إعداد وتقديم :عماد فؤاد
شاعر ومترجم مصري
براغ هي العاصمة التاريخية لجمهورية التشيك، وهي مدينة فرانز كافكا وميلان كونديرا وياروسلاف هاشيك، وبالطبع المدينة المعضلة لبوهوميل هرابال، الذي كان متأثّرًا بدوره بشخصية كافكا، حتى إنه أهدى له أحد نصوصه الشِّعرية المبكّرة بعنوان «رثاء أداجيو» Adagio Lamentoso؛ لذا يستشهد هرابال بكافكا مرارًا في أعماله، ليس فقط بسبب روح المتاهة والكآبة واليأس المسيطرة على عوالم كافكا، بل بفضل الأثر الذي تركه كافكا على براغ.. وما تركته براغ على روح كافكا. وإذا كنّا تعوّدنا على مصطلح الكافكاوية؛ نطلقه على كلّ ما هو كئيب أو معقّد أو سوداوي، فهناك أيضًا مصطلح الهراباليسك؛ في إشارة إلى ما هو خيالي أو ساخر أو عبثي أو غير منطقي.
كانت نهاية النظام الشمولي في تشيكوسلوفاكيا (نوفمبر 1989)، تحوّلًا كبيرًا في تاريخ البلد الصغير، ليس فقط من الناحية الاجتماعية، بل في جميع نواحي الحياة المختلفة، ومن أهمّها حرية التعبير، لذلك لم تكن الثورة المخملية (17 نوفمبر – 29 ديسمبر 1989) التي قادها الكاتب المسرحي التشيكي فاتسلاف هافيل (1936-2011) آنذاك، بأقلِّ من ثورة في الحياة الثقافية بشكل عام، وبالتالي في الأدب. ومع اختفاء الرقابة التي فرضها الشيوعيون بيد من حديد، تمّ إلغاء التقسيمات التقليدية التي عانى منها الأدب التشيكي طويلًا؛ «رسمي» و«سرّي» و«منشور في المنفى»، وبدأت دور النشر في الداخل والخارج في نشر أكوام من الكتب التي مُنعت تحت الحكم الستاليني بسرعة فائقة، في رغبة محمومة من الحركة الثقافية التشيكية المعارضة لإلغاء عشرين عامًا من القمع، وأتيحت أعمال كتّاب معروفين خارج التشيك، مثل لودريك فاكوليك وبافل كوهوت وإيفان كليما -للمرة الأولى وبصورة رسمية- في بلدهم.
كان بوهوميل هرابال (1914–1997) هو الآخر على رأس قائمة الكتّاب الذين استعادوا الاهتمام في تلك الفترة من الانفتاح الثقافي. وعلى الرغم من تجاوز أعماله الإبداعية لفخاخ الرقابة ونشرها في طبعات سرّية مختلفة في الداخل والخارج، حتى صنعت لكاتبها اسمًا مهيبًا وسط النخب المثقفة في المنافي الأوروبية، إلّا أنه أصبح من الممكن الآن نشر أعمال الكاتب العالمي غير المتاحة في التشيك. وبسرعة فائقة نشرت طبعات من قصصه ورواياته المبكّرة، وخاصة ما صادره النظام الشيوعي أو منع نشره، مثل مجموعة هرابال القصصية «بوباتا»، والتي صودرت وأحرقت فور نشرها عام 1970، ورواية «خدمت ملك إنجلترا»، التي صودرت عام 1973، و«البربري الرقيق»، و«المدينة الصغيرة التي توقّف فيها الزمن»، اللتين تمت مصادرتهما فور نشرهما عام 1974، وبالطبع رواية هرابال الأشهر «عزلة صاخبة جدًا» (1977)، وكلها أعمال نشرت في طبعات سرية خارج أو داخل التشيك.
كتب هرابال روايته الأشهر «عزلة صاخبة جدًا» خلال ثلاث سنوات، بدأت من 1972 وصولًا إلى 1975، أي بعد انتهاء ربيع براغ (1968) وعودة الديكتاتورية الستالينية لتسيطر من جديد على التشيك. كان موقف هرابال خلال هذه السنوات المضطربة مدعاة للغضب عليه، إذ لم يعارض الحكم الشيوعي في بلاده على غرار غيره من الكتّاب التشيكيّين، وقد فرّ أغلبهم إلى المنافي الأوروبية (كونديرا، وفورمان وكليما وفاكوليك وكوهوت). وفي الوقت ذاته، ورغم المحاذير الرقابية العديدة، ظلّ هرابال يقدم أعمالًا أدبية جديدة ولافتة، أجبرت حتى الغاضبين عليه على تقدير موهبته أكثر فأكثر.
تعود جذور الغضب الشعبي على هرابال إلى مقابلة صحفية أجرتها مجلة «تفوربا» الأسبوعية معه بتاريخ 8 يناير 1975، حيث طُرح على هرابال سؤال: «ما السر وراء اختفاء أعمالك من المكتبات منذ فترة طويلة»؟
كان المحرّر المجهول -إذ لم يتضمّن نص المقابلة اسمًا لكاتبها- يعرف جيدًا سبب اختفاء أعمال هرابال من المكتبات التشيكية قبل خمس سنوات من طرح سؤاله، فمنذ الصعود النهائي للحكومة الشيوعية التطبيعية مع النظام الستاليني في روسيا عام 1970، وجد هرابال نفسه على قائمة الكتّاب الممنوعين من النشر، وكان إجراء مقابلة في صحيفة أسبوعية مثل «تفوربا»، التي تعتبر أحد أعمدة الدعاية للنظام الشيوعي، شرطًا من المفترض أن يجلب للكاتب الممنوع من النشر الصفح من الحكام إن أعلن توبته، لتعود كتبه إلى دور النشر الحكومية ومنافذها الرسمية.
كانت إجابة هرابال على سؤال المجلة مخيبًا لآمال المعارضين للحكم الشيوعي، إذ جاء فيها: «أود فقط أن يعرف جميع قرّائي أني صادق معهم ومع الاشتراكية، فبدونها لا أستطيع تخيّل لا الحاضر ولا المستقبل، لذلك لا أريد أن أقف على الحياد، بل أرغب في المساهمة بطريقتي الخاصة في جعل العلاقات بين الاشتراكيين كما يجب أن تكون عليه، وأعتقد أن اتحاد الكتاب التشيكي اليوم معنيٌّ على وجه التحديد بالتأكّد من أن جميع الكتاب التشيكيين الصادقين يدركون هذا جيدًا، فالأهم بالنسبة للكاتب ما يقوله القرّاء عن أعماله، وليس ما يردّده أشخاص في إحدى الإذاعات الأجنبية أو غيرها من المنابر الصحافية».
لم يكن باستطاعة الغاضبين على هرابال آنذاك، والذين تجمّعوا بالمئات في الميادين صبيحة التاسع من أبريل عام 1975 لحرق أعماله التي طالما أعادوا قراءتها مرة بعد أخرى، وقد تحوّل هرابال في نظرهم إلى أحد الوجوه الخائنة التي انضمت إلى «تلميع» النظام الشيوعي في التشيك، أن يعرفوا أن هذا الجزء بالذات من المقابلة لم يتفوه به هرابال أصلًا، بل دُسَّ على كلامه عن عمد، وقد عبّرت درجة سخطهم عن مدى تفرّد هرابال وأهمّيته الرمزية ومكانته الاجتماعية والثقافية بينهم، وصدمتهم فيه بالطبع، إذ كان خبر صدور أحد الأعمال الجديدة له يتسبب عادة في اختناقات مرورية بسبب طوابير القراء أمام المكتبات، وقد تجاوزت شهرته حدود تشيكوسلوفاكيا لتصل إلى العالمية، جنبًا إلى جنب ميلوش فورمان وميلان كونديرا. ومن خلال انضمام هرابال، بقامته وتاريخه، إلى جانب الشيوعيين، حتى ولو بشكل رمزي، ومن خلال جمل عابرة في مقابلة صحافية، جعل التشيك كلها تشعر بأن كاتبها المحبوب قد خانها، ما أضعف معنويات المجتمع كله آنذاك في مواجهة الشيوعية الستالينية، التي توحشت بدورها في كتم أو تدجين أي صوت إبداعي في الداخل أو الخارج على حدٍّ سواء.
شكّل العام 1970 نقطة تحوّل جذرية في مسيرة بوهوميل هرابال الإبداعية، إذ لم يكن الأمر مجرد حظر عادي من النشر. في هذه السنة أيضًا رحل والداه في تتابع سريع وخلال فترة قصيرة، وكان على هرابال مواجهة الواقع التشيكي البوليسي مثل أي مواطن تشيكوسلوفاكي آخر؛ إذ كان في حاجة إلى ختم على بطاقة هويته ليثبت وضعه الوظيفي، وإلا فسينتهي به الأمر في السجن لمدة عام ونصف بتهمة «البطالة»، وفي الوقت نفسه، منعت وكالة «ديليا» الحكومية، والتي كانت تمثّل الكتّاب التشيكيين حصريًا في الخارج، حقوق هرابال عن ترجمة أعماله، بل وحاولت الوكالة الحدّ من دخله المالي إمعانًا في إذلال النظام له، حينها كان هرابال يسكن في شقة متهالكة مع زوجته في براغ، حيث انفجرت أنابيب غاز التدفئة مئات المرات، وحيث ينمو العفن على الجدران الرطبة للغرف. تحت هذه الظروف أصبح هرابال بين نارين لا ثالث لهما: فإما الخروج من البلاد كلها والهجرة مثل غيره، أو البقاء، وبالتالي التعامل مع هذا التعتيم بأقل قدر من الخسائر. كتب في أحد نصوصه عام 1971: «قبل بضع سنوات كنت في موقف أخلاقي للاختيار بين البقاء في الوطن أو السفر إلى الخارج، وقررت أن أبقى في هذا البلد، وها أنا اليوم أقوم بالاختيار مجددًا، وبعض الخيارات تُبنى عليها الحياة».
ثمّة حادثتان يجب ذكرهما هنا فيما يخصّ تعامل الأمن التشيكي مع بوهوميل هرابال خلال سنوات التطبيع، الحدث الأول كان استدعاء هرابال من قبل الأمن السري التشيكي في عام 1968، إذ يشير مترجم هرابال إلى اللغة الهولندية كيس ميركس في حوار له، إلى أن هرابال يذكر في إحدى رسائله إلى دوبينكا أنه استدعي للاستجواب في مجمّع الأمن السري المعقّد في شارع بارتولومي جيسيكا، بالقرب من المسرح الوطني في براغ، ويبدو أن هذا الاستجواب ترك أثره على هرابال، وجاء الحدث الثاني ليكمل من رعب هرابال الأمني، والذي سيتحوّل مع الوقت إلى ما يشبه كابوسًا لا يستيقظ الكاتب منه إلّا بالشرب والإدمان على حبوب المهدئات: إذ جمعت المصادفة في أحد مهرجانات السينما بمدينة مانهايم الألمانية عام 1969 بين بوهوميل هرابال والناقد التشيكي البارز بافيل تيغريد(1)، العدو رقم واحد للنظام الشيوعي في التشيك، ورئيس تحرير مجلة للأدب التشيكي في المنفى، والذي أجرى مع هرابال آنذاك مقابلة مطولة لصالح إذاعة أوروبا الحرة، عن العيش ككاتب داخل أسوار الاشتراكية الشيوعية.
بعد عودة هرابال إلى التشيك تم استدعاؤه مجددًا إلى الأمن الشيوعي السري، واستغرق استجوابه خمس ساعات كاملة. في سيرته الذاتية «برولوكي»، والتي نشرت رسميًا عام 1991، يروي هرابال على لسان زوجته إليشكا قائلًا: «أخبرني زوجي بعد ذلك أن المقابلة بدأت بشكل مرح (…) ولكن بعد قليل ضرب الكابتن راراتش بقبضته على الطاولة وصرخ قائلًا: «نحن لسنا في حانة هنا! الآن سيكون هناك بروتوكول لنعرف كيفية مساعدتك لعدو الجمهورية وخائنها بافيل تيغريد.. قال زوجي بعدها أن شعورًا بالذنب بدأ يتزايد داخله (…) ومنذ هذه اللحظة أصبحت نظراته تتلفت في كل اتجاه، وكان يتحدث همسًا وهو ينظر خلفه».
بعد التطبيع وحظر نشر كتبه، انسحب هرابال من الحياة العامة وانتقل إلى كوخه في ضاحية كيرسكو بالقرب من نيمبورك، مبتعدًا، ليس فقط عن أسئلة واستجوابات البوليس السياسي، بل أيضًا عن الفضوليّين من القرّاء والصحفيّين، وبالطبع، لم يكن «حظر هرابال» داخل بلاده مطلقًا، فقد استمرت دور النشر السرية في الداخل وفي المنافي الأوروبية في نشر أعماله، وتزايدت طبعات «الساميزدات» المحلية السرّية لكتبه بعد منعه من النشر عام 1970، وزاد هذا الانتشار أيضًا من اهتمام الشرطة السياسية بشخص هرابال، وأراد جهازها الأمني معرفة الطريقة التي يتم بها تهريب نصوص هرابال إلى الناشرين في المنفى، ووفقًا لشهادة أصدقائه، فقد تم استدعاء هرابال إلى شارع بارتولومي جيسيكا عدة مرات، وزاره الأمن بانتظام في كيرسكو، بل وقاطعوا الاحتفال بعيد ميلاده السابع والخمسين في حانة قرب بيته الريفي، حيث أصيب هرابال بالهيستيريا عندما توقفت سيارة عسكرية أمام الحانة، فهرع إلى باب بيته القريب ومنه إلى غرفة نومه، وبدأ في ارتداء ملابس صوفية داخلية ليكون مستعدًا لبرد السجن، ثم ركض إلى الحديقة وقفز من فوق السور واختبأ خلف أغصان شجيرات الصفصاف، ولم يظهر إلّا بعد أن تدخلت زوجته وأحضرته بنفسها من بين الأشجار.
لم يكن النظام الشيوعي مهتمًا فقط بإخافة هرابال، لكنه أراد ضم الكاتب الذي نُشرت أعماله في الستينيات في طبعات ضخمة (تراوحت بين 50 و100 ألف نسخة) إلى إسطبل المشاهير المدجنين، وفي النهاية أدت الضغوط المؤلمة التي مارسها النظام الشيوعي على هرابال إلى استسلامه تمامًا، وبصورة لم يتوقعها أحد، لا من أحبائه، أو حتى كارهيه..
في شراك الرقابة
لم تعد كتب بوهوميل هرابال تنشر داخل التشيك منذ الستينيات، إلّا بعد مرورها على أكثر من رقيب، ولاحقًا تم الكشف عن اسم الرقيب الذي كان مكلفًا بالسماح بنشر أو مصادرة أعمال بوهوميل هرابال، وهو فيتسلاف رزونيك(2)، خريج أكاديمية العلوم الاجتماعية في موسكو، والحاكم الفعلي لمشهد الأدب المنشور رسميًا في التشيك، وطوال فترة التطبيع التي امتدت لعشرين عامًا، لم يُنشر أي كتاب لهرابال دون موافقة رزونيك، ويتضمن كتاب «مئة عام من حياة بوهوميل هرابال 1914-2014»، والذي نشر في الاحتفال بمئوية هرابال الأولى، كومة من تقارير رزونيك الرقابية، أو ما عرف بـ»دليل المحاضر»، والتي تُظهر أن رزونيك لم يتدخّل في صياغة مجموعات هرابال القصصية القصيرة فحسب، بل استبعد العديد من النصوص والأجزاء منها وأدخل نصوصًا أخرى، وأجبر هرابال على حذف أسماء «أعداء الاشتراكية» من بعض كتاباته أو تلميحاته، بل وطالبه بإضافة شخصيات جديدة.
يُعتبر مخطوط كتاب «الواجب المنزلي» مثالًا نموذجيًا على كيفية تقييم الرقابة الشيوعية لأعمال بوهوميل هرابال، إذ يشير توماس مازال، كاتب سيرة هرابال ورفيقه القديم، إلى أن هرابال قام بتسليم مخطوط كتابه هذا إلى الرقابة في نوفمبر 1980، وقد قام ثلاثة من محققي النشر بمراجعة المخطوط أولًا، وبعد أن استوفوا ملاحظاتهم، تسلّم رزونيك المخطوط في أبريل عام 1981، وأعاده مرة أخرى إلى هرابال، مصحوبًا بمراجعة منه جاء فيها: هناك مشاكل سياسية في النص، خاصة في الجزأين الأول والثاني، أفكر بشكل خاص في قصة «التاريخ مع القبرات». لا أعرف ما الذي يريد الكاتب قوله هنا، إنه يدعم بالضرورة وجهة النظر القائلة بأن الفن كان مقموعًا في السبعينيات على حساب أشياء أخرى غير الفن. (…) وعلاوة على ذلك، من شأن هرابال أن يعتبر جوزيف هرشال(3) شاعرًا، ومع ذلك، يجب أن يؤخذ في الاعتبار أيضًا أن هرشال يبقى أحد أعداء الاشتراكية، ويمكنني تقديم أدلة محددة للغاية عن أنشطته المعادية للشيوعية في الستينيات».
ووفقًا لتوماس مازال، نقّح هرابال النص بحسب توجيهات الرقيب فيتسلاف رزونيك، ملتزمًا بكل نقطة جاءت في ملاحظاته الرقابية، وقام بحذف ما طلب حذفه دون نقاش، وفي 26 يوليو 1981، وبعد 9 أشهر من التنقيح والقص واللصق وإعادة الكتابة، وافق رزونيك أخيرًا على نشر الكتاب، وكان الشيء اللافت للنظر بعد كل هذا التنمر الرقابي، أن هرابال لم يقاوم ولو لمرة واحدة، بل استجاب راضخًا لكل اعتراضات رزونيك، وقد خضع هرابال لهذا الإذلال عن طيب خاطر، الإذلال الذي يسميه في موضع ما من رسائله إلى دوبينكا عام 1991 بـ«حمّامات الطين» التي كان «يُجبر على الوقوف تحتها، وهو يستجدي نشر أحد كتبه لدى النظام الشيوعي»!
لم يعد هرابال مهتمًا بالشكل الأدبي للنص الذي يكتبه منذ الستينيات، وكثيرًا ما كان يغيّر من نصوصه، أو يعيد استخدام فقراتها بإعادة ترتيبها و«منتجتها» -إن جاز التعبير-، وكان أسلوب الكولاج الأدبي هو الأقرب لوصف أعماله الشذرية، والتي ينتقل السرد التلقائي فيها من قصة إلى أخرى، مع التجريب المستمرّ، فقد كتب هرابال رواية «عزلة صاخبة جدًا» -على سبيل المثال- في ثلاث نسخ، الأولى كانت شعرية، والثانية لم تنتهِ بموت هانتا الطوعي منتحرًا وسط ركام الورق والكتب، بل تنتهي بحلمه فقط بهذا الانتحار، أما النسخة الثالثة فهي التي نعرفها اليوم، ويبدو أن هذا التلاعب بنصوصه كان طريقة هرابال الخاصة والأثيرة في النفاذ بأعماله من بين أسنان الرقابة ومخالبها، والتي طالما شوهت أعماله أو أجبرته على تغييرها، خاصة بعد أن أجبر هرابال على حذف أغلب الزخارف الإيروتيكية والفلسفية والدينية من قصته «متيقظ»، وبدلًا من ذلك -وبإيعاز من الرقباء– استبدل هرابال تلك المقاطع بأخرى يغلب عليها النقد الاجتماعي الساخر، وفي روايته «مهرجان قطرة الثلج» تم حذف عشرات الصفحات التي اعتبرها الرقباء «غير صالحة للنشر»، واستمر هذا التلاعب المقصود من قبل هرابال مع نصوصه القديمة، حتى بعد أن خفتت حدة الرقابة على أعماله، وفي عام 1981 جمع بين كتابه «البربري الرقيق» ورواية «عزلة صاخبة جدًا» في كتاب واحد أطلق عليه اسم «نوادي الشِّعر»، خالطًا بين فصول الكتابين بعد اختصارهما بشكل كبير.
عندما رحل بوهوميل هرابال بعد سقوطه من النافذة في الثالث من فبراير 1997، لم يتردد أحد من أصدقائه المقرّبين في اعتبار الحادث انتحارًا واضحًا لا شك فيه، لم يكن المرض وآلام الجسد وحدهما ما دفعا الكاتب ذا الـ 83 عامًا إلى إلقاء نفسه من شرفة الطابق الخامس في المستشفى الذي كان نزيلًا به في براغ، بل عار ثقيل، لم يستطع محوه من تاريخه أبدًا.
الهوامش
بافيل تيغريد Pavel Tigrid (1917 – 2003): كاتب وداعية وسياسي تشيكي، وأحد أبرز ممثّلي المنفى التشيكي المناهض للشيوعية، استمدّ اسمه المستعار «تيغريد» من منطوق اسم نهر دجلة في اللغة التشيكية، تخليدًا لذكرى دروس الجغرافيا والتاريخ التي كان يتلقّاها في المدرسة الابتدائية.
فيتسلاف رزونيك Vítězslav Rzounek (1921-2001): أكاديمي وناقد أدبي ماركسي تشيكي، ورئيس قسم الأدب التشيكي في كلية الآداب بجامعة تشارلز، اشتهر كممثل للتطبيع، وكان مسؤولًا عن إسكات عدد من الكتّاب والباحثين، وعن حملة الرقابة الشرسة التي شنّها النظام الستاليني ضد الأدب التشيكي المناهض له في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
جوزيف هرشال Josef Hiršal (1920-2003): كاتب وشاعر وروائي تشيكي، اُعتبر واحدًا من أهم شعراء التشيك التجريبيين؛ فبعد كتاباته السريالية المبكرة، انضم إلى مجموعة الفنانين حول جيري كولاتش الذي ظل صديقًا له طوال حياته، والذي شاركه نشر كتب الأطفال في الخمسينيات بعد أن مُنع من أي نوع من العمل أثناء الاحتلال السوفيتي لبلاده، وقد وقّع هرشال لاحقًا على ميثاق 77 في الستينيات، المناهض للحكم الشيوعي في التشيك.