيكية، وزارت هرابال هناك بهدف تنظيم جولة له في عدد من الجامعات الأمريكية، ويبدو أن الكاتب الكهل قد وقع في حبّ الشابة الجميلة على الفور، لكنه لم يلتق بها مرة أخرى بعد انتهاء جولته الأمريكية، ومع ذلك، فقد كتب لها عددًا من الرسائل بعد عودته إلى براغ، وهي الرسائل التي لم يرسلها هرابال قط إلى أبريل جيفورد، بل بدأ نشرها عام 1990، لتصل إلى ثلاثة كتب، بدأت بمجموعة “إجمالي المخاوف”، وتبعتها مجموعة أخرى في العام نفسه بعنوان “إعصار نوفمبر”، وفي 1991 صدر الجزء الثالث بعنوان “الأنهار المغمورة”، وشكّلت هذه الثلاثية نوعًا من المذكرات الصادمة في صدقها وصراحتها، وغير المعهودة من هرابال، الذي روى فيها الكثير عن سنواته الأخيرة.
في العام 1952، تعرض هرابال لحادث خطير أثناء عمله في أفران بولدي لصهر المعادن في كلادنو؛ إذ اخترق رأسه قضيب من الحديد لينفذ من عنقه، ومنذ ذلك الحين، لم يقتصر الأمر على معاناة هرابال من حالات الصداع المزمنة، بل كانت تصيبه أيضًا نوبات صعبة من “الجنون”، حاول السيطرة عليها بالكثير من الأدوية والمهدّئات والإدمان على الكحول. ظهرت رسائل أخرى كتبها هرابال إلى الآنسة أبريل مترجمة إلى الهولندية في مجموعة “سخرية براغ”(1) (2007)، ثم ظهرت بقيتها تحت عنوان “حصان بثلاثة أرجل”(2) (2024)، وقام بترجمتهما عن التشيكية المترجم الهولندي كيس ميركس. وعن ترجمته، ننقل هنا ثلاثًا من رسائل هرابال إلى أبريل جيفورد، أو بالأحرى دوبنكا..
الرسالة الأولى: حدوتة براغ الذهبية
آنسة أبريل..
قدرك وقدري مرتبطان بـ”النمر الذهبي”، هنا تعثر أحدنا بالآخر، هذه قصة حبي، لم أرد على رسالة منك قط، مع أني كتبت إليك مرات عديدة، فقد اخترت الرسالة كشكل أدبي وهكذا حدث أن كتبت رسائلي إلى دوبنكا، تلك الرسائل الموجهة إليكِ، والتي أرسلت بها إلى دار”خيال براغ” التي تنشر أعمالي، تلك الرسائل الحميمية عن علاقتي بكِ وعن التمرد السياسي في بلادي التي عرفتِها لبعض الوقت حين كنت تدرسين اللغة التشيكية بها…
آنسة أبريل، كل ما يفصل بيننا، يربطنا في نفس الوقت، هذه المسافة الهوائية بيننا ستبقى إلى الأبد، آلة كاتبة غير مرئية أكتب عليها الأنشودة عن علاقتي الرهيبة بكِ… أينما أكون، لا أراكِ فقط، بل أتحدث إليكِ أيضًا.
آنسة أبريل، عندما أكون في كوخي الريفي في كيرسكو، المدسوس هناك بين جذوع شجرتي بتولا، أراك حتى الآن وأنتِ ترقدين ممددة على الأرض، وتحت رأسك وضعتِ حقيبة ظهرك التي تحتوي على قاموس التشيكية-الأمريكية الأمريكية-التشيكية، ما زلتِ مستلقية هنا، البصمة الدائمة لجسدك المتكئ ما زالت هنا، كما أن قيلولتك تلك بقيت هنا إلى الأبد، أراك مرارًا وتكرارًا عندما أكون هنا لإطعام قططي وأكتب رسالة بين الحين والآخر، لك ومن أجلك، رغم أنني لا أرسلها إليك أبدًا…. إذًا أنت هنا بشكل دائم، القطط تتجول حولك، تتشمّمك وأنت نائمة أو حين تنظر هكذا إلى تيجان الأشجار… القطط تتجول حولك وأنت بالنسبة لهن الجميلة النائمة، وبالنسبة لنا هدية الهدايا، مثل حبة الكرز فوق الآيس كريم.
في كل مرة أسكب فيها الحليب للقطط، أضعه في وعاء أبيض كبير هناك، حيث وضعتِ رأسك مع القاموس تحته في زيارتك الأولى، فتقف القطط في الواقع لتلعق الحليب حول رأسك، لتشكل في استدارتها إطارا حول دائرة العجلة، رأس جوار رأس، وألسنتها الوردية تلعق اللبن، بين الحين والآخر تشم القليل من الحليب في أنوفها الوردية، تختنق وتبصقه، ثم تلفظه… وأنتِ يا آنسة أبريل، ربما تسمعين من خلال مجرى الهواء في أذنيك من خصلات شعرك كيف تهمس القطط برسالتي إليك من غابة كيرسكو هناك حتى كاليفورنيا.
آنسة أبريل، كنت قد عرضت عليك في براغ أن تأتي وتقضي الليل في بيتي، وليلتها اخترت هذا الفراش الصغير، وقد وضعت عليه وسائد زوجتي ولحافها، نمت هناك ليلة واحدة، ومنذ ذلك الحين وأنت تنامين هنا مرارًا وتكرارًا، ثم أنت معي مرة أخرى وأنت في متناول مناجاتي الداخلية، وكثيرًا ما أستيقظ، مثلك تمامًا، ثم أمشي إلى النافذة، طوال الليل وأضواء الشوارع مضاءة، مثل حبال متقطعة من قلائد الكهرمان تمتد الأضواء من عمود إلى عمود، وأضواء السيارات والحافلات تضيء شرارات متوهجة في الطريق، وما أراه، من نافذتي الليلية، رأيته أنت أيضًا في تلك الليلة، مرة واحدة فقط، ولكن ذلك كان للأبد. هكذا هو الحال عندما أخلد إلى الفراش، ترقدين بجانبي، وهكذا هو الحال عندما يسطع القمر ويضيء من خلال نافذتي بعد منتصف الليل، لا أستطيع النوم أبدًا عند اكتمال القمر، وإذا لم توقظيني أنتِ من نومي، فإن القمر يوقظني في سماء صافية من الغيوم، لأنني أتألم تحت ضوء القمر عند اكتماله، تمامًا كما أتألم بشكل رائع جدًا تحتك وأنتِ مستلقية بجانبي، رغم أن جسدك راقد هناك في مكان ما بالقرب من المحيط الهادئ… في النهاية، يمكن لأي شيء في الحب، وبالتالي الإنسان، أن ينتقل عبر الهواء، أفكر فيك كثيرًا، آنسة أبريل، وربما لا تعرفين ذلك، حتى أنني سعيد لأننا لم نر بعضنا البعض سوى مرات قليلة. يكتب ريلكه عن المنشدين أنهم عندما كانوا يغنون أغانيهم الغرامية لنسائهم، كانوا يرتجفون ويخشون أن تُسمع أغنية الحب هذه بالصدفة من عابرين فيبادلونهم الحب…
آنسة أبريل، لقد رأينا بعضنا البعض للمرة الأخيرة عندما رافقتك إلى محطة مترو فلورنس حيث ستستقلين مترو الأنفاق، وأهديتك خاتمًا بعين من ياقوتة… ثم كانت مصافحتنا الأخيرة ونظرتنا الأخيرة، وبعدها ابتلعك النفق…. المترو وأنتِ فيه آنسة أبريل، أنتِ هنا وستبقين دائمًا، كما في حانة “النمر الذهبي” عندما شربنا البيرة معًا والتقطنا صورتنا بكتاب لاديسلاف كليما المفتوح أمامنا، لقد أرسلت لي تلك الصورة المؤطرة بالبريد من تلك الولايات التي كنتِ فيها، بالمناسبة، عندما أنظر -جزءًا جزءًا- إلى تلك الصور التي أعطتني إياها زوزانا، أراها نابضة بالحياة، أحملها معي في حقيبتي الجامعية أيضًا، وكثيرًا ما أنظر إليك، في الحافلة، في المترو، تلك الصور تخبرني كما لو كنت جالسة بجانبي….
أنت هنا، حتى لو كنت ستموتين، لأنك بالنسبة لي لا يمكن أن تموتي أبدًا، نحن ننتمي لبعضنا البعض مثل شطيرتي الزبدة، لأنه، يا آنسة أبريل، في النمر الذهبي تحدث أشياء تثبت أن الصداقة والحب لا ينتهيان بالموت… هناك عند النافذة، خلف ستارة قابلة للطي، حيث ينحني سقف الحانة عند صنبور البيرة، هناك في النمر الذهبي زملاء شباب، رسامون، فنانو جرافيك، خريجو الأكاديميات ومدارس الجرافيك، أولئك الذين يكسبون رزقهم من التصميم والإعلانات… إنهم أعضاء في نادي براغ الذهبي Het Gouden Praag ، هذا هو نادي براغ الذهبية الذي يأتي إلى هنا ليشرب البيرة كل يوم بعد الساعة الرابعة وينظم رحلات على متن قارب النزهة كل عام أو التنزه في الطبيعة، هذا هو براغ الذهبي الذي ينظم أمسيات الرقص كل عام في الشتاء أو حفلات الكرنفال، هذا هو براغ الذهبي الذي ينشر تقويمًا كل عام، تقويمًا مشهورًا، معروفًا في كل القارات … وأحيانًا يجلس في نادي براغ الذهبي خمسة وعشرون رجلًا خلف طاولة مستطيلة بحذاء الجدار، وعندما يحتاج أحدهم إلى الذهاب إلى المرحاض، يرفعون جميعًا -وكأنهم على إشارة- الطاولة بأيديهم قليلًا إلى أعلى، وعليها منافض السجائر وكؤوس البيرة، ثم يغطس الرجل الذي يحتاج إلى الذهاب إلى المرحاض إلى الأرض ويزحف تحت الطاولة، ثم تعيد نفس الأيدي البشرية الطاولة إلى الأرض أيضًا، وعندما يعود صديقهم على إشارة، يرفعون الطاولة مرة أخرى إلى أعلى…
آنسة أبريل، ولكن حدث ذات يوم أن جاءت الأخبار بأن أحدهم -سأسميه هنا ميلا Míla- قد توفي…. ولأن نادي “براغ الذهبية” في ”النمر الذهبي“ لا ينظم حفلات الزفاف والتعميد فحسب، بل والجنازات أيضًا، فقد حضروا في الساعة التاسعة صباحًا في النمر الذهبي في الساعة التاسعة صباحًا متشحين بالسواد لحرق جثمان رفيقهم الذي لم يبلغ الثالثة والأربعين من عمره بعد، ثم من الساعة العاشرة كانت هناك مراسم عزاء في النمر الذهبي، جلس الجميع هناك تمامًا كما كانوا يجلسون في أي مكان آخر، إلا أن المكان الذي جلس فيه ميلا كان فارغًا، أو في الواقع لم يكن فارغًا تمامًا، كانت هناك زهور، وكان الأمر كما لو أن ميلا لا يزال حيًا، أكثر حياة من أي وقت مضى، لأنه بعد أن طلب النادل نصف لتر من الجعة في المكان الذي كان يجلس ميلا فيه آخر مرة، كان الآخرون يفرغون كؤوسهم وكأس ميلا في الحوض، ويضعون كأسًا جديدًا من البيرة أمام ميلا…. ثم جاءت تلك اللحظة مرة أخرى يا آنسة أبريل، اتحدت أيدي رواد الجنازة وبإشارة منهم رفعوا الطاولة المليئة بكؤوس بيرة البرازدروج قليلًا لإعطاء الفقيد الفرصة للزحف تحت الطاولة المرفوعة والذهاب إلى مرحاض الرجال… وقف الجميع منتصبين وشاهدوا ميلا وهو يذهب إلى المرحاض، وعندما عاد رأوه يزحف على أربع تحت الطاولة ليجلس مرة أخرى في المكان الذي كان يجلس فيه دائمًا ويجلس فيه الآن مرة أخرى بعد حرق الجثة وعندما تأكد الجميع من جلوس ميلا في المكان الذي كان يجلس فيه في ذلك المكان، قامت أيدي هؤلاء الأصدقاء بوضع تلك الطاولة الممدودة المصنوعة من خشب البلوط على الأرض مرة أخرى… ثم أمرت “براغ الذهبية” بإعداد آخر جولة من البرازدروج، حيث التزم ميلا بحصته اليومية التي تبلغ خمسة أنصاف الليتر…
آنسة أبريل، حدث هذا في حانة النمر الذهبي عندما مات أحد أعضاء نادي براغ الذهبية. الآن هل هذا العمل الفذ من الخيال حقيقي أم غير حقيقي؟ إن كل شيء ممكن في براغ حيث عاش الحاخام بن لوي Ben Loew وغولمه Golem، كل شيء ممكن، وكذلك أتحدث إليك بالبريد الجوي، وهنا في كيرسكو بغيّ بيضاء تغمغم على ضوء القمر، وهنا أيضًا يحضر الجنازات المتوفون أنفسهم، وأسمح لنفسي بأن أرسل إليك تحياتي من هنا أيضًا يا عزيزتي دوبنكا، التي تعتني بها الآنسة أبريل تلك التي تشبهها حد التطابق كما لو كانت مصنوعة من ماركة Koh-i-noor Waldes
آنسة أبريل، أرجو منك إبلاغ دوبنكا تحياتي المهذبة، أفضّل أن أكتب لها رسالة الآن، لعل لهجتي وأسلوبي يصبحان أكثر تهذيبًا معها. آنسة أبريل، أبلغك على استحياء أنني بدأت من جديد في مدام بوفاري.
ملاحظة
إيما بوفاري… آه يا إيما، آه، لقد تذكرت فجأة أنني عندما ذهبت لمعالجة ذراعي في مستشفى فارا، أعطاني الدكتور بوندليتشك كتابًا عن البوفاريزم. آنسة أبريل، سأرسل لكِ بضعة أسطر نسختها لكِ من الكتاب:
ناتالي ساروت Nathalie Sarraute: يتحدث الكاتب عن نفسه من خلال شخصياته بصدق تام. عانى فلوبير من هستيريا الصرع في عام 1823. في الهستيريا، يحاول الهستيري أن يكتسب الهيمنة، يريد أن يكون في مركز الاهتمام.. مكسبه في التعبير الهستيري هو: دفاع ضد الخوف، يحاول اكتساب مزايا عاطفية واجتماعية. يهرب بحجة الأعراض… هستيريا التحول: صراع نفسي يسبب فشل الوظائف الجسدية..
بيير جانيه Pierre Janet: هدف الهستيري هو اللامبالاة، الهدوء المرضي على حساب الاندفاعات المكبوتة والرغبات المدفونة، سعي حثيث إلى شقّ طريق آخر.. إيما بوفاري.. تنكسر حواجز “الكرامة المذنبة” لدى بطلة الرواية.. تلك هي الهستيريا الكوميدية في الحياة النفسية: تمثيل غريب، اتخاذ مواقف درامية، تخيلات غير حقيقية. يصاحب عملية هستيريا التحول حيث إحساس قوي بالبشاعة والخيال، وبذلك يتم الربط بين الجسد والروح.. التحول النفسي الجسدي هو لغز ومشكلة في علم الأمراض.. وتأتي الهستيريا لتشجع مفهوم الذات الزائف وتجنب العيوب النفسية إلقاء اللوم على أي شخص.. يتحدث فوكو عن الأركيولوجيا العفوية التي كانت موجودة في الطفولة.. والتي تعود إلى الظهور مع العصاب الهستيري.. ومن ثم الارتداد إلى السلوك الطفولي والكاريكاتوري..
إنه شهر أبريل وفي كيرسكو تتفتّح أزهار نخيل العذارى.
لقد انتهيت للتوّ من قراءة مراجعة في مجلة تفوربا بعنوان: “الأنهار الجوفية لبوهوميل هرابال”، بقلم توماس مازال، وقد أشار فيها إلى أنني أذكّره بروبنسون جيفرز الذي تسافر كلير في قصيدته “الراعية المحبة” مع قطيعها من الأغنام إلى شهر أبريل، بينما أجد نفسي محاطًا هنا بالقطط والكلاب… كتب أيضًا، إنني، ومن خلال كتابَيَّ “إعصار نوفمبر” و”الأنهار المغمورة”، أسافر دائمًا إلى الآنسة أبريل، هكذا كتب.
أبريل 1991.
الرسالة الثانية: هرابال
آنسة أبريل.. قرأت في صباي “مذكّرات رجل مجنون”(3) لغوستاف فلوبير.. أعرف الآن أن ذلك كان خطأ، ليس خطأ فلوبير بالتأكيد، بل خطئي أنا.. كنت أعرف منذ سنوات أن فلوبير عانى طويلًا من نوبات الصرع الهستيري، وبالتالي فإن مدام بوفاري هي نفسها فلوبير، وفلوبير هو مدام بوفاري، وكذلك فإن “مذكّرات مجنون” هي مذكّرات فلوبير.. أنا الآن أيضًا بدأت في كتابة نوع من مذكّرات رجل مجنون، لذا فهي أيضًا ستكون مذكّراتي.. في البداية، لعبت دور المجنون، كنت معجبًا جدًا بعمّي بيبين المجنون قليلًا، وأشبهه إلى حد بعيد، في حديثه كما في إيماءاته، لدرجة تحولت معها ببساطة إلى العم بيبين بعد وفاته، أروي حكاياته وأتحدث بطريقته في كل مكان.. اقتربت من الجنون أيضًا حين كتبت وأنا لا زلت شابًا عفيًا: “لا أستطيع العيش دون صدع في رأسي”.. ويبدو أن الأمر قد استمر على هذا النحو؛ في البداية كنت أؤدّي دور هذا العم المجنون وفق تسلسل رياضي مطّرد، حتى أدخلت هذا التناقض المسرحي في كتاباتي، أما هذه الأيام فقد صرت العم بيبين جسدًا وروحًا، لا أستطيع أن أمحوه من رأسي، بل أصرخ وأزأر بالشتائم في وجه أقرب أصدقائي، فيصبُّون عليَّ جام غضبهم لأنهم يعرفون كيف يضعونني عند حد الانفجار، يعرفون ذلك تمامًا بمجرد أن يأتوا إليَّ بالكتب والدّفاتر مرصوصة فوق طاولات الحانة لأوقّع عليها، وكل هؤلاء الناس، قرّائي، يعرفون هذا أيضًا ويقودونني إلى الجنون، أصبحُ كالثّور في الحلبة بعد ثلاثة أيام دون طعام أو شراب، تحت شمس حارقة وفي مواجهة خرقة حمراء، كلّ هؤلاء يدفعونني كالثّور إلى الهيجان والإصابة بالصّداع وفقدان السيطرة على أعصابي، نعم، بل إلى فقداني الوعي..
هكذا يخطو السيد هرابال ملثّمًا إلى الأمام: لارفاتوس بروديو(4)Larvatus Prodeo مشيرًا بإصبعه إلى نفسه: هذا أنا بالوشاح الوردي والقبعة المقلوبة.. لارفاتوس بروديو..
أجد نفسي في موقف أتظاهر فيه بأنّي مختلّ ومجنون إلى حدّ ما، أتظاهر بأني شخص عادي يتعمّد المزاح، على الرغم من أن العكس هو الصحيح، فأنا الآن مرشّح للإصابة بالهذيان الارتعاشي.. يا للويل! ويا لها من بداية جميلة وحزينة للنهاية.. كيف كان حال سلفادور دالي بأسلوبه النقدي الارتيابي الشهير؟: “ما تسخر منه، ستظل في خدمته”(5). طبيب شاب يستهلك ثلاث مقابر.. وأنا استهلكت الثلاث منذ زمن طويل.. والآن أدفن نفسي منتحرًا، في الليل وفي صمت تام، في مكان ناءٍ، تمامًا كما كانوا يدفنون المنتحرين عندما كنّا لا نزال تحت حكم النمسا، لارفاتوس بروديو.. “التقدم إلى الأصل”(6) Progressus Ad Originem، ثمّ إلى القبر، في صمت تام، وتحت ظلال الطلّاب المغرمين.. حيث لا أحد يتوقّعني بعد الآن.
آنسة أبريل، تصيبني شهرتي هذه بنوبة من التهاوي، صرت دائم الصراخ فيمن حولي، في “النمر الذهبي” و”المختبر الأخضر”(7)، أصرخ طوال الوقت، ليس فقط في الصحفيّين، بل في أصحاب الخير الذين يأتون لتحيّتي، أو يطلبون منّي منحهم 30 ألف دولار، أو أن أتبنّاهم، وآخر يحتاج 15 ألف مارك لأنه سيبدأ تجارة لأولاده في مجال رياضة الرّمي بالقوس، وشَعر الخيل لا يتوفّر إلّا في ألمانيا الغربيّة، ويمكنني أن أشاركه في تجارته كشريك صامت، وتدّعي امرأة أخرى أنها لا تزال شابة، إذ لم تتقاعد إلّا منذ ثلاث سنوات فقط، وأنّه يمكنها أن تزيل أوجاعي بمزيل الألم (ماركة الهلب) الذي تنتجه مصانع بروستيوف منذ القرن الماضي كزيت للتشحيم. وجاء البولندي فرانسيسزيك بصحبة حبيبته ليخبرني أنهما يريدان إلقاء محاضرة عنِّي، وأنهما يريدان أن يزورا معي بعض مدن بولندا، وقد أفزعني خبر المحاضرة ثم أرعبتني جولة المدن، لكن الثنائي الجميل كان قد جاءني في مستشفى بولوفكا بصحبة الملحق الثقافي البولندي من أجل هذا خصيصًا.. أخبروني أن عليَّ أن أذهب معهم إلى بولندا، وأن المحاضرات والقاعات قد نوقشت وأُعلن عنها، وأن سيّارة حكومية تنتظرني في الأسفل، ولا يمكنني أن أتخلّف عن الجولة قطعًا، وكل ما عليَّ فعله هو التوقيع على ورقة ليخرجوني من المستشفى؛ حيث سيتمّ استقبالي في وارسو بموسيقى عسكرية ستعزفها فرقة تابعة للكنيسة..
سيدة أخرى أرسلت إليّ مفاتيح بيتها في مظروف، ونصحتني أن أذهب وأفتح الباب، ثم أجد البيرة في انتظاري في الثلاجة، قالت إن بمقدوري أن أقيم لديها، كما فعل قطي كاسيوس عندما كان هاربًا. وأنا يا آنسة أبريل، أنا.. أستمرّ في الذهاب إلى حانة “النمر الذهبي” لأني غارق داخل أعماقي، لم أعد أستطيع العيش دون قلق.. في مرّة أخرى، أحضر لي حارس إطفاء المسرح، والذي كنت قد دعوته إلى مائدتي الخاصة، قصائد كتبها رفيقه، وهو حارس إطفاء أيضًا.. كان عليّ أن أقرأها، فأعدت قراءتها مع كتابة رأيي وملاحظاتي عليها، وقلت: “ليست للنشر”، حسنًا، لقد عرفت ذلك، لأن رجل الإطفاء الأول، الذي ظل على مائدتنا، قال إن صديقه هذا لم يعد يكتب الشِّعر، بل كان يريد أن يتجّه إلى التصوير الفوتوغرافي.. وإذا ما كنتُ أستطيع مساعدته بمبلغ من المال كي يشتري كاميرا تصوير.. قلت: كم؟ خمسة آلاف كرونة؟ لكن ذلك سيكون قليلًا جدًا، ستّة، سبعة؟ لكن ذلك أيضًا سيكون قليلًا جدًا. ثم قلت مندهشًا.. يا رفاق، أتعرفان؟ تبًا لكما، لن يحصل أيٌ منكما على بنس واحد. وبعد ثلاث سنوات يا آنسة أبريل، عندما أنشأنا دار نشرنا الخاصة “براغ الخيال”، قال حارس المسرح نفسه على المائدة أثناء حديثنا وشربنا البيرة بابتسامة عريضة: “كنتُ في ذلك اليوم في خيمتكم الصغيرة تلك، وتوصلت إلى اسم لها: “نادي الإثراء الذاتي للعدّائين الفارغين”! وعلى الفور اخترت العبارة ذاتها شعارًا، ولكن، يا لاريفاتوس بروديو، لأنني غارق في أعماقي ولم أعد أستطيع العيش دون قلق.
ذات مرّة أخرى تلقّيت زيارة من مترجمي السابق، وهو إيطالي الجنسية، يقترح عليَّ بجدية أنه إذا كنت في بيتي الريفي في كيرسكو طوال الأسبوع، فإن صديقه -وهو إيطالي أيضًا- يرغب في استئجار طاولة عملي في شقّتي بضاحية سوكولنيكي في براغ، حيث يمكنه أن يرسم عليها.. وبعده مباشرة جاء هايني من فيينا ودخل عليّ حانة “النمر الذهبي” وأعلن لي أن لديه “مشكلة سكنية”، ولكني أخبرتهما أن يغربا عن وجهي، وأن شقّتي ستظلّ لي وحدي طالما بقيت حيًا.. أخبرني الإيطالي ببراءة أنه يكفيه أن أعطيه مفاتيح بيتي الاحتياطية.. حينها تلقّيت على رأسي ركلة حقيقية من جيرينكا، بائعة اللبن في مزرعة الألبان، والتي شرّفتني وأسعدتني منذ سنوات بمجيئها إلى حانة “النمر الذهبي” وإعلانها أمام الحانة كلها أنها تريد طفلًا منّي… رفعتني كالريشة وحملتني بين ذراعيها حتى أنني كنت قادرًا على ضرب سقف الحانة بحذائي، تعلّقت هناك وسط الدخان والصرخات وخشيت أن تسقطني جيرينكا، لكنها أنزلتني بحنان على الأرض التي تسيل عليها البيرة وزمجرت في وجهي: “أريد ذلك الطفل الآن، وهنا”… قبل أيام قليلة جاءتني جيرينكا مجدّدًا كرجل ثلج، ثم سألتني في الحمام: هناك مصور قادم من كولورادو.. وما إذا كان لديّ 10 دقائق من أجله، فقلت لها سأعطيه 20…
بعد ثلاثة أيام جاءتني جيرينكا مع مصوّرها ومجموعة من أصدقائها، وفي تلك الدقائق العشرين، أفرغت سلال الخضراوات والأجبان وخبز الفالدكورن فوق مائدة روبرت، وفتحت صناديق وحقائب مصوّر كولورادو، ورتّبت الأشياء التي كان يحتاجها، ثم صبت بائعة اللبن شرابًا فظيعًا وصاحت في الجميع متحمّسة، وعندما وصل روبرت ووجد أن مائدته التي حجزها لأصدقائه مشغولة، كانت جيرينكا وأصدقاؤها يتجرعون كأسًا من البيرة الواحدة تلو الأخرى ويصرخون في نشوتهم.. وعلى هذا النحو لم يستغرق الأمر عشرين دقيقة فحسب، بل استمر لساعة ثمّ ساعتين، وكان روبرت قد وضع على المائدة بالفعل لحومًا متبقية من وليمة منزلية، وتلك أيضًا التهمتها بائعة اللبن وأصدقاؤها، حتى المصوّر من كولورادو كان يلهو بها ويسأل روبرت إن لم يكن في حقيبته المزيد من تلك النقانق المصنوعة منزليًا من الكبد والدم، لأن مذاقها كان جيدًا.. وفي الوقت نفسه، كان المصور يغمرني بوميض كاميراته الثمينة التي تعمي الأبصار، كانت تلك الومضات الضوئية تصيبني بالتشنج الدماغي، فقلت لجيرينكا فجأة أن تغرب عن وجهي، ولكني كنت أعرف أنها ستعتبر إهانتي لها شرفًا عظيمًا، فهرولت إليّ وأمطرتني بقبلات قذرة فوبختها وقلت لها إنها ليست أكثر من ملكة جمال حفرة النسر.. وهي بدورها اعتبرت ذلك بمثابة شهادة دكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف، واضطررت للهرب منها بسرعة… وفي اليوم التالي أخبرني أولدا أن جيرينكا، التي كنت قد أطلقت عليها بحق ملكة جمال حفرة النسر، قد تلقّت منه بطاقة حمراء ومُنعت من دخول الحانة لمدة ستّة أشهر، لأنها رقصت هناك في الثامنة والنصف مساءً، وهي لا تزال في حالة سكر شديد، لتظهر أمام المصور الأمريكي كم هي الحياة جميلة وهادئة في “النمر الذهبي”.. قال أولدا الواقف وراء صنبور البيرة: “لم تنفعني اليوم ثلاثة أقراص من الأسبرين (مع فيتامين سي)… وأشاح برأسه.
أنا أيضًا ابتلعت ثلاثة أقراص من الأسبرين أبسا فيتامين C، ونيترو ماك ريتارد وواحدًا من الأترالجين وواحدًا من الأسيليبيرين كل ساعة، مع أني كنت قد دسست رذاذ النيتروليكس تحت لساني في الصباح.. وكل هذا فقط لأن بائعة الحليب تلك، تلك الجيرينكا، كانت قد ساومتني على عشرين دقيقة من وقتي لذلك المصور من كولورادو، وأنني سأكون في المقابل على غلاف مجلة أمريكية شهيرة.. ندمت أنني -بدلًا من ذلك- لم أكن مستلقيًا على كنبتي في مكاني البعيد، بينما امرأة متقاعدة تدهن ظهري بمزيل الألم (ماركة الهلب) الذي تنتجه مصانع بروستيوف منذ القرن الماضي كزيت للتشحيم.. ندمت أني لم أكن أهرول إلى وارسو في سيارة حكومية بولندية من نوع ليموزين لأسمع محاضرة عن بوهوميل هرابال، حيث سيكونون في انتظاري أيضًا باستقبال كنسي عسكري..
ولكني يا آنسة أبريل Prodeo – Larvatus أتجوّل في شوارع براغ وبين حاناتها وأنا أشير بإصبعي إلى نفسي.. لأنّي أحبّ أن أسيء فهم نفسي، وبدلًا من أن أستعيد بعض بريقي وأصير أشبه بحبوب الدواء، فها أنا أستعدّ ببطء للهذيان الارتعاشي، لأني لا أستطيع العيش دون رائحة الشهرة. لم تكتف بائعة الحليب، تلك المرأة التسعينية جيرينكا، بقضمة واحدة بالأمس، بل التهمت بشهية من الدرجة الثالثة تلك النقانق الدموية التي أحضرها روبرت كما يفعل دائمًا لمائدة كاملة مليئة بالضيوف، وعندما أكلتها كلّها رقصت جيرينكا في أرجاء الحانة وأطاحت بالأجانب، وأخذت ترشف من كؤوس الضيوف العاديين، ثم رقصت على المائدة وجذبت الثريا من السقف وركلت رأس عمدة بالتيمور، حتى كادت أن تختنق فضربت بقبضتيها على صدرها وصرخت: “يا ناس، سأكون فيوليتا أخرى، سيدة أخرى مع زهور الكاميليا”.. وبعينين وذراعين مفتوحين على أشدّهما شقّت جيرينكا طريقها بين الضيوف حتى وصلت إلى المرحاض، وهناك استندت إلى الحائط وشهقت للحظة ثمّ تأوهت: “آه، ربما كان حبيبي يفكر فيّ”… جسّ النادل أولدا نبضها للحظة ثم قال.. ها قد وجدتها..
على الرغم من أني دلّكت صدغَيّ بالدهان الصيني هذا الصباح، إلّا أني أشعر وكأن نوبة دماغية تحاول أن تضربني بكل قوّتها… آنسة أبريل، براغ مدينة الفتن الخفية والخيّاطين المداهنين… وصفها شاعرها الألماني والبوهيمي المنكوب فيكتور هادفيغر(8)، والذي طاف شوارعها المجهولة في القرن الماضي قائلًا: فقيرة كمتسول، وفخورة كملك..
ملاحظة
آنسة أبريل..
أنا في كيرسكو، الجو حار جدًا، والكلاب مبعثرة بلا مبالاة على العشب الطويل ببطونها الممتلئة، وقد ابتسم لي كاسيوس الأسود لأول مرة منذ عودته من هروبه، وقرأت للتو بفزع… “البحث عن حطام طائرة لاودا إير(9)Lauda Air”، احتفظت إحدى المواطنات الرومانيات بما وجدته في حطام الطائرة لنفسها، كانت أشياء صغيرة ثمينة.. وقالت: كان من الصعب الوصول إليها في الجبال. لذلك نستحق أن نحتفظ بما وجدناه لأنفسنا، لماذا نسلّمها للشرطة التي لا تفعل شيئًا؟ هذا المكان لنا والطائرة تحطمت فوق أرضنا..
آنسة أبريل، حسب القانون الروماني، فإن الأشياء التي تظهر على الشّواطئ من حُطام السّفن هي أيضًا ملك لمن يجدها. وأعتقد أن الهوسيّين فعلوا الشيء نفسه في غزواتهم المشؤومة، هكذا بالضبط، وفقًا للقانون الروماني: خذ ما يمكنك أخذه.. كما أن الفيالق الرومانية كانت تستولي على ما يقع تحت أيديهم عند فتح مدينة ما. فإذا ما نثر أحد النبلاء الرومان حفنة من النقود أثناء تجواله في إحدى المدن، كان أول من يلتقط هذه النقود التي سقطت من عربته يُسمح له بالاحتفاظ بها. ما يؤسفني أنني لم أكن في ذلك البوينغ أيضًا، كنت سأودّ لو أن تلك الشابة وجدت يدًا سقطت من السماء على أرضها، وأن تكون هذه اليد هي يدي، بما فيها خاتم الخطوبة المكسور.
آنسة أبريل، لو كان هناك إله على الإطلاق، فلا بدّ أن له يدًا في تلك الطائرة التي تحطّمت، لكن ليس من حقّي فقط، بل من واجبي أيضًا، أن أحزن على كلّ روح بشريّة، حتى لو سقطت -أينما كان- من السماء.
آنسة أبريل، هلا أوصلتِ إلى دوبنكا الرسالة التي أشار إليها الرسام التكعيبي التشيكي بوهوميل كوبيشتا(10)، وهو ضابط نمساوي عاد من سلوفاكيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في تابوت، في مذكراته “الموت أخضر” يذكر أن طالب النحت التشيكي ديفيد تشيرني، والمشهور بلقب المتأنق الوردي، والذي يعني اسمه أيضًا “الأسود”، قام برسم الدبابة السوفيتية الخضراء في متنزه براغ-سميتشوف باللون الوردي، وهو بهذا لم يدعم الثورة المخملية فحسب، بل نقل الفن التشكيلي التشيكي ما بعد الحداثي إلى بُعد آخر…
آنسة أبريل، لم أرَ في حياتي شيئًا أجمل من دبابة وردية اللون سقطت من السماء في متنزه سميتشوف، دبابة وردية اللون تحت أشعة الشمس، بين أغصان الشجيرات التي تتحرّك مع الريح، بين أوراق الشجر النضرة؛ أليثيا(11) يُكشف عنها الغطاء ثم يُعاد تغطيتها، ثم يُكشف من جديد، هذا هو الجمال الحقيقي.. تحدّثي دوبنكا…
كيرسكو، 29-31 مايو 1991
لديّ صداع نصفي
ورياح الفوهن(12) تهب عبر الغابة.
الرسالة الثالثة: مذبحة
آنسة أبريل..
عدت من مستشفى بولوفكا، وأنا الآن في منزلي الصيفي في كيرسكو، وجدت أن ديريك، الكلب الألماني الذي أحضرته أخت زوجتي داغمار مع زوجها، قد تمكّن من تصفية جميع القطط الصغيرة تقريبًا وأخاف القطط الأربعة المتبقية، حتى أنها هربت للاختباء منه فوق الأشجار أو على السطح، اليوم هو صباح السبت، طارد ديريك بنباحه المنتصر القط أورانج لدرجة أن هذا الأخير فشل في الفرار عبر قضبان السياج والتوى مخلبه في العملية.. والآن يبدو مثيرًا للشفقة… وهو يعرج ويرقد هنا أو هناك.. بعد ظهر اليوم كنت مستلقيًا على سريري مجددًا، وقد تحطّم قلبي ورأسي من مذبحة القطط تلك، حين وجدت قطي كاسيوس يطير كالمجنون، ومن خلفه يظهر ديريك نابحًا، لكن كاسيوس تسلق شجرة الصنوبر بسرعة وتمكّن من إنقاذ حياته… تتفرّع شجرة الصنوبر تلك على ارتفاع خمسة أمتار، والآن كاسيوس -الذي عانى الكثير في تشرّده- يرقد هناك، تتدلّى أقدامه إلى أسفل، فيما ينام منهكًا ورأسه مستندة إلى شوكة الصنوبر، كاسيوس الذي كان يتمدّد على صدري بجانب الموقد ويلعب بعقدي الهندي، نائم هناك الآن بسبب ديريك.. البارحة أيضًا جاءنا الأطفال يشتكون من ديريك، لقد رأوه يعضّ قطة حتى الموت، ثم يهرب بها وسط الشجيرات إلى مكان لا يعلمه إلا الله.. هذا ما وصل إليه الأمر معي… في الظهيرة، أخبرت داغمار وزوجها هنتر أن ديريك هذا سيكلفهما نصف مليون كرونا، وأنني أفرغت كل دفاتر التوفير التي لديّ وقسّمت مدّخراتي على أصدقائي… لأنه ماذا سأفعل بأخت زوجتي هذه؟ إن قلبي يؤلمني، لقد رحل قطي كاسيوس، ولكن ماذا عن تلك القطط الصغيرة؟ هل سيُذكرون في عيد الأبرياء في ديسمبر… لكن بالنسبة لأخت زوجتي لا يُحسب حساب إلّا لزوجها الصيّاد ولا يُحسب لذلك الصياد إلّا الكلب ديريك..
عندما زاراني في المستشفى، اصطحبتهما إلى قسم الأمراض، وصولًا إلى البوابة، حيث اللافتة المعلقة التي كتب عليها “استلام الملابس”… وبجوارها لافتة أخرى تحمل عبارة “نفايات علم الأمراض”… ضربت بقبضتي على لافتة “استلام الملابس” وقلت لداغمار عندما يخرج صيّادكم من هذا الأنبوب، أحضروا زيه الرسمي إلى هنا، زي الاستعراض هذا مع كل تلك الزينة… ثم ضربت بقبضتي على لافتة “نفايات علم الأمراض” وقلت… وهنا سيخرج الصندوق الذي يحتوي على ذلك الصياد الذي يرتدي زي الاستعراض الخاص به… ولكن حتى هذا لم يكن سيئًا بما فيه الكفاية بالنسبة لهم.. فهما أحمقان يثيران أعصابي ويقوداني إلى غرفة التشريح بأسرع ما يمكن، بالضبط كما حدث لي قبل خروجي من قسم الأعصاب بيوم واحد، إذ جاءني المصور ستول لزيارتي بعد الظهر بقليل، فأحضرته إلى قسم الأمراض، ولكني شعرت بالدوار واضطررت للجلوس قليلًا، وذهب المصور مشيًا خلف حاوية القمامة باتجاه المسلخ عبر نهر فلتافا، لينظر إلى براغ الجميلة، وفجأة جاء شاب يبدو عليه أنه خرج من السجن للتو، كان يرتدي بدلة من الجينز ويحمل حقيبة من نفس القماش، أخرج لفّة مفاتيح وأشار إلى اللافتة المكتوب عليها “استلام الملابس” وسألني: “هل أحضرت ملابس؟ آسف لتأخري، كان عليّ أن أستلم بضائع أخرى”.. وفوجئت بنوبة من البلاهة البودليرية هبّت عليَّ، وأحسست بتشنجات دماغية تتصاعد داخلي..
هكذا عدت مُترنحًا نصف ميت إلى غرفتي رقم تسعة، وسقطت على سريري المترهل، ومثل الميت في وضع القرفصاء، وضعت يديّ على صدغَيّ، وبدأت أتأمّل في آخر ما تبقّى من الإنسان، كان المرضى الآخرون نائمين أيضًا، أو ينظر بعضهم إلى السقف، كانوا من مرضى الظهر وبينهم شاب مصاب بالصرع، وكان الآخرون في الخارج وعندما عادوا ذهبوا هم أيضًا إلى أسرَّتهم، فقد حان وقت العشاء، وفجأة دخل الغرفة رجل مهيب يرتدي ثيابًا سوداء، بدا كما لو كان مكسيكيًا بشعره المصبوغ، وكان يحمل عصا سوداء ذات مقبض فضّي، وخلفه تتعثّر في جلال امرأة مبللة بالمطر، ترتدي ثوبًا مزركشًا وقلادة مطابقة للثوب، وتساءلا.. أهذه غرفة الكاتب الكبير هرابال؟ فنظر المرضى إلى الزاوية التي كنت راقدًا فيها، ورفع مغسّل الموتى هذا عصاه السوداء وقال.. أهذا أنت؟! وقالت العرّافة التي تبرق تحت وميض عقود اللؤلؤ الزائفة.. أهذا أنت؟! والتفتت إليّ… كاتبنا الحبيب.. كاتبنا الكبير!
فانتصبت قائمًا، لأنني ظننت لوهلة أنني متّ بالفعل، وأن هذا الرجل الذي يرتدي ثياب الجلالة ويضع على رأسه مقبض الفضة هو مكفّن الموتى، وأنه إذا قال “إنّه ميّت”، فسوف أكون ميتًا حقًا… لكنني صرخت بآخر قوتي… اغرب عن وجهي!.. فرفع الرجل عصاه السوداء ذات المقبض الفضّي وقال: عفوًا، أنت مجرّد السيّد هرابال ولست الكاتب الكبير على الإطلاق.. ولكني صرخت.. تبًا لك أيضًا! وبدأ سيد الموت يتراجع، ولكن تلك العرّافة تقدمت خطوة إلى الأمام وقالت.. نحن نطلب مساهمة من أجل الطيور، الحَمَام. نحن من جمعية إطعام الطيور… ثم زأرتُ ثالثًا… تبًا لجمعية إطعام الطيور هذه أيضًا… ثم أجهشت السيدة بالبكاء، وتدحرجت الدموع كاللؤلؤ المنفرط على وجنتي المتحدثة باسم جمعية إطعام الطيور، ومدّت ذراعيها باكية: هذه التوقيعات على القائمة… ولوّحت ببعض الأوراق… تُقدّم إلى الحكومة! …. وطأطأت رأسي على الوسادة وهمست بصوت عالٍ: وذاك أيضًا يمكنه أن يغرب عن وجهي… ثم أردفتُ حانقًا: هنا القسم الأول من مستشفى المجانين، وعلى بعد قليل من هنا يوجد قسم بوهنيسه(13) وهو القسم الأول… وهذا هو المكان الذي أودّ أن أكون فيه الآن..
آنسة أبريل، انتهى بي المطاف في قسم الأعصاب عن طريق معروف قدّمه لي صديق وخطأ تم ارتكابه؛ كنت أعرج بعض الشيء وصديق لي، وهو طبيب، صُدم حين رآني أسير هكذا: “يجب أن تأتي لزيارتي في وقت ما، وسننظر في الأمر”… وتبع ذلك: الركبة والنقرس ومحفّزات الكعب. في عشر جلسات، قاموا بتخشين نتوء الكعب، ثم حقنوا ركبتي بحقنة ضخمة في حجم سدادة النقانق، ثم… قال صديقي الطبيب: لا بأس. وبينما كنت جالسًا على حافة سرير النيكل وساقاي متدلّيتان في البحر، أمسك الطبيب بمطرقة وضرب بها ركبتي على الفور، ثم مرّة ثانية فثالثة… ثم صرخ مرتعبًا: يا إلهي! واتّصل بصديق له.. والذي أرسلني بدوره إلى صديق وطبيب.. وقال هذا الأخير إنّه يريد تصوير رأسي بالأشعة السينية في الداخل، وفورًا أدخلوني إلى معمل ناصع البياض، كان هناك حائط أبيض لامع وأمامه فتاة جميلة جالسة على كرسي بذراعين، يدها في حجرها وعلى رأسها خوذة حمراء تشبه ما يلبسه لاعبو الهوكي، وقد لفّ مساعد الطبيب حول رأسها شريط متر أزرق مما يستخدمه خيّاطو الملابس، بهذه الخوذة الحمراء المرجانية وما يحيط بوجه الفتاة وتحت ذقنها وعلى طول رأسها من أسلاك وأربطة، كان يتم قياس وتدوين كل سنتيمتر في عقلها، وكان الحائط أبيض، وقد انعكس عليه حامل النيكل الذي يتدلّى منه المزيد من أشرطة مقياس المتر الزرقاء والخوذات الحمراء، كل شيء -حتى الفتاة- كان ينعكس على الحائط الأبيض اللامع.. وبدا الأمر أشبه بلوحات دي شيريكو الميتافيزيقية، وقد استلقت الفتاة هناك، وكان الجهاز الذي يلتقط صورًا لدماغها يهدر كما لو كان يتصفح كتابًا فولاذيًا كبيرًا، وكان مساعد الطبيب يقول للفتاة الراقدة… افتحي عينيك… أغمضي عينيك… وكانت الصفائح الفولاذية تدور في الغرفة البيضاء وتطحن وتدوي، ثم الأوامر مجددًا: شهيق عميق.. زفير عميق.. وهكذا استلقت الفتاة لمدة نصف ساعة تقريبًا هناك كما لو كانت إليشكا بريميسلوفنا(14) على قبرها. ثم جاء دوري، إلّا أنّ كلّ تلك الأوامر بدأت تثير فيّ تشنّجات دماغية، وأردت أن أهرب، فلم آتِ في الحقيقة إلّا من أجل الركبة والنقرس.. لينتهي بي الأمر في النهاية في مختبر الطب النفسي.. أيها الشاب، لديك خلايا سرطانية في دماغك، أنت بحاجة ماسة إلى حجزك هنا.
آنسة أبريل.. هكذا كان يوم الاثنين، إذ انتهى بي المطاف في قسم الأعصاب، الغرفة رقم تسعة، حيث كان هناك سبعة أسرّة، كان هناك مريض يسير مرتديًا سترة بيجامة طفل في الممر، وأمامه يتدلى أنبوب تصريف وكيس بلاستيكي، كانت رأسه مدمّاة بالجروح، وعيناه جاحظتان، وكان يتنقل باستمرار حتى أنه دخل إلى ممشى جناح النساء، لم يتصرّف أحد من العاملين بدهشة، مثلي، كان اسمه “بوهوميل” أيضًا، ولديه سرير نقّال له بوّابة منتصبة وعليه كان بوهوميل يزأر من حين لآخر، بوهوميل مثل غوديل ولهذا السبب أعدت تسميته أماديوس.. في البداية كنت أنا نفسي مستلقيًا على سرير يطلّ على مقبرة “السفينة”، وبجانبنا كانوا يبنون مشرحة جديدة، كانت الغرفة رقم 9 تهتز أحيانًا عندما كان عاملو البناء يدقون الأعمدة الخرسانية في الأرض من أجل مبنى المشرحة الجديد هذا… لأن ذلك المبنى الصغير الذي يحتوي على غرفة التشريح التي كنت أذهب إليها سيرًا على الأقدام أصبح صغيرًا جدًا، لذا فهم يبنون الآن مبنى جديدًا من ثلاثة طوابق يتسع لبضع مئات من التوابيت، والفراغات بين الطوابق ستكون من الحديد المموّج، لأن الجثث لا تزال تسرب الكثير من السوائل أحيانًا… فيما بعد بدأ السرير المطلّ على المقبرة يزعجني كثيرًا، وكان مسموحًا لي أن أستلقي في الزاوية ليلًا لأراقب السماء والنجوم والغيوم المملوءة بضوء النيون الوردي. وخلال النهار، كانت الجرّافات تستمرّ في الضجيج، وبفضل اجتهاد العمال السلوفاكيين.. كان المبنى الجديد ينمو ببطء، فيما توحي صفائح الألمنيوم المتراصّة حول المبنى بما يجري بناؤه في تلك البقعة ذات المنظر الجميل من براغ.. حتى أني بدأت أتخيّل بالفعل كيف سينطلق طابور من السيارات التي تحمل الجثث من أسفل نهر فلتافا، لتعود مرة أخرى بعد زيارة غرف المشرحة الجديدة في جنازات صامتة.. هكذا كنت أداوي رأسي في قسم الأعصاب.
وذات ليلة، اختفى شريكي في الاسم فجأة واضطروا للبحث عنه.. وعندما وجدوه بدأ يرمي الممرضات بالصحون، فجاءت سيارة إسعاف، وأدخلت الممرضة بوهوميل الملقب بأماديوس إلى الحمام وغسلته وألبسته سترة بيجامة الطفولة فيما هو يضحك، وكما أغرت الخادمات في المزرعة الثور الغاضب بالخروج من الحظيرة، كذلك أغرت هذه الأخت أماديوس بحجة إجراء أشعة سينية على رئتيه.. وعلى الفور أمسكه اثنان من الممرضين من تحت ذراعيه، واكتشف بوهوميل الملقب بأماديوس الحقيقة بعد فوات الأوان، دفعاه وقاداه إلى سيارة الإسعاف، لأن أماديوس.. أو بالأحرى ثيوفيلوس.. كان شخصًا غير مرغوب فيه هنا.. وفي اليوم التالي لحادثة جمعية إطعام الطيور، أُعلن عن حالتي الصحية، وعُرض عليّ الخروج من المستشفى. فودّعت الجميع وشكرتني رئيسة القسم سيلفيا شخصيًا على إرسال جمعية إطعام الطيور إلى المكان الذي يستحقونه، لأنها سمعت القصة من العاملين في استقبال المستشفى، وشكرتني على أنني أعلنت عن مستشفى بولوفكا بطريقة مختلفة.
آنسة أبريل.. وهكذا غادرت المستشفى وأنا أرتدي بنطالي الجينز وحقيبة الظهر الخضراء التي اشتراها لي أحد البوهيميين في لينكولن والتي كانت مليئة بعلب الأدوية.. مشيت بصعوبة إلى سيارة الأجرة، أنا الذي وصلت إلى هنا وأنا أعرج قليلًا وصعدت الدرج إلى الطابق الخامس في قسم الأعصاب، ولكني الآن بعد شهر من العلاج، بالكاد أستطيع أن أركب سيارة الأجرة.
ملاحظة:
عزيزتي الآنسة أبريل، أتذكر الآن كيف استلقيت في ذلك الجناح بالمستشفى في وضع أفقي داخل جهاز الأشعة العملاق الذي يسمّونه نفقًا، وكيف قاموا بتصوير دماغي بالأشعة السينية شريحة شريحة، ألم يكن من الممكن أن يتضمن ذلك الفهرس لدماغي صورة لكِ أيضًا؟ ألا يمكن بعد ذلك، عندما يتمّ لصق تلك الشرائح جوار بعضها البعض، أن تظهر صورة دوبنكا على شكل كولاج؟
في البيت، لديّ مظروف مختوم يحمل اسم رئيسة القسم ألكسندرا فايتوفا، طبيبتي، هناك بالتأكيد قد دوِّن بوضوح أني مجنون إلى حدّ ما، وأنّ أعصابي فوق ذلك التهمتها أسماك القرش.. وقد قرأت في المنشورات المصاحبة لعلب الدواء أني أعاني من مشاكل نفسية.. ومن اضطراب ما بعد الصدمة.. وأن الدواء يسمّى إنربول Enerbol.. والدواء الآخر يعلمني أني أعاني من اكتئاب داخلي.. ذات مرة كتبت أني أشعر أن هناك من يأكل دماغي كما يأكل المرء الآيس كريم بالملعقة، وذات مرة كنت أتباهى بأني لا أستطيع العيش بدون صدع في رأسي.. صرت اليوم أعاني من هذا الصدع في النفس والعقل والروح.. ولكن هذا لا ينقص من حقيقة أني أرى وأعلم في مرحلة ما من “لوسيدوم إنترفالوم”(15) أني أحبّك وأحبّك، وأنّك كلّ من تبقّى لي في هذا العالم… لعل ذلك الدواء الثاني الذي بدأت أتناوله والذي سمّيته نوفيريل يعيدني إلى حالتي السابقة لأستطيع التحرك في المدينة والريف مرة أخرى كما كنت.
عبر النافذة المفتوحة دخلت أخت زوجتي كالقطّة المخملية بنصف انقضاضة وأطلت لتزفّ إليَّ الخبر السعيد: لقد اصطادوا سمكة سلور تزن ثلاثين كيلوغرامًا وهم على وشك قليها، وسنشرب عليها برميلًا من البيرة وزجاجات النبيذ المتبقية من الوليمة السابقة، هل ستأتي أم أحضر لك شيئًا؟ ثم قفزتْ بثيابها الثقيلة إلى الحانة الصغيرة “منبع القديس يوسف”، وأنا الذي كنت قد اختنقت للتو من آخر حبّة توت، مسحتُ الدموع من عينيّ وأصابني الدوار لبرهة… يبدو أن دوبنكا تفكّر فيّ.
في كيرسكو، واليوم هو الأحد، أمطرت هذا الصباح، والآن الشمس مشرقة.
صداع نصفي قوي ورائع.
18 أغسطس 1991
ملاحظة:
سقوط غورباتشوف، برج ضربه البرق، مذبحة أيضًا.
في “النمر الذهبي” كذلك.
19 أغسطس 1991
Bohumil Hrabal: ‹Een driebenig paard›, Prometheus, Amsterdam, 2024.
«مذكّرات مجنون» Memoirs of a Madman لغوستاف فلوبير (1821 – 1880)، رواية صدرت للمرة الأولى بعد رحيل كاتبها بواحد وعشرين عامًا، وبالتحديد عام 1901، وتعتبر أوّل عمل سردي يكتبه غوستاف فلوبير، وقد أنهاها عام 1838، وهو لا يزال في السابعة عشرة من عمره، وفيها يمكن الوقوف على العديد من الثيمات التي سيعود صاحب «مدام بوفاري» للاشتغال عليها لاحقًا، كذلك كانت «مذكّرات مجنون» حجر الأساس الذي بنى عليه فلوبير روايته «التربية العاطفية» والصادرة عام 1869، مطورًا فيها شخصية بطله في «مذكرات مجنون» ومانحًا إياه اسم فريديريك مورو، فيما ستتحوّل ماريا إلى مدام آرنو، ليصبح الاسمان من أشهر أبطال روايات القرن التاسع عشر، إلى جوار شخصية مدام بوفاري بالطبع.
لارفاتوس بروديوLarvatus Prodeo ، تعني باللاتينية (سأخرج ملثمًا). وتنسب إلى ديكارت، وصار للكلمة مدلول القناع بشكل أو بآخر.
بالألمانية في الأصل: Was du verlachst, wirst du noch dienenen، والجملة عادة ما تُفسر على أنها مَثل ألماني، ولكنها وردت بالألمانية كما هي في رواية عوليس لجيمس جويس، دون أي إشارة من جويس إلى مصدرها.
في الإشارة إلى الجملة اللاتينية Progressus ad originem ، تناص واضح مع إحدى فقرات رواية «عزلة صاخبة جدًا» لهرابال، يقول فيها: «من الآن فصاعدًا، أنت وحدك يا صديقي الطيب، عليك أن تواجه هذا وحدك، أجبر نفسك على رؤية العالم، استمتع بوقتك ولعب التمثيلية طالما كنت متشبثًا بهذه الأرض، من الآن فصاعدًا لا تدور إلا في دوائر الكآبة… بالتقدم إلى الأمام أنت تعود إلى الوراء، نعم: التقدم للأمام يساوي التراجع للمستقبل، إنه نفس الشيء، إن عقلك ليس سوى حزمة من الأفكار المسحوقة بمكبس هيدروليكي».
حانتان شهيرتان ارتبط بهما هرابال في براغ، وظل لسنوات يتردد عليهما، خاصة «النمر الذهبي»، التي كانت طاولته المعتادة فيها محطة للعديد من الكتاب والأدباء التشيكيين والأوروبيين.
فيكتور هادفيغر Victor Hadwiger (1878-1911): كاتب وشاعر ألماني بشّر بالتعبيرية الأدبية الألمانية. ولد ابنًا لطبيب عسكري في 6 ديسمبر عام 1878 في براغ، في ظل الإمبراطورية النمساوية المجرية، وتوفي في 4 أكتوبر 1911 في برلين. وبعد دراسة صعبة التحق بجامعة براغ، ومن خلال دراسته بها بدأ يتعرف على الأوساط الأدبية، وكان من بين أصدقائه المقربين الكاتبين بول ليبين وأوسكار وينر، بعد وفاة والدته عام 1902 وفشله في الجامعة، توقف والده عن تمويله لتنقطع العلاقة بينهما منذ هذه اللحظة، وفي عام 1903 انتقل هادفيغر إلى برلين، حيث تردد على الأوساط البوهيمية فيها وتعرف على بيتر هيلي وإريك موسام وبول شيربارت، تزوج من الكاتبة إلسي شتراوس قبل أن يموت فجأة عام 1911.
كانت الرحلة رقم 004 لطيران لاودا، رحلة ركاب دولية منتظمة من هونغ كونغ عبر بانكوك وتايلاند وصولًا إلى فيينا عاصمة النمسا. في 26 مايو 1991، تحطمت طائرة البوينج 767-300ER التي كانت تشغل هذا الخط الجوي، ما أسفر عن مقتل جميع الركاب البالغ عددهم 213 راكبًا وعشرة من أفراد الطاقم على متنها. يعد هذا الحادث أكثر حوادث الطيران دموية لطائرة بوينج 767 (قبل هجمات 11 سبتمبر)، وأكثر حوادث الطيران دموية في تاريخ تايلاند حتى اليوم.
بوهوميل كوبيشتاBohumil Kubišta (1884 – 1918): رسام وناقد فني تشيكي، وأحد مؤسسي الرسم التشيكي الحديث. درس في أكاديمية الفنون الجميلة في براغ، لكنه تركها عام 1906 للدراسة في معهد الفنون الجميلة في فلورنسا، أسس هو وإميل فيلا وأنطونين بروشاتسكا وخمسة آخرين مجموعة أوسما (الثمانية)، وهي مجموعة من الفنانين ذوي التوجهات التعبيرية.
أليثيا Aletheia أو أليثيا Alethia تعني في اليونانية القديمة: الحقيقة أو الكشف في الفلسفة، يعود أصل المصطلح إلى الفلسفة اليونانية القديمة، وقد استخدمه بارمينيدس صراحة لأول مرة في تاريخ الفلسفة في قصيدته عن الطبيعة، حيث قارنها مع دوكسا doxa. وقد أعيد إحياؤه في أعمال فيلسوف القرن العشرين مارتن هايدغر. وعلى الرغم من أن الكلمة غالبًا ما تُترجم أو تشير إلى «الحقيقة»، إلا أن هايدغر جادل بأن معناها يختلف عن المفاهيم الشائعة للحقيقة.
رياح الفوهن: رياح جافة ودافئة نسبيًا، تنحدر إلى أسفل في مهب سلسلة من الجبال، وتعرف أيضًا برياح ظل المطر التي تنتج عن الاحترار اللاحق للهواء الذي أسقط معظم رطوبته على المنحدرات الهوائية، ويمكن لرياح الفوهن أن ترفع درجات الحرارة بما يصل إلى 14 درجة مئوية في غضون ساعات قليلة. وتتمتع سويسرا وجنوب ألمانيا والنمسا بمناخ أكثر دفئًا بسبب رياح الفوهن حيث تهب رياح رطبة من البحر الأبيض المتوسط فوق جبال الألب.
بوهنيسه Bohnice: منطقة في براغ على بعد 5 كم تقريبًا شمال وسط المدينة، وهي موطن لمستشفى كبير ومركزي للأمراض النفسية، وعقارات سكنية ضخمة، سُميت جميع شوارعها بأسماء مدن أو مناطق بولندية.
كانت إليشكا بريميسلوفنا Eliška Přemyslovna (1292-1330) ابنة ملك بوهيميا وبولندا وينسيسلاس الثاني وغوتا من هابسبورغ، زوجة جون ملك لوكسمبورغ وملكة بوهيميا. كانت آخر بريميسليد تعتلي العرش التشيكي. أنجب وينسيسلاس الثاني وزوجته الأولى غوتا عشرة أطفال معًا. وُلدت إليشكا كطفل خامس. وعاش كل من فاتسلاف الثالث وآنيتشكا وآنا ومارجريت حتى سن الرشد. وأنجبت إليشكا بريميسلوفنا نفسها سبعة أطفال، أربع بنات وثلاثة أبناء، وكان طفلها الثالث هو ابنها فاكلاف (تشارلز الرابع)، وهو الإمبراطور الروماني وملك بوهيميا المستقبلي.
يشير مصطلح لوسيدوم إنترفالوم Lucidum Intervallum أو «لحظة الضوء» إلى لحظة يكون فيها الشخص في حالة استحواذ كامل على قدراته العقلية على الرغم من وجود ضعف كامن في الوعي، ويُستخدم المصطلح بمعانٍ مختلفة في القانون والطب، ويشير في طب الطوارئ إلى تحسن مؤقت في حالة المريض بعد إصابة دماغية رضحية، وبعد ذلك تتدهور الحالة مجدّدًا.