جوس شنايدر- ناقد وصحفي هولندي
ترجمة: عماد فؤاد- شاعر ومترجم مصري
هرابال، كان يمكن أن تكون نهاية حياته، بين رفرفة أجنحة الحَمَام الذي أطعمه قبل ثوانٍ، مشهدًا من أحد كتبه، إذ لم يتقن أحد مثله تضخيم التفاصيل الثانوية لتتحوّل إلى مأساة شعرية لها طعم الفاجعة، هو القائل ذات مرَّة: «لم أعد أنافس أحدًا أو شيئًا بعد الآن، لم يعد بإمكان أحد أن يسيء إليّ أو يزعجني، أنا طائر نحو اللانهاية والأبدية، لم يعد الموت قادرًا على لمسي بعد الآن».
هذا ما كتبه بوهوميل هرابال في سيرته الذاتية بمناسبة عيد ميلاده الخامس والسبعين عام 1989. يوم الثالث من فبراير عام 1997، باغته الموت بطريقة تأسر المخيّلة، إذ بدا الأمر كما لو كان مشهدًا كتبه هرابال بنفسه: سقط من نافذة الطابق الخامس في أحد مستشفيات براغ، بينما كان يُطعم الحَمام، نفى الطبيب المعالج على الفور انتحار هرابال، ودلّل على ذلك بأن الكاتب كان قد تعافى سريعًا من مشكلة في الفخذ، وكان في حالة معنوية عالية، بل إن هرابال والطبيب كانا قد حددا موعدًا للذهاب إلى إحدى الحانات في المساء نفسه الذي سقط فيه هرابال.
وبحلول المساء، كان الجميع يشرب حتى الثمالة في حانة «النمر الذهبي» المكتظة. كانت هذه الحانة في وسط براغ قد اكتسبت شهرة عالمية بفضل هرابال، وأصبحت طاولته هناك مزارًا يرتاده محبّوه في الداخل والخارج، حتى أن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قصد الحانة نفسها أثناء زيارة رسمية له إلى التشيك، ولكن خارج البروتوكول الرسمي، لرؤية الكاتب الذي كان يجلس على طاولته المعتادة وسط أصدقائه ومحبّيه، صرخ النادل: «في صحة بوهوس، لقد مات، فليكن… هكذا هي الحياة»!
امتدت حياة هرابال، وأعماله التي تمحورت حول المهمّشين، على مدى قرن من صعود وسقوط الشمولية، قرن بدأ بالحرب العالمية الأولى وانتهى بانهيار عقيدة الخلاص البلشفية، وُلد هرابال عام 1914 في مدينة صغيرة اسمها «برنو» لأم غير متزوجة، ونشأ في «نيمبورك»، على بعد حوالي 40 كيلومترًا شرق براغ، حيث كان والده بالتبني يدير هناك مصنع جعة محلّيًا.
أثناء دراسته للقانون في براغ، بدأ هرابال كتابة الشِّعر، وانكبّ على دراسة الأدب والفلسفة والفنون الجميلة، لم ينشر شيئًا مما كتبه آنذاك؛ فقد كان يخجل من كتاباته التي استوحاها من السريالية، ثم عمل مسؤولًا في السكك الحديدية خلال سنوات الحرب، ألهمته هذه التجربة الفريدة كتابة روايته الأشهر «قطارات تحت الحراسة المشدّدة»، والتي جلبت له شهرة عالمية عام 1967 بعد تحويلها إلى فيلم سينمائي للمخرج جيري مينزل، ونَيْل الفيلم جائزة الأوسكار.
تخرّج هرابال بعد الحرب، ولكن لم تجذبه مهنة المحاماة؛ فقد سافر إلى جميع أنحاء البلاد كوكيل تأمين تجاري، بالإضافة إلى ذلك، استمر في الكتابة لدرج مكتبه. وأخيرًا، حين حاول نشر مجموعة من قصائده الشعرية على نفقته الخاصة، استولى الشيوعيون على السلطة عام 1948. وبوصفه «برجوازيًا» ومثقفًا، أُجبر على الانضمام إلى البروليتاريا المنتصرة مثل كثيرين غيره، فأصبح عاملًا في أفران كلادنو لصهر المعادن في الفترة من 1949 وحتى 1952، ثم عاملًا في إتلاف الخردة الورقية من عام 1954 وحتى 1958، فعاملًا في المسرح من 1959 وحتى نهاية 1963.
ورغم ذلك، انخرط هرابال في المشهد الفني الموازي في براغ. وشكّل مع أصدقائه طريقة بوهيمية جديدة، لم تكن مهتمة بالتأمّلات الملتزمة في السياسة والمجتمع، بقدر ما كانت تبحث عن أشكال جديدة للتعبير، كانوا يتجولون في الحانات، حيث يستمدون الإلهام من رفاق الشرب الغرباء والعابرين، ويجدون مواضيعهم ويشكلون لغتهم: «وغالبًا ما تكون الحانة التي يصدح فيها هذا الصراخ الأجش جامعة صغيرة، حيث يسرد الناس تحت تأثير الشرب ذكريات وحوادث جرحت أرواحهم، وفوق رؤوسهم تحوّم علامة الاستفهام الكبرى عن العبث والمعجزة في الوجود الإنساني على شكل دخان سجائر».
تحت ضغط وإلحاح أصدقائه، تحول بوهوميل هرابال من كتابة الشِّعر إلى النثر، وطوّر أسلوبًا خاصًا به وحده، أسلوبًا أطلق عليه هرابال اسم «بابيتيلي» «pábitelé»، وهي كلمة غير قابلة للترجمة، وتعني شيئًا من قبيل الثرثرة، وتشير إلى فنون القص والسرد القوي والخيالي، إنه أسلوب ترابطي في سرد القصص، كما يحدث في الحانة مع تناول العديد من كؤوس البيرة. وبهذه الطريقة، قام هرابال بتأليف تدفق إيقاعي للكلمات التي قارنها هو نفسه بالشهيق والزفير، أو كما صاغها هو: «الحكي على إيقاع الرئتين».
في عام 1963، وبعدما أعلنت البوادر الأولى لربيع براغ عن نفسها، ظهر هرابال أخيرًا ككاتب -ولأول مرّة- وهو في سن الـ 49 عامًا. وفي وقت قصير، أصبح بوهوميل هرابال الكاتب الأكثر قراءة في تشيكوسلوفاكيا كلها، وفي غضون عامين فقط، نُشرت ثماني مجموعات قصصية له، وتم تصوير أربعة من أعماله القصصية للسينما، وكذلك اقتباس العديد منها للمسرح.
كان بإمكان هرابال -وقد فعل- أن يكسب رزقه من القلم، لكنّه لم يتخلَّ عن أسلوبه ونظرته للحياة، حتى إنه بعد عام 1968، عندما قامت جيوش «الدول الشقيقة» في أوروبا الشرقية بتسوية «الاشتراكية التشيكوسلوفاكية ذات الوجه الإنساني» بالأرض، عاد مجدّدًا إلى الحياة.
أدّى هذا، إضافة إلى موت أقرب أصدقائه، الفنان التشكيلي فلاديمير بودنيك، وموت والدته، إلى دخول هرابال في حالة اكتئاب عميقة، وأبلغ المحيطين به عن إصابته بالـ«فيتركرانك» wetterkrank كما كان يسمي حالته الذهنية. ثم في عام 1975، أعلن عن قبوله تدخل «الدول الشقيقة» الذي حدث في بلاده عام 1968، وقد أثار ذلك غضب الكثيرين، وأُحرقت كتبه في الشوارع، لكن هرابال كتب ونشر كتبًا جديدة وجدت مع ذلك إقبالًا شديدًا، حتى إن الأوساط المنشقة رحبت به مجددًا عندما بدأت تظهر طبعات سرية مما سمِّي حينها بـ«النصوص الأولية من أعمال هرابال» في دور النشر المحلية والمنافي الأجنبية، والتي كانت دائمًا ما تحمل علامة «دون علم أو موافقة المؤلف». بالإضافة إلى الطبعات الرسمية من أعماله المصرح بنشرها، والتي غالبًا ما كانت تخضع للرقابة من قبل هرابال نفسه!
أصلح هذا «الخرق» بشكل نهائي عندما نشر هرابال كتابه «إعصار نوفمبر» عام 1990، وهي رسالة مفتوحة قدّم فيها -مرّة أخرى بعد وفاة شقيقه وزوجته وصديق طفولته- وجهة نظره القاتمة للتاريخ التشيكي، ولم يبدّد تشاؤمه سوى «الثورة المخملية»، التي لم يشارك فيها بفاعلية لاعتقاده أنها تخصّ الشباب.
أعلن هرابال أكثر من مرة: «أنا لست كاتبًا، أنا كاتب مفرط»، كان يراقب ويستمع إلى الناس في المقاهي: «في الواقع، أنا ملتقط جثث، نشَّال أرواح»، ما كان يراه كان يسجله فقط «مثل كاميرا لايكا»، والقصص التي يسمعها كان يسجلها «مثل جهاز تسجيل»، وفي المنزل كان يؤلفها في شكل وقائع غنائية للحياة اليومية، قال: «الناس العاديون هم مقياس كل شيء بالنسبة لي»، وباستخدام آلته الكاتبة الشهيرة، ماركة الفن الحديث «بيركيو -Perkeo»، كان يكتب قصصهم التي غالبًا ما تكون مبتذلة، في شكل قصص عادية وفقًا لعملية «الكتابة الآلية»، ثم يقوم بتقطيعها ولصقها مرة أخرى ليصنع منها أعمالًا درامية وكوميدية وحكايات خرافية «ضد النسيان والتزييف». وأطلق على قصصه اسم «الكولاج»، وغالبًا ما كان يفكك هذه القصص القصيرة لاحقًا، ليعيد جمعها خالقًا منها روايات مختلفة تمامًا.
هذه الطريقة السريالية لم تجعل من هرابال سرياليًا، تمامًا كما لم يجعله استخدام اللغة العامية أحد أتباع الكاتب المسرحي التشيكي ياروسلاف هاشيك، وهما ملاحظتان كثيرًا ما ارتبطتا بأدب هرابال. ولإرضاء احتياجات التصنيف لدى الأدباء، أطلق هرابال على أعماله اسم «الواقعية التامة»، وقال إنه يستخدم «لغة المقهى» لأنها «تدفع اللغة نحو المفاجأة والغرابة واللامتوقع»، فالعامية لديه: «هي الدفاع ضد التقليد والجمود، وتداخل مع المحظور، وغالبًا ما تكون ساخرة واستفزازية». ليس فقط من حيث تقنية التقطيع والقدرة على صنع الكولاج السردي، بل أيضا من حيث تضخيم الأمور التافهة، لذلك فضّل هرابال مقارنة أعماله الروائية والقصصية بأفلام شارلي شابلن وباستر كيتون ذات البكرتين. فقد كان يضخم حادثة بسيطة، أو تفصيلة غير جوهرية، حتى تتحوّل إلى سوء فهم مأساوي، ثم تأخذ الحادثة شكل الحالة الشعرية فوق الواقعية، من خلال اللغة والأسلوب الساخر. لكنها لم تتحول أبدًا إلى السخرية الفجة، كما هو الحال مع كتّاب تشيكيّين آخرين مثل فاكوليك أو سكفوريكي أو -منذ زمن بعيد- هاسيك، كذلك لم تتحوّل إلى عقيدة أخلاقية على غرار كونديرا وهافيل أو -منذ زمن بعيد- كابيك. لم يعرف هرابال أي سخرية؛ بل كان ينظر بتعاطف مع ابتسامة متفهمة.
هانتا، بطل العمل الرئيس في مسيرة هرابال «عزلة صاخبة جدًا»، يُطرد من القبو حيث كان يضغط الورق المهدر في بالات ليصنع منها قطعًا فنية لمدة 35 عامًا، ويقرر النزول في آلة ضغط الورق الهيدروليكية القديمة التي كان يطحن فيها الورق، والتي يجب أن تفسح المجال للتكنولوجيا الحديثة: «هنا، في آلتي، داخل قبوي، أختار طريقة للسقوط أو للصعود، حتى وإن ضغطتْ الجدران ساقيّ إلى ذقني، أرفض الخروج من الجنة، أنا في مستودعي، لا أحد يملك القدرة على طردي، زاوية من الكتب مستقرة تحت ضلعي، أتأوّه، قدّر لي أن أغادر الحقيقة الأزلية المعلّقة في رف عالمي الخاص، منكمشًا في ذاتي مثل مطواة في جيب طفل، في لحظة الحقيقة أرى الفتاة الغجرية الصغيرة، الفتاة التي لا أعرف اسمها، نمسك بطائرة ورقية في سماء شتوية، هي تمسك بالحبل، وأنا أنظر إلى السماء، الطائرة الورقية أخذت ملامح وجهي الحزين، والغجرية توجه إليَّ رسالة من الأرض، أراها تسلك طريقها عبر الحبل، أكاد أصل إليها الآن، أمدّ يدي، لأقرأ الأحرف الطفولية الكبيرة، إلونكا، نعم، كان اسمها إلونكا».